تَجَدَّد الحديث عن الشرعية الداخلية للتدخل الإيراني في سوريا ومدى رضا الإيرانيين عنه، وذلك بعدما عادت جثامين 7 عناصر من القادة والجنود كانوا لقوا مصرعهم في الهجوم الذي شنّته الطائرات الإسرائيلية على مطار تي فور العسكري في مدينة حمص السورية، حيث تتمركز القوات الإيرانية. والمثير أنّ من بين القتلى مسؤول قاعدة الطائرات المسيرة في سوريا العقيد في الحرس الثوري مهدي دهقان يزدلي، وهو ليس أول القيادات البارزة ولن يكون الأخير ممن تفقدهم إيران في سوريا.
والحقيقة أن النظام الإيراني لا يلقي بالًا بأعداد من يفقدهم في معاركه بقدر ما يعنيه استمرار عَجَلة الحرب، وذلك بغية الشحن والحشد المتواصل والتعبئة الداخلية من أجل الحفاظ على شرعيته المتآكلة والتغطية على فشل سياساته الداخلية غير الرشيدة، والتي جعلت الجماهير تخرج مطالبة بسقوط هذا النظام وتغيير رموزه.
ورغم ذلك تحرص السلطات والمؤسسات الرسمية على تجنُّب نشر أخبار الخسائر البشرية في سوريا حفاظًا على الروح المعنوية، فضلًا عن تجنّب مزيد من الإثارة بين الجماهير التي تتحفّظ على هذه الحرب من الأساس ولا ترى مبررًا جوهريًّا لدفع أبنائهم إليها، وذلك على خلاف الروح الكربلائية التي طالما استدعاها نظام الولي الفقيه منذ الثورة، من أجل بناء تأييد داخلي نابع من بثّ روح المظلومية والمؤامرة التي ما عادت تؤثر في نفوس الإيرانيين.
إنّ خطاب النظام التعبوي في هذه المعركة متهافت لدرجة كبيرة، ولا يلقى قبولًا سوى داخل حلقات التأييد الضيقة وبين بعض القطاعات والفئات الشعبية المرتبطة بالنظام، والتي تدين بالولاء للولي الفقيه، بينما القطاعات الشعبية غير المؤدلجة لم تعُد على اقتناع بالتضحية من أجل المراقد الشيعية في كل العالم على هذا النمط، كما أن حدود إيران ليست عرضة للتهديد كما يدّعون، وبالتالي لا يقنع خطاب المرشد الترويجي للتدخل في سوريا الإيرانيين، بوصف هذا التدخل -على حدّ تعبيره- خط دفاع أول عن الأمن القومي الإيراني المهدَّد، إذ يرى الإيرانيون اليوم أن حدودهم الواقعية ليست مهددة بصورة مباشرة.
كما أن فكرة نصرة المستضعفين ودعم المقاومة وغيرها من الشعارات التي رفعها النظام ويروّج لها، يتلاشى بريقها أمام الأعداد الهائلة من القتلى والجرحى والمهجّرين من أبناء الشعب السوري، وهؤلاء الضحايا من الأطفال الذين يئنُّون تحت القصف الكيماوي في الغوطة ودُوما وبقية المدن السورية.
إنّ النظام الإيراني من البداية عجز عن إيجاد غطاء شعبي لاشتراكه الواسع في مجرياتها، لدرجة نفي المسؤولين الإيرانيين منذ البداية وجود قوات إيرانية عاملة على الأرض في سوريا، والاكتفاء بالحديث عن وجود عسكريين يعملون كاستشاريين إلى جانب الجيش السوري. لكن هذه المداراة لم تصمد أمام مَشاهد القتلى مِن عناصر الحرس الثوري وقوات النخبة الإيرانيين، وأخبار مصارعهم وصورهم المتواترة على وسائل الاتصال الحديثة نقلًا عن ساحات القتال المفتوحة في سوريا منذ 2011، بل كان من بين القتلى قيادات بارزة في الحرس الثوري وقوات النخبة التابعة له.
ولا شك أن لجوء النظام إلى هذه المناورة وتغطية وجوده في سوريا يكشف بصورة لا تدَع مجالًا لأي لَبْس بأنّ وجود قوات إيرانية على الأرض السورية عمل يفتقد المشروعية لدرجة أن النظام الإيراني أصرّ لفترة طويلة على إخفاء أبعاده كاملة عن عيون الإيرانيين، في الوقت نفسه الذي حاول حجبه عن عيون العالم.
وبمقارنة بسيطة بين شرعية الحرب الإيرانية على الشعب السوري وشرعية الحرب الإيرانية مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي يتضح لنا حجم الهوة بين الشعب وقيادته، ففي حربه مع العراق كانت تجوب المواكب الجنائزية للضحايا والقتلى العواصم والمدن الإيرانية في احتفالاتٍ كربلائية متواصلة، وكانت معنويات المواطنين مرتفعة على الرغم من كثرة الألم، وكانت صور الشهداء والشعارات على البنايات تعكس مكانة الحرب في النفوس من قبيل “كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء”، و”لبيك يا حسين”… إلخ، إذ عكست هذه الاجواء وجود استعداد شعبي لضخ مزيد من المقاتلين في هذه الحرب بلا يأس أو إحباط، وعبرت عن شرعية شعبية لقرار الحرب والاستمرار في خوض غِمارها، في ما يبدو تعبيرًا واضحًا عن أن الجبهة الداخلية كانت في أوج تماسكها.
لكن في معركته الراهنة في سوريا كانت شعارات المحتجين في نهاية عام 2017 ومطلع عام 2018 التي ندد فيها المتظاهرون بالتدخل العسكري الإيراني في دول الجوار، والمطالبة بإنهاء هذا التدخل، تعبيرًا دقيقًا عن مدى الرضا الشعبي عن هذا التدخل العسكري في الأزمة السورية، إذ كانت مطالبات الجماهير بمثابة استفتاء شعبي سحب الشرعية عن هذا الوجود العسكري في سوريا، بل وعن كل صور التدخل الإيراني في بلدان المنطقة، كما أوضحت مدى الخلل وحجم الفجوة بين القيادة والقواعد الشعبية غير المؤدلجة.
لهذا يمكن القول إنّ النظام اليوم عاجز عن الترويج لكربلاء جديدة في سوريا، فشتان بين صور الضحايا في حرب الثمانينيات والتي كانت بمثابة أيقونات ورموز للعزة والفخر الشعبي، وبين الخيار الكربلائي الجماعي الذي كان المظلة التي جمعت تحت سقفها القيادة والشعب، وبين محاولات النظام للتكتم على أعداد القتلى والضحايا الإيرانيين في سوريا ومطالبة وسائل الإعلام بحجب الحقيقة.
والمفارقة أوضح كذلك في تطوع آلاف الإيرانيين في الحرب الإيرانية-العراقية في معسكرات “منتظري الشهادة”، بينما يبكي أب مكلوم لحظة تشييع جثمان ابنه في مدينة جيلان شمال إيران صارخًا بالفارسية: “پسرم را به زور به سوريه فرستادن، او نميخواست به سوريه برود”، أي: “إنهم أرسلوا ابني رغمًا عنه إلى سوريا، ابني كان يرفض الذهاب إلى سوريا”.
ويتأكد المعنى ذاته من مغزى الرسالة الجماعية التي بعثت بها بعض عوائل الضباط الإيرانيين المشاركين بالحرب السورية إلى مكتب المرشد خامنئي والرئيس الإيراني حسن روحاني، مطالبين فيها بعودة أبنائهم.
وفي النهاية يمكن القول إنّ الإيرانيين اليوم ينظرون إلى تلك الحرب التي ساقها إليهم النظام الإيراني بأنها مَقتلة “لا ناقة لهم فيها ولا جمل”، وأنّ من يقمعهم ويصادر حريتهم ويرفع السلاح في وجوههم في لحظات تعبيرهم عن غضبهم، ويفتح معتقلاته أمام المطالبين بالحرية والعدالة والمساوة والقضاء على الفُسّاد منهم، هو ذاته الذي يضحّي بأبنائهم في سوريا وميادين القتال خارج الحدود دون أُفقٍ أو وجهة نظر مقنعة أو حتى مصداقية واتساق مع شعارات الثورة ومبادئها كنصرة المستضعفين ومواجهة المستكبرين.