يسود جدلٌ كبير في أروقة مراكز الفكر والدراسات بين الخبراء والمتخصِّصين حول الإستراتيجية، التي يتبنّاها النظام الإيراني في مرحلة ما بعد الخسائر الجيوسياسية، والتي مُنِيَت بها إيران في الشرق الأوسط، وإلى أين سيمضي النظام الإيراني في المنطقة، بعد الانهيارات التاريخية التي يتعرَّض لها ما يُسمَّى بـ «محور المقاومة»؟ هل سيطرح مقاربات جديدة بنّاءة تُعيد دمجه في النظامين الإقليمي والدولي، بما يضمن تحقيق المصالح والمنافع بشكلٍ مُتبادَل، في ظلّ التطوُّرات الجديدة والخسائر المالية والبشرية الضخمة، التي تسبَّب عدم إنفاقها على الداخل الإيراني في أوضاع معيشية صعبة للشعب الإيراني؟ أم سيتبنَّى النظام في إيران سياسة التكيُّف المرحلي والمراقبة عن بُعد لحين توافُر الفُرصة المواتية للعودة من جديد، وإعادة ترميم النفوذ الجيوسياسي في الساحات التي خسرتها إيران؟ أم أنَّه سيسعى إلى صُنّاعة الفُرصة المواتية ذاتها للتعجيل بالعودة إلى تلك الساحات الجيوسياسية، التي كبَّدتها خسائر مالية وبشرية هائلة؟
القراءة المتأنِّية للمنظومة الفكرية للنظام الإيراني ومبادئه وتوجُّهاته الراسخة في الدستور، عطفًا على حجم الخسائر المالية والبشرية الضخمة التي خسرها النظام، والتصريحات المتواترة لكبار رموزه ومسؤوليه السياسيين والعسكريين في مرحلة ما بعد الخسائر، التي تكبَّدتها إيران في المنطقة، تُشير إلى أنَّ النظام الإيراني يندرج ضمن الأنظمة السياسية المغلقة، غير القابلة لطرح المبادرات البنّاءة لوقف نزيف الخسائر والتطلُّع نحو تعزيز الفُرَص لتعويض ما خسرته، بصياغة سياسات جديدة مغايرة للسياسات التقليدية، التي جلبت الخسائر التاريخية. حيث لا يزال النظام يتمسَّك بمبادئه وتوجُّهاته الجيوسياسية، ويمضي بعيدًا عمّا اعتبره منظِّرون ضربة قوية لـ «محور المقاومة»، بتقليله من حجم الخسائر الإقليمية، وأنَّه أقرب إلى الاتّجاه نحو صُنّاعة الفُرصة المواتية للعودة لترميم النفوذ الجيوسياسي في سوريا ولبنان. والحديث هُنا يعود للمرشد علي خامنئي بعد سقوط نظام بشّار الأسد، بتأكيده على قوَّة «محور المقاومة»، وأن تلقِّيه الضربات لن تُضعِفه بل تزيده قوَّةً وصلابة وتعزِّزه أكثر ممّا مضى، وتوالي تصريحات كبار مسؤولي الدائرة المقرَّبة من خامنئي، الذين اعتبروا أنَّ السيطرة على سوريا لا تهزم إيران و«محور المقاومة».
يُدرِك صُنّاع القرار الإيرانيون صعوبة المرحلة للعودة في الوقت الراهن إلى الساحات، التي خسرتها بلادهم، وضرورة رُبّما تبنِّي سياسة «الكمون الإستراتيجي»، نتيجة تنامي هواجس النظام ذاته من أنَّ إمكانية الإطاحة به باتت أمرًا ممكنًا، كما يخشى النظام من تعزيز تأثير المتغيِّر الداخلي، بمشاهدة الإيرانيون بأعينهم كيف أنَّ الأموال الضخمة، التي قدَّمها النظام لمشروعات عبثية بناها على مدى عقود من الزمان أنهكته وأرهقت شعبه، تذهب سُدى في أيام قليلة للغاية. كما أنَّ المعادلات الجديدة في لبنان وسوريا، باتت مدعومة من قُوى إقليمية كُبرى بحجم تركيا والسعودية، ومتأثِّرة بالأمواج الإسرائيلية والأمريكية العاتية، بعد تمكُّن إسرائيل من إضعاف ما يُسمَّى بـ «محور المقاومة»، ووضع إيران أمام معادلة ردْعٍ جديدة رُبّما تجعلها في مرحلة دفاعية، بعدما ظلَّت لسنوات في حالة هجومية. والأبرز من تلك المتغيِّرات، هو بداية الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب، والمعروف بسياساته المتشدِّدة ضدّ إيران، والذي أعاد العمل بإستراتيجية الضغوط القصوى ضدّها، وربطها بين قبولها العودة للاتفاق النووي وتوجُّس نظامها من القصف الأمريكي، مع التطوُّر المهم على الساحة الدولية بالتقارب الأمريكي-الروسي، وتأكيد الرئيس ترامب على لقاء يجمعه بنظيره الروسي في الرياض لوقف الحرب الروسية-الأوكرانية، والذي يقلِّل بالطبع من أولوية إيران في الإستراتيجية الروسية حال إيقاف الحرب، لكن لا يعني ذلك أنَّ إيران ستقِف مكتوفة اليدين معصوبة العينين في المنطقة.
تُفيد التصريحات والتحرُّكات الإيرانية الراهنة، بأنَّ الإستراتيجية المناسبة إيرانيًا للمعادلة الإقليمية والدولية الراهنة، تتمحور حول ثلاثة أهداف: الحفاظ على النظام الإيراني كأولوية أولى، ثمَّ الحفاظ على بقايا المشروع الجيوسياسي كأولوية ثانية، ثمَّ تعزيز شروط العودة للاتفاق النووي في المفاوضات المُحتمَلة في ظل الخسائر الإقليمية كأولوية ثالثة، وذلك من خلال مجموعة من السياسات والتوجُّهات، التي ينبغي إدراكها وكيفية مواجهتها ومجابهتها، للحيلولة دون تحقيق أغراضها. وقد تجلَّت معالم تلك السياسات والتوجُّهات بشكلٍ أكثر وضوحًا، في حديث مساعد الرئيس للشؤون الإستراتيجية محمد جواد ظريف، أثناء مشاركته في جلسة بعنوان: «آفاق التطوُّرات الإقليمية والعالمية في عهد ترامب»، التي عُقِدت في معهد الدراسات الإيرانية والأوراسية «إيراس»، في الخامس والعشرين من يناير 2025م، على النحو التالي:
1. افتعال الفوضى والأزمات في الساحتين السورية واللبنانية: هدفٌ رئيس لإيران خلال المرحلة الراهنة، يجب اليقظة والتنبُّه له، وكان واضحًا من حديث ظريف، عندما قال إنَّه على المدَّعين في الغرب الأوربي والأمريكي وفي إسرائيل بأنَّ إيران في أضعف حالاتها، ألّا يتحدَّثوا بعد ذلك عن أنَّ إيران زعزعت السلام في الشرق الأوسط؛ لأنَّها حسب تقديراتهم باتت غير قادرة على القيام بذلك. هذا الحديث يتطابق مع حديث المرشد بعد سقوط نظام الأسد، وتوقُّعه بعدم الاستقرار في سوريا، وبخروج مجموعة وصفها بـ «القُوى الشريفة» من السوريين للسيطرة على المشهد، وتصريحات قائد الحرس الثوري حسين سلامي في فبراير 2025م، بأنَّ الوضع في سوريا لن يستمِرّ، وتوجيه أبرز المقرَّبين من إيران بالعراق؛ زعيم «ائتلاف دولة القانون» نور المالكي، الذي كان مؤيِّدًا مستميتًا لبشّار الأسد، الانتقادات الحادَّة للإدارة السورية الجديدة، واصفًا إيّاها بالعجز عن إدارة بلد متنوِّع الأعراق والمذاهب مثل سوريا، مطالبًا بالوقوف في وجه من يحاولون استنساخ تجربة النظام السوري في العراق، زاعمًا بأنَّ من وصفهم بالطائفيين والبعثيين يتحرَّكون للسيطرة على المشهد، مضيفًا بأنَّه «ما دُمنا موجودون والسلاح بيدنا؛ فسيندمون». وكل تلك التصريحات تحمل توجُّهًا إيرانيًا على المُضي في سياسة افتعال الأزمات، في سوريا ولبنان.
عدم الاستقرار في الدولتين السورية واللبنانية، سيشغل كافَّة الأطراف الإقليمية والدولية عن النظام الإيراني، ثمَّ عن مخلب إيران المتبقِّي في العراق؛ الحشد الشعبي، ويُتيح لها استمرارية المتنفَّس العراقي للالتفاف على إستراتيجية الضغوط القصوى الأمريكية، حيث إنَّ الاستقرار في سوريا ولبنان معناه في العقلية الإيرانية اتّجاه الأنظار الإقليمية والدولية نحو النظام ذاته والعراق، باعتبارهما هدفين تاليين. لذلك، يُتوقَّع أن تمضي إيران في سياسة افتعال الأزمات -قاعدة ذهبية سبق أن وردت على لسان وزير الخارجية الأسبق منوشهر متقي في فترة حُكم محمود أحمدي نجاد- وتعقيدها بواسطة مخالبها وخلاياها النائمة المُحتمَلة في سوريا، وعلاقاتها مع قوّات عفرين أو القوّات الميليشياوية، التي فرَّت من سوريا بعد رحيل الأسد والمكوَّنة من المقاتلين الموالين للأسد وكبار ضبّاطه، التي تحدَّثت الكثير من التقارير عن مرابطتهم قُرب الحدود العراقية-الإيرانية انتظارًا للفُرَصة المواتية، وغيرها من الأدوات، التي تعقِّد الحسابات وتفاقِم الصراعات أمام الإدارة السورية الجديدة. وكذلك الأمر في لبنان؛ إذ ستستمِرّ سياسة افتعال الأزمات من أتفه الأمور، مثل احتجاج أنصار «حزب الله» اللبناني ضدّ منع السلطات اللبنانية استقبال طائرة إيرانية في مطار بيروت.
2. التفكير في سياسة عقد الصفقات مع إدارة ترامب: على الرغم من التصريحات، التي أدلى بها المرشد صراحةً بعدم جدوى مسار المفاوضات، ودعوته إلى تطوير البرنامج الصاروخي المثير للجدل، والإعلان عن حاملة الطائرات المسيَّرة «باقري» التابعة للقوّات البحرية في الحرس الثوري، عقِبَ توقيع الرئيس ترامب قرار عودة العمل بإستراتيجية الضغوط القصوى ضدّ إيران، ووصفه إيران بالمذعورة، مبديًا توقُّعه بأنَّ طهران تريد التوصُّل لاتفاق بشأن برنامجها النووي لتجنُّب قصفها. غير أنَّها تصريحات رُبّما تبدو تكتيكية وليست إستراتيجية، تأتي في سياق المساومة والمناورة والتصعيد المضاد، لرفع السقف والتظاهر بالرفض، لكن في حقيقة الأمر، لا يمكن تجاهُل تأثير الأوراق المهمَّة، التي فقدتها إيران في الشرق الأوسط بخسارتها سوريا ولبنان على موقفها من المفاوضات النووية، وإعطاء خامنئي الضوء الأخضر في السابق للرئاسة للدخول في مفاوضات مع الغرب.
لا يزال حديث ظريف عن إمكانية عقد صفقة مع ترامب له دلالاته وأهدافه، حيث إنَّ العقليات ذات الأبعاد البراغماتية المُطلَقة، مثل عقلية الرئيس ترامب، يمكن تغييرها وتطويعها بموجب سياسة الصفقة، حيث لا تعنيها سوى المكاسب المادِّية، ويمكنها التراجع عن مواقفها السياسية، فالفيصل عادةً ما يكون حجم المكسب من الصفقات، بقوله: «عقل ترامب يمكن تغييره، وليس صحيحًا أنَّه على سبيل المثال، مفكِّر في العلاقات الدولية لديه نظرية راسخة، مفادها أنَّه لا يمكن تغيير أيّ شيء في عقله. ولا يملك ترامب عقلية ثابتة في هذا الصدد، وهو مستعِدّ لتغيير بعض نماذجه اعتمادًا على الظروف، التي يجِد نفسه فيها في الوقت الحالي».
كما يرى ظريف أنَّ الرئيس ترامب رُبّما لم يصِل بعد إلى قناعة تامَّة، بأنَّ إيران تتحرَّك نحو امتلاك سلاح نووي في الوقت الراهن، أو رُبّما يقوده الاعتقاد إلى أنَّه في مثل هذه الظروف من الأفضل منع الخطر من خلال عقد صفقة مع إيران؛ ما من شأنه في المقابل أن يُعطي إيران بالبُعد البراغماتي، إمكانية الأولوية بالدخول في المفاوضات، حال عرضت الولايات المتحدة ذلك.
3. التربُّص والتخفِّي والتظاهر بسياسة حُسن الجوار: تُعَدُّ إيران بالنسبة للمعادلتين السورية واللبنانية الجديدتين، قوَّة متربِّصة تنتظر وتتحيَّن الفُرصة المواتية للعودة إليهما، وتُجيد إيران سياسة النفس الطويل، ولذلك ستفعل إيران في ظل المرحلة الراهنة مجدَّدًا سياسة «الأفعى المخادعة – أفعى الذيل العنكبوتي» المنتشرة في جبال إيران الصخرية، والتي لديها القُدرة العالية على التخفِّي في اصطياد فرائسها بلونها الصخري وذيلها العنكبوتي المخادع، بجانب افتعال الأزمات، بالتخفِّي والتظاهر بسياسة التقرُّب من دول الجوار والأطراف الدولية المناهضة، وتوالي تصريحاتها الإيجابية، وإبداء الرغبة في تعزيز التعاون مع الدول الإقليمية، سواءً التي كانت مناهضة للمشروع الإيراني في السابق ووقَّعت معها اتفاقات مصالحة، أو الراغبة في التعاون معها، وحتى مع قادة المعادلة الجديدة في سوريا، لكنَّها تخفي مآربها الحقيقية، وهُنا نعود لنذكِّر بالتجارب السابقة، عندما كانت إيران تُبدي علاقاتها الإيجابية مع الدول العربية، في حين شاركت بل وشجَّعت على احتلال جارها الغربي؛ العراق، مطلع الألفية الثالثة، وتواطأت على إشعال الفوضى والأزمات فيه، في أكثر من مرحلة، وتعاونت مع العديد من التنظيمات المتناقضة معها عقديًا وسياسيًا في كثير من المراحل، مثل تنظيمي «القاعدة وداعش» وغيرهما، كما رأينا كيف أنَّ إيران دعمت الحكومة الأفغانية وحركة «طالبان» في الوقت نفسه في مرحلة معينة، وحتى في كينيا دعمت المتمرِّدين والجيش في آنٍ واحد.
توجُّه المناورة والتخفِّي وراء الأهداف الحقيقية، خلال المرحلة الراهنة وعلى المدى المنظور، واضح للغاية في حديث ظريف، بقوله: «نحنُ لا نحتاج إلى إقامة علاقات ودِّية مع أمريكا، لكنَّنا بحاجة إلى أن نفعل شيئًا، إذ إنَّه عندما يُقيم الآخرون علاقات معنا، لا يشعرون بأنَّهم مضطرُّون للصراع مع أمريكا؛ لأنَّهم في هذه الحالة لن يختارونا، كما نرى الآن أنَّهم لا يفعلون هذا الأمر»؛ ما يعني إدراكًا من ظريف بضرورة التحوُّل المؤقَّت والحتمي في السياسة الخارجية الإيرانية، من بُعدها الأيديولوجي إلى البُعد البراغماتي المرِن، لكسب الأطراف الإقليمية والدولية، التي تخشى من البُعد الأيديولوجي في السياسة الإيرانية، وظلَّت لفترات طويلة تُعادي إيران، بل وتواجهها وتحشد ضدّها؛ نتيجة عدم مرونتها وموازنتها بين البُعدين الأيديولوجي والبراغماتي.
وختامًا، لا تعني التوجُّهات الإيرانية القائمة على افتعال الأزمات والمساومات البراغماتية الراهنة والمُحتمَلة، تحوُّلات إستراتيجية في السياسة الإيرانية، بل تكتيكية مرحلية تمثِّل انحناءة للتطوُّرات الإقليمية، لكنَّها تستدعي من الأطراف الإقليمية الداعمة للمعادلات الجديدة في سوريا ولبنان ضرورة مجابهتها ومواجهتها، بأدوات مبتكرة تجعل إيران في خانة ردّ الفعل وعدم القُدرة على الفعل، من خلال متابعة مستمِرَّة للسياسات الإيرانية وإدراك أهدافها، وتفويت الفُرَص، وإغلاق النوافذ عليها في الساحتين السورية واللبنانية، عبر الدفع نحو تحقيق الاستقرار فيها. فكُلَّما استقرَّت الساحتان، اتّجهت الأنظار نحو النظام الإيراني وساحاته الجيوسياسية المتبقِّية، كما أنَّ بناء نماذج تنموية في سوريا ولبنان تُطيل من أمد الأنظمة الجديدة، والاتّجاه نحو تحريك سياسات في العراق ولبنان من شأنهما ردْع إيران، مثل تكثيف المطالبات بضرورة سيطرة الدولتين العراقية والسورية للسلاح، حيث إنَّ نجاح مسألة احتكار الدولة اللبنانية للسلاح سيقصم ظهر المشروع الإيراني؛ لكونه سيسحب بندقية إيران في لبنان، ويدفع نحو خطواتٍ مماثلة في العراق، بتقليم المخلب الإيراني في العراق، عبر حل الميليشيات المنفلِتة والحشد الشعبي المدعومين من إيران، وإعادة دمجهما في الجيش العراقي بشكلٍ فردي، وبصورة كاملة وليس كجيشٍ موازٍ.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد