يريد ولي الفقيه، علي خامنئي، أن يموت مير حسين موسوي في الإقامة الجبرية، لكنه لا يموت، ومع أنّ هذا التعبير يبدو مرّاً ومحزناً، إلا أنه حقيقة واضحة وسرّ مكتوم، ألقى بظلاله على السياسة الإيرانية منذ إصدار قرار فرض الإقامة الجبرية على آخر رئيس وزراء في إيران، ويمكن قول نفس العبارة في ما يخص “زهرا رهنورد” و”مهدي كروبي”، لكن لن يكون لها نفس التأثير والأهمية.
إن فرض الإقامة الجبرية على المعارضين ليس بالأمر الغريب في إيران، فمنذ قرون طويلة انتهج الملوك والسلاطين سياسة فرض الإقامة الجبرية على المعارضين في بيوتهم، أو سجنهم في المنفى لإسكاتهم، ويمكن الاستدلال بكثير من الأمثلة على ذلك من تاريخ إيران، وأقربها إلى تاريخنا فرض الإقامة الجبرية على ميرزا تقي خان فراهاني الملقب بـ “أمير كبير” رئيس الوزراء (1807 – 1852) في عهد ناصر الدين شاه القاجاري (1831-1896) في منطقة فين التابعة لمدينة كاشان.
إنّ الأمثلة على فرض الإقامة الجبرية على المعارضين والمخالفين في الفكر في عهد ناصر الدين كثيرة، ومنها كذلك ما حدث لـ “طاهرة قرة العين” إبّان الثورة البابية (1850)، فبعد قمع الثورة، تمّ اعتقالها وفرض الإقامة الجبرية عليها مدة ثلاث سنوات.
وفي التاريخ المعاصر، يمكن الإشارة إلى فرض الإقامة الجبرية من قبل رضا شاه البهلوي، والد شاه إيران الأخير، علي سيد حسن مدرّس، حيث فُرضت الإقامة الجبرية على الأخير في مدينة “خواف” ومن ثمّ في “كاشمر”، كما قام محمد رضا شاه بنفي رئيس الوزراء “محمد مصدق” إلى قلعة “أحمد آباد” وبقي فيها تحت المراقبة إلى آخر العمر، وكان مصدق، حسب تعبيره، يتمنى الموت كلّ يوم.
واستمرت سياسة فرض الإقامة الجبرية على المعارضين بعد قيام “الجمهورية الإسلامية”، ويمكن الإشارة إلى الكثير من الأمثلة على ذلك خلال الأعوام الـ 38 المنصرمة، الأمر الذي يكشف أنّ فرض الإقامة الجبرية هي إحدى أنجع الحيل السياسية بيد قادة النظام الإيراني، ومن هذه الأمثلة:
» محمد صادق روحاني من رجال الدين المعارضين للشاه، اعترض بعد الثورة “الإسلامية”، وتحديداً في عام 1985، على آلية تعيين حسين علي منتظري، بصفته نائباً للخميني، في مجلس الخبراء، ففُرضت عليه الإقامة الجبرية، وتمّ الإفراج عنه عام 1991.
» نور الدين كيانوري، الأمين العام لحزب “توده” الإيراني، تم اعتقاله عام 1982، وبعد سنوات من السجن والتعذيب، أُفرج عنه، ووُضع رهن الإقامة الجبرية، والمراقبة المباشرة من استخبارات الحرس الثوري حتى مات عام 1999.
» آية الله سيد محمد كاظم الشريعتمداري، مكث قيد الإقامة الجبرية من عام 1982 إلى عام 1986.
» آيت الله سيد محمد الشيرازي من عام 1980 حتى عام 2001.
» آية الله سيد حسن طباطبائي القمّي، من عام 1980 حتى عام 1996.
» آية الله حسين علي منتظري، فرضت عليه الإقامة الجبرية بأمر مباشر من خامنئي عام 1997، واستمرّت حتى عام 2002.
إنّ تجربة فرض الإقامة الجبرية على منتظري ثبّتت دعائم سلطة الخامنئي طويلاً، وأقدم خامنئي على فرض الإقامة الجبرية على أستاذه (منتظري) عندما كان الإصلاحيون تربعوا على عرش السلطة، وكان بإمكان التحركات السياسية لمنتظري، الذي كان له تأثير كبير على مقلّديه الكُثر، أن يسرّع من الحركة المتنامية للإصلاحيين المعارضين لخامنئي.
لكن السنوات الست التي قضاها منتظري في الإقامة الجبرية ساهمت في تباطؤ عجلة الإصلاح التي كانت في طريقها إلى مصادرة جميع أنواع السلطة في إيران بين عامي 1997 و2005، وتحرر منتظري من الإقامة الجبرية حين تيقّن خامنئي أن الإصلاحيين في طريقهم إلى الزوال.
ربما كان خامنئي يعتقد في عام 2010 أثناء إصداره قرار فرض الإقامة الجبرية على قادة الحركة الخضراء، أكثر معارضيه خطورة، أنه في هذه المرة أيضاً يمكنه بذلك التغلب على أزمة مظاهرات عام 2009، لكن يبدو أنّ استراتيجيته، بجانب المقربين منه، لم تؤد النتيجة التي كانوا يتوقعونها من عملية فرض الإقامة الجبرية، خاصة على مير حسين موسوي.
♦ استراتيجية النسيان
“إسكات المعارضين”، هي الوظيفة الرئيسية لاستراتيجية فرض الإقامة الجبرية في الأنظمة الاستبدادية، ويلعب عنصر “الزمن” الدور الرئيسي في تنفيذ هذه الاستراتيجية.
قبل حادثة فرض الإقامة الجبرية على قادة الحركة الخضراء، كان مرور الزمان يؤدي إلى أن تنسى الجماهير، وبذلك كان الملوك والسلاطين يتمكنون من كسب الوقت لترميم بنيتهم السياسية وتشجيع أنصارهم.
يبدو أنّ هذه الاستراتيجية هي التفسير الوحيد لفرض الإقامة الجبرية على قادة الحركة الخضراء؛ إسكات المعترضين على نتائج انتخابات 2009، وكسب الوقت، وتعليق مطالب الحركة الخضراء الذي سيؤدي في النهاية إلى نسيانها.
قبل أيام من فرض الإقامة الجبرية على مير حسين موسوي، وزهرا رهنورد، ومهدي كروبي، أزاح أحمد جنتي، أمين مجلس صيانة الدستور وإحدى الشخصيات السياسية المقربة من خامنئي، الستار عن استراتيجية “النظام” الجديدة في مواجهة مير حسين موسوي، حين قال في خطبة الجمعة في الثامن عشر من فبراير عام 2011: “ما يمكن للسلطة القضائية فعله، وما أتوقع أنهم يفكرون بفعله، هو قطع علاقة هؤلاء بالناس بشكل كامل، يجب أن تُغلق أبواب منازلهم، وأن تصبح تحركاتهم محدودة، وألا يتمكنوا من تبادل الرسائل مع الخارج، كما يجب فصل هواتفهم، وقطع الإنترنت عنهم، يجب حبسهم في منازلهم”.
ومع ذلك، لم يؤدّ فرض الإقامة الجبرية على هؤلاء إلى “إسكاتهم”، ولم يُنجز عنصر “الزمن” المطلوب منه في عملية “النسيان الجماعي”، بل على العكس من ذلك، أدى إلى تزايد المطالب وارتفاع أصوات المعارضين.
يمكن الإشارة إلى أمثلة وحوادث كثيرة لإثبات هذا الادعاء، ومن أهمها وأبرزها انتخاب حسن روحاني رئيساً للجمهورية عام 2013، ورضخ خامنئي لتنفيذ حكم رئاسة روحاني في حين كان حذف منافسه السياسي الأساسي، هاشمي رفسنجاني، عن طريق “رفض أهليته”.
ومع ذلك، جلس حسن روحاني، الذي يشير تاريخه السياسي إلى أنه محسوب على التيار المحافظ المعتدل على كرسي الرئاسة ماسكاً بيده بمفتاح، ورافعاً شعار “فك الحصار ورفع العقوبات”، في حين كان مناصروه يحتفلون بنصرهم في الشوارع رافعين صور مير حسين موسوي ومهدي كروبي.
بعد مرور ثلاث سنوات على ذلك اليوم، وعلى الرغم من الانتهاء من ملف المفاوضات النووية مع الغرب، إلا أن استراتيجية “فرض الإقامة الجبرية” ما زالت تلقي بظلالها على سياسة إيران، وعلى الأخص على حكومة روحاني.
على الرغم من أنّ مفتاح روحاني لم يتمكن من فتح باب منزل من هم قيد الإقامة الجبرية، لكنّه نبّه الرأي العام إلى أنّ مسؤولية فرض الإقامة الجبرية تقع على عاتق “الشخص رقم واحد في الدولة”.
بعد 2000 يوم من فرض الإقامة الجبرية على مير حسين موسوي، وزوجته زهرا رهنورد، ومهدي كروبي، لم تثمر مساعي معارضي الحركة الخضراء (في الداخل والخارج)، ولم تنجح في إقناع الرأي العام بأن “الحركة الخضراء ماتت”، بل لم يمر يوم إلا وتذكر الناس فيه الحركة الخضراء وقادتها رهن الإقامة الجبرية في الدوائر السياسية، أو في المجالس، أو خلال الأحداث السياسية.
والدليل الأخير على هذا الادعاء هو ما حدث خلال لقاء الخامنئي مع مجموعة من الطلبة “المختارين”، عندما تهرّب خامنئي، منفعلاً، من الإجابة على سؤال محمد علي كامفيروزي، ولم يبد استعداداً لتقديم حل للخروج من المأزق السياسي الناتج عن فرض الإقامة الجبرية على قادة الحركة الخضراء.
♦ تبدُّدُ حُلُم
لم يتحقق حتى الآن حلم “النسيان” الناتج عن إسكات صوت قادة الحركة الخضراء بعد مرور 2000 يوم، ربما كان الخطأ الفادح الذي ارتكبه خامنئي ومستشاروه في هذه الاستراتيجية، هو تجاهل عنصر “المرحلة الزمنية” التي نعيش فيها، وتجاهل شبكات التواصل الاجتماعي، وأنّ وظيفة وسائل الإعلام تغيرت في زمن الاتصالات والمعلومات، لقد كان خطأ استراتيجياً ارتكبه خامنئي ومستشاروه حول مسألة “فرض الإقامة الجبرية”.
على الرغم من أن شبكات التواصل الاجتماعي في إيران تواجه العديد من القيود، إلا أنّ حياة هؤلاء الأفراد الناقصة انتزعت من النظام القدرة على توجيه الرأي العام تقريباً، ولم تعد سُفن الإعلام المسيطرة في إيران تسير كما يشتهي النظام، ولم تنجح استراتيجية الإسكات فحسب، بل إنّ سكوت هؤلاء يبدو اليوم مسموعاً أكثر من أي صوت آخر، ويكفي أن تتسّرب نقلاً عنهم جملة هنا أو هناك، حتى تملأ صورهم، وذكريات الحركة الخضراء ومظاهرات عام 2009 صفحات شبكات التواصل الاجتماعي من جديد.
لقد أصبح الوضع بالنسبة للحكومة، بهذا الخصوص، سيئاً لدرجة أنّ قيادات النظام وعلي خامنئي يفضلون أن تبقى الحالة الأمنية هي المسيطرة على الجوّ العام لكلّ الاجتماعات والتجمّعات والأحداث، رغم التكلفة المالية الباهظة التي يتطلبها ذلك.
فضلاً عن تجاهل القدرة التي تتمتع بها شبكات التواصل الاجتماعي، حيث ارتكب من دوّنوا سياسة فرض الإقامة الجبرية على قادة الحركة الخضراء بضعة أخطاء استراتيجية أخرى:
» تجاهل شخصية أحمدي نجاد غير الموثوق بها، وكذلك الثلّة التي تحيط به والمقربين منه.
» الفساد السياسي – الاقتصادي المترامي الأطراف لأحمدي نجاد وأتباعه.
» تأزّم الظروف الاقتصادية – الاجتماعية لإيران خلال السنوات الثماني من عهد أحمدي نجاد.
» فضح جانب من الانتهاكات المالية الواسعة وغير المسبوقة لأحمدي نجاد ورفاقه، والتساؤل حول دعم خامنئي السخي والشامل له، الأمر الذي شكك في مكانة ودراية رأس النظام.
» العقوبات السياسية – الاقتصادية الغربية المرهقة على إيران، وحاجة الدولة إلى إجماع داخلي قوي لمواجهة هذه العقوبات.
» عجز خامنئي عن مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية الهادفة، وتداعي جميع وعوده وشعاراته في هذا المجال.
» احتدام الصراع على السلطة الناتج عن تعمّق الفجوة السياسية بين مؤيدي ومعارضي الإقامة الجبرية في الصفوف الأولى في السياسة الإيرانية.
» عجز وسائل الإعلام الرسمية والحكومية عن إسكات أصوات المعترضين والداعمين لمير حسين موسوي ومهدي كرّوبي.
» عجز المعارضة المقيمة في الخارج عن فهم ماهية وحقيقة الحركة الخضراء، وفي النتيجة فشل الحكومة في أن تنسب هذه الحركة إلى هذه المعارضة.
» تحقق جميع توقعات مير حسين موسوي ومهدي كرّوبي حول فساد حكومة أحمدي نجاد المنتشر، وانعكاساته المؤسفة على الوضع المعيشي للناس.
فضلاً عن عوامل أخرى متنوعة جعلت من فرض الإقامة الجبرية على قادة الحركة الخضراء منشاراً ينشر جسد النظام السياسي – الاجتماعي الذي يُسمى “الجمهورية الإسلامية”، منشار أغلق جميع السبل في وجه من دوّنوا سياسة فرض الإقامة الجبرية، وكلّ حركة لهذا المنشار تؤدي إلى المزيد من القَطْع والمزيد من تعمّق الفجوة بين القوى السياسية الموجودة في ميدان السلطة واتخاذ القرار في السياسة الإيرانية.
تتسرب بين الحين والآخر أنباء غير رسمية عن حياة قادة الحركة الخضراء قيد الإقامة الجبرية، وتشير هذه الأنباء إلى فشل واضعي هذه السياسة في مفاوضاتهم مع المسجونين، الأمر الذي يشير إلى أنّ هؤلاء القادة على علمٍ “بالخطأ الاستراتيجي” الذي ارتكبه سجّانهم، وعلى علم بعدم مقدرته على الخروج من هذا الطريق المسدود الذي أوجده لنفسه.
♦ استراتيجية الموت في المحبس
لا يملك خامنئي المقدرة على تشكيل محكمة، ولا يمكنه محاكمة من يسميهم “رؤوس الفتنة” وإطلاق سراحهم شريطة سكوتهم، إنه يدرك تماماً ثِقْل هذا الحمل وخاصيّته “المنشارية”، وهو يدرك تماماً أنّ كلّ يوم يمرّ على قادة الحركة الخضراء في الإقامة الجبرية يزداد معه وزن الصخرة القابعة في قعر بئر السياسة الإيرانية، لهذا يريد خامنئي من مير حسين موسوي (وليس على الأقل زهرا رهنورد ومهدي كروبي) أن يموت، لكنه لا يموت، لقد فرض على مير حسين الإقامة الجبرية كي “يسكته”، لكنّ ذلك لم يتحقق، والآن، ربما يؤدي الإصرار على الاستمرار في سياسة فرض الإقامة الجبرية إلى تكرار ما آل إليه حال الدكتور محمد مصدق ونهضة تأميم صناعة النفط.
لا يتشابه جميع المستبدين في تفكيرهم وتصرّفهم، لكنّهم يتشابهون في مبدأهم وأسلوبهم، على الرغم من أن موت مصدّق وضع نهايةً لنهضة تأميم صناعة النفط في إيران، لكنها لم تكن نهاية لحركات تحرّر الإيرانيين، وهذا خطأ استراتيجي آخر ارتكبه خامنئي وجميع من خططوا لحادثة فرض الإقامة الجبرية على قادة الحركة الخضراء.
إنهم يريدون أن يبقى مير حسين موسوي، ومهدي كرّوبي، وزهرا رهنورد رهن الإقامة الجبرية حتى الموت، الأمر الذي من الممكن أن يؤدي إلى وضع نهاية للحركة الخضراء، لكنه من المؤكد لن يكون نهاية لحركة تحرر الإيرانيين.
إنّ بقاء موضوع “فرض الإقامة الجبرية” حيّاً، شاهدٌ، لا يمكن إنكاره، على هذه الحقيقة.
المصدر: إذاعة زمانه
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز