ليس خفيًّا على أحد أن النِّظام السياسي في إيران يتبنى استراتيجية سياسية واضحة المعالَم، يسعى من خلالها للتوسُّع وتعزيز نفوذه ونشر آيديولوجيته خارج حدوده الجغرافية، وأن الدول العربية والإسلامية هي المستهدف الأول لهذه الاستراتيجية، وبغية تحقيق هذه الغاية يعمد النِّظام إلى استخدام وسائل مختلفة، عسكرية وسياسية، إلا أن النِّظام الإيرانيّ يرى في ثلاثية «الثقافة والإعلام والاستخبارات» أداة فعَّالة تمهِّد الطريق لتحقيق طموحاته، عبر السعي لكسب قلوب وعقول أبناء الشعوب في الشرق الأوسط، وما هو أبعد من ذلك، لهذا فإنه يستثمر جهودًا كبيرة وأموالًا كثيرة في هذا المجال، ومن أجل تحقيق ما يرنو إليه يبذل النِّظام الإيرانيّ مبالغ طائلة لتشغيل ماكينته الإعلامية في الداخل والخارج، فلهيئة الإذاعة والتليفزيون الإيرانيَّة مثلًا 21 مكتبًا إعلاميًّا في بعض عواصم العالَم العربي، بالإضافة إلى بلدان عربية وإسلامية أخرى، كما أن لديها 30 قناة فضائيَّة تبثّ برامجها على مدار الساعة، ويوميًّا، من خلال 12 قمرًا صناعيًّا أجنبيًّا، بالإضافة إلى 13 محطَّة إذاعية تبثّ برامجها يوميًّا دون انقطاع إلى أنحاء العالَم كافةً بمختلِف اللغات، وأهمّها الإنجليزية والفرنسية والعربية والروسية والإسبانية والتركية والكردية والأُردية، ناهيك ببرامج بلغات إفريقية من قبيل الهوسا والسواحيلي[1]، إلى جانب المحطات الإذاعية التي تعمل على الشاكلة نفسها.
ويكتسب الإعلام الإيرانيّ أهمِّيَّة كبرى، سواء لجهة نشر الرسائل وتعضيد السياسات، أو في العمل ضدّ الخطط التي ينفِّذها بعض القوى الإقليمية والدولية، لاستهداف الدولة أو النِّظام في طهران، فالإعلام إحدى أهمّ وسائل القوة الناعمة، وتمتلك إيران ماكينة إعلامية هي الكبرى على مستوى المنطقة، وواحدة من أكبر الإمبراطوريات الإعلامية في منطقة آسيا-المحيط الهادئ والعالَم-، وتوجد هيئة رسميَّة يشرف عليها المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانيَّة، هي التي تحدِّد وتراقب تنفيذ السياسات الإعلامية لجميع المحطات التليفزيونية وإذاعات الراديو في إيران، وفق السياسات العامَّة للدولة، وهي وكالة «بَثّ الجمهورية الإسلامية الإيرانيَّة» [IRIB [2، وهذه الهيئة ترتبط بعدد من الوزارات والهيئات الحكومية الأخرى، منها وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانيّ، إلى جانب وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، التي تتشارك معًا في عملية التحكُّم في نوعية الأخبار المنشورة، أو السيطرة على الصحافة المرئية، أو حتى في عمليات التضليل الإعلامي والدعاية المضادَّة.
منذ تأسيس الجمهورية الإيرانيَّة كثورة آيديولوجية، بدأت تُستخدم بفاعلية أدوات القوة الثقافية، ولتصدير مفهوم الثورة تحت أسماء مختلفة، يجب أولًا أن تصل إلى عقول الشعب المستهدَف، لذلك فإن الدبلوماسيين الإيرانيّين هم أكثر انفتاحًا مع شعوب المنطقة، تحديدًا في النشاطات المجتمعية والثقافية التي تُعتبر عماد القوة الناعمة الإيرانيَّة، إذ يستخدم الدبلوماسيون الإيرانيّون كل الأدوات المتاحة لخلق صورة إيجابية عن إيران في العواصم التي تقع فيها السفارات الإيرانيَّة، فهناك ممثلون ثقافيون ومسؤولون عن الدبلوماسية العامَّة، وهذا دليل على أن صانع القرار في إيران يخطِّط لهذه الدبلوماسية بدقَّة وتنظيم.
وبعد ثورة 1979 غُيِّر اسم وزارة «الإعلام والسياحة» إلى وزارة «الإرشاد القومي»، وبعد ذلك بعامين أصبح يُطلَق عليها وزارة «التوجيه الإسلامي»، كما أن وزارة الثقافة هي الأخرى أُدمِجَت في وزارة التوجيه، وفي عام 1987 تحولت وزارة التوجيه إلى وزارة «الثقافة والإرشاد الإسلامي»، التي تتكون من الأقسام الآتية:
• قسم إدارة الصحافة والإعلام الأجنبي.
• مكتب العلاقات الصحفية.
• العلاقات العامَّة.
• مكتب البحوث الثقافية.
• مؤسَّسة الحج.
• المجلس الأعلى الإيرانيّ للثورة الثقافية.
• منظَّمة التراث الثقافي الإيرانيّ.
• منظَّمة الثقافة والعلاقات الإسلامية.
• شبكة المساجد الإيرانيَّة.
كل هذه المؤسَّسات تعمل في الداخل والخارج الإيرانيّ، وتنسِّق بين هذه المؤسَّسات مؤسَّسةُ الثقافة والتبليغ الإسلامي بالتعاون مع وزارة الاستخبارات والخارجية الإيرانيَّة.
فإلى جانب العمليات التي تنفِّذها وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانيَّة في الترويج الإعلامي والثقافي، تشارك أيضًا في عمليات التضليل الإعلامي، إذ إن أكبر قسم داخل الوزارة هو قسم التضليل، الذي يُطلَق عليه بالفارسيَّة “نفاق”، ويُستخدم هذا القسم في عمليات الحرب النفسية والتضليل الإعلامي والدعائي ضدّ أعداء الجمهورية «الإسلامية»، كما يوظِّف هذا القسم الحرب النفسية من أجل التلاعب في وسائل الإعلام والأجهزة الاستخبارية الأجنبية، التي تسعى للحصول على معلومات حول الأجهزة المخابراتية الإيرانيَّة أو القدرات العسكرية الإيرانيَّة، ولكن من غير الواضح تمامًا مكان وجود هذا القسم في وزارة الاستخبارات، إلا أن من المؤكّد أن هذا القسم ينشر ويشرف على 80-90% من الأخبار التي تُنشر في الصحف والمواقع الرسميَّة الإيرانيَّة، فوزير الاستخبارات الإيرانيّ السابق علي يونسي، ذكر في مقابلة مع التليفزيون الرسميّ الإيرانيّ في أكتوبر 2004، أن قسم التضليل في وزارة الاستخبارات الإيرانيَّة، قد استنزفها، غذ استأجرت إيران آلاف الوكلاء، بمن فيهم أعضاء من منظَّمة مجاهدي خلق الإيرانيَّة السابقين، لتعزيز قوة وفاعلية الجهد الاستخباراتي الإيرانيّ[3].
وفي ما يتعلق بالإنترنت، فعلى مدى السنوات العشر الماضية بذلت وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانيَّة بالتعاون مع وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، بالإضافة إلى المجموعة الرسميَّة للبَثّ التليفزيوني الإيرانيّ IRIB، جهودا كبيرة للسيطرة على موضوع وصول الإيرانيّين إلى الإنترنت، خصوصًا في إطار مشروع «الإنترنت الحلال» الذي تديره وزارة الاستخبارات، وتتحكم فيه كيفما تشاء، إذ أسهم تَعرُّض إيران لعديد من التهديدات السيبرانية الداخلية والخارجية، في تَحوُّلها نحو تدعيم قدراتها السيبرانية الدفاعية والهجومية بقوة وكثافة غير مسبوقة، للحفاظ على استقرار النِّظام الداخلي، وتأمين البنية التحتية الحيوية للدولة، خصوصًا منذ عام 2009.
ولا ينكر أحد أن إيران حققت تَقدُّمًا نوعيًّا واضحًا في الإمكانيات التكنولوجية والقدرات التشغيلية للإنترنت، سواء في الداخل، أو في القدرات الهجومية الموجهة إلى الخارج، وقد جعلتها تلك الإمكانيات تدخل ضمن أقوى 5 دول إلكترونيًّا في العالَم، بعد الولايات المتَّحدة والصين، وقد أثبتت الشواهد خلال السنوات الممتدة من 2009 إلى 2015، أن إيران أصبحت قادرة على الوصول إلى أهداف بعيدة المدى في أنظمة الدول الغربية، وتدميرها. هذا لا ينفي كونها ما زالت لا تمتلك المعرفة أو الوسائل التي تُمكِّنها من تنفيذ هجمات استراتيجية سيبرانية متكاملة، فقد أسست إيران عددًا من الهيئات الداخلية لتعزيز قدراتها السيبرانية، سواء الهجومية أو الدفاعية، وكان من أبرز تلك الهيئات: «المجلس الأعلى للفضاء السيبراني» الذي يُعَدّ الجهة الأعلى في هذا الإطار، لأنه يضم مسؤولين رفيعي المستوى، بدايةً من رئيس الدولة مرورًا بوزراء الاتصالات والثقافة والعلوم، ومسؤولين من أجهزة الأمن والاستخبارات والقضاء والبرلمان وغيرهم، ويهتمّ المجلس أساسًا بتنسيق الجهود للدفاع والهجوم السيبراني، وإعداد السياسات العامَّة التي يجب على جميع المؤسَّسات المعنية بالفضاء السيبراني تنفيذها[4].
بالإضافة إلى هذا عملت إيران على إنشاء عديد من الجيوش الإلكترونية في داخل وخارج إيران، التي تعمل جميعها ضمن السياسات العامَّة التي يضعها المجلس الأعلى للفضاء السيبراني، ومن أبرزها الجيش الإلكتروني الإيرانيّ، وجيش الباسيج الإلكتروني، والجيش السوري الإلكتروني، وكتائب القسام، وغيرها، التي نفذت عديدًا من الهجمات السيبرانية في الولايات المتَّحدة والمملكة العربية السعوديَّة وإسرائيل وغيرها، والتي كان آخرها الهجمات التي شنَّتها كتائب القسام الإلكترونية على بعض المواقع الأمريكيَّة في يوم 8 أبريل 2018، ردًّا على هجمات الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة على بعض المواقع الإيرانيَّة قبلها بيوم، إلى جانب الدور الذي لعبته وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانيَّة، في حجب عديد من المواقع الإلكترونية الإيرانيَّة منذ عام 2009 حتى اليوم، والتي تأتي جميعها ضمن إجراءات احترازية تتَّخِذها وزارة الاستخبارات، للحفاظ على سلامة النِّظام السياسي كما تدَّعِي، والتي كان آخرها جهودها في حجب خدمة تليغرم عن الداخل الإيرانيّ، والاستعاضة عنه بتطبيق «سورش» الذي تراقبه بصورة دقيقة.
كذلك تتولَّى وزارة الاستخبارات متابعة القنوات التليفزيونية التي تبثّ أخبارًا أو آراءً دينية تتناقض مع توجُّهات الجمهورية “الإسلامية”، كما تحاول السيطرة على الأخبار المحلية والأجنبية، والضغط على الصحفيين في إيران، فعلى سبيل المثال طلبت وزارة الاستخبارات من الحكومة الإيرانيَّة الحَدّ من وجود الصحفيين الأجانب في إيران، كما طالبت بالسيطرة عليهم في أثناء وجودهم في إيران، تحديدًا في أثناء الأحداث والمناسبات الوطنية، إذ تحذِّر وزارة الاستخبارات الحكومة الإيرانيَّة من أن وجود الصحفيين الأجانب يشكِّل مشكلة كبيرة على الأمن الداخلي الإيرانيّ، محذِّرة من تكرار سيناريو الأحداث التي شهدتها إيران خلال الانتخابات الرئاسية عام 2009، والدور الذي لعبه الصحفيون الأجانب في تلك الفترة، من خلال كشف إجراءات الأجهزة الأمنية الإيرانيَّة للرأي العامّ الدولي، والتي حظِيَت بتغطية واسعة لجميع إنحاء العالَم.
إجمالًا يمكن القول إن التداخل القوي الذي يربط كثيرًا من الوسائل الإعلامية بالجهد الاستخباري في إيران، كان له علاقة خاصَّة في إيران، فنجد أن «وزارة الإعلام – وزارة الثقافة والإرشاد لإسلامي – وزارة الاستخبارات» تمثِّل رأس الحربة للمرشد الإيرانيّ علي خامنئي في حربه المستمرة مع العالَم الخارجي، ففي الوقت الذي تقدِّم فيه وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي المفردات الخطابية والثورية المؤثرة، يأتي دور وسائل الإعلام لترويجها على شكل موادَّ إعلامية وخبرية، وأخيرًا يأتي دور وزارة الاستخبارات في حشد الموارد المادية والمعنوية من أجل وضعها موضع التنفيذ.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد