يبدو أنّ الاتحاد الأوروبي على أعتاب اتخاذ خطوة غير مسبوقة في علاقاته مع إسرائيل؛ إذ يبحث حاليًا تعليق الامتيازات الجمركية التفضيلية الممنوحة لها بموجب «اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل». وقد قدّمت المفوضية الأوروبية رسميًا مقترحًا لتعليق أجزاء من الاتفاقية، ردًا على الحرب في غزة، وانتهاك إسرائيل المزعوم لالتزامات حقوق الإنسان الواردة في نص الاتفاق. يُمثل هذا التوجه نقطة تحوّل مهمة في السياسة الأوروبية، التي كانت مُترددة تاريخيًا في ربط العلاقات التجارية بالمساءلة الحقوقية.
لقد تحوّل الصراع في غزة، الذي تفاقم منذ هجمات السابع من أكتوبر 2023م، التي شنّتها حركة «حماس» على إسرائيل، إلى أزمة إنسانية مستمرة. فالحملة العسكرية الإسرائيلية الانتقامية خلّفت دمارًا واسع النطاق، وسط تقارير من الأمم المتحدة ومراقبين مستقلين، توثّق استخدام إسرائيل للمدفعية الثقيلة والغارات الجوية والحصار الخانق، الذي قيّد بشدة وصول الغذاء والمياه والإمدادات الطبية إلى القطاع. كما اكتسبت الاتهامات بارتكاب إسرائيل «إبادة جماعية» زخمًا متزايدًا، خاصةً بعد الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في مطلع عام 2024م، مُتهمةً إسرائيل بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية.
وينسجم المقترح الأوروبي مع هذه المطالبات، مؤكدًا أن الامتيازات التجارية لا يمكن أن تُمنح لدولة ترتكب انتهاكات خطيرة دون تبعات. وقد كشفت المفوضية الأوروبية في 17 سبتمبر 2025م عن خطة تتضمّن إلى جانب تعليق الامتيازات التجارية، فرض عقوبات على «الوزراء المتطرفين» في الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين العنيفين في الضفة الغربية. وتُشير التقديرات إلى أن هذه الخطوة ستؤثر على نسبة كبيرة من الصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا، في ظِل تصاعُد الاتهامات بأن الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة ترقى إلى جريمة إبادة جماعية. كما يأتي القرار في وقتٍ شهدت فيه أوروبا موجة متصاعدة من الاعترافات بالدولة الفلسطينية، أبرزها من فرنسا والمملكة المتحدة، اللتين انضمتا إلى أكثر من عشرة بُلدان غربية في إعلان الاعتراف بسيادة فلسطين.
ولا يُعدّ هذا التعليق بمنزلة نظام عقوبات شامل، لكنه يضرب في صميم الميزة الاقتصادية، التي طالما تمتعت بها إسرائيل داخل السوق الأوروبية. فمنذ عام 2000م، مكّن الاتفاق المنتجات الإسرائيلية من دخول الأسواق الأوروبية برسوم منخفضة أو معدومة. ومع إلغاء هذه المعاملة التفضيلية، سيتكبد اقتصاد إسرائيل خسائر سنوية تُقدّر بنحو 227 مليون يورو، نتيجة زيادة الرسوم على صادراتها من الفاكهة والخضروات والمطاط. والأهم من ذلك، أنّ هذه الخطوة ستُظهر أن أوروبا (التي طالما اتُهمت بالاكتفاء بالتصريحات دون إجراءات ملموسة) أصبحت مُستعدة لاستخدام نفوذها الاقتصادي كأداة ضغط سياسي. ويُعدّ ذلك مُنعطفًا حاسمًا بالنظر إلى أن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لإسرائيل، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 42.6 مليار يورو في العام الماضي وفق أرقام المفوضية الأوروبية.
مع كل هذا، يتطلب التوصل إلى مثل هذا القرار توازنًا دقيقًا، إذ يُتخذ القرار داخل المجلس الأوروبي وفق آلية «الأغلبية المؤهلة». وهذا يستلزم موافقة 55% من الدول الأعضاء التي تمثل 65% من سكان الاتحاد. وهذا يجعل مواقف الدول الكُبرى مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا محورية في ترجيح الكفة، فيما دفعت دول أصغر، مثل: البرتغال والدنمارك واليونان باتجاه التوافق، بينما تواصل المجر وجمهورية التشيك معارضتهما الشديدة للقرار وبقائهما في صف إسرائيل.
وتتجلّى المعضلة بأوضح صورها في برلين؛ حيث وعد المستشار الألماني فريدريش ميرتس بتوضيح موقفه قبل قمة الاتحاد الأوروبي في كوبنهاغن في الأول من أكتوبر 2025م. تحمل ألمانيا عبئًا تاريخيًا ثقيلًا بسبب «الهولوكوست»، ما جعلها تتجنب عادة تأييد أي إجراءات عقابية ضد إسرائيل. إلا أنّها اليوم تُواجه ضغوطًا مُتزايدة داخليًا ودوليًا لإعادة النظر في موقفها، في ظل تحوّل واضح في الرأي العام الألماني الذي بات أكثر انتقادًا للسياسات الإسرائيلية على ضوء الكارثة الإنسانية في غزة، فضلًا عن الانقسام المتزايد داخل الائتلاف الحاكم بشأن جدوى استمرار الدعم الثابت لإسرائيل.
وعلى الصعيد الأوروبي العام، طُرحت أيضًا خيارات بديلة، مثل تعليق الاتفاق بكامله (وليس فقط بنوده التجارية) أو تجميد الحوار السياسي. وهما خياران يتطلبان إجماع الدول الأعضاء كافة، وهو أمر صعب في ظل الانقسامات الراهنة. ويأتي هذا الجدل الأوروبي حول استخدام العلاقات التجارية كوسيلة ضغط على إسرائيل، في سياق المبادرة السعودية-الفرنسية للاعتراف بالدولة الفلسطينية؛ إذ تعمل الرياض وباريس على ترسيخ موقعهما كفاعلين رئيسين في تشكيل توافق دولي جديد حول القضية الفلسطينية.
وقد طرحت السعودية وفرنسا خارطة طريق لإحياء حلّ الدولتين عبر نهج منسّق، وهي المبادرة التي حظيت بتأييد 142 دولة في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي. وترتكز المبادرة على ثلاثة محاور مترابطة:
1.الاعتراف الدولي: اعتراف الدول الغربية، بقيادة القوى الأوروبية الكبرى، بفلسطين كدولة ذات سيادة.
2.إعادة الإعمار والدعم: تعهّد المجتمع الدولي بدعم إعادة إعمار غزة، من خلال تأييد خطة التعافي التي أعدتها منظمة التعاون الإسلامي، والإعلان عن عقد «مؤتمر إعادة إعمار غزة» في القاهرة قريبًا.
3.الإصلاح الداخلي الفلسطيني: التزام السلطة الفلسطينية بإجراء إصلاحات داخلية، تشمل تنظيم انتخابات العام المقبل
وقد أعادت المبادرة السعودية-الفرنسية الزخم إلى عملية السلام التي بدت شبه ميتة. فرنسا، التي تُعَد من أبرز الأصوات الأوروبية المنخرطة في دبلوماسية الشرق الأوسط، لطالما رأت أن الاعتراف بفلسطين لا ينبغي تأجيله أكثر، لأن تأجيله المستمر قد يجعل حلّ الدولتين بلا معنى، في ظل التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وتفتت الأراضي الفلسطينية. أما المملكة العربية السعودية، فتمتلك الشرعية الإقليمية والثقل الدبلوماسي بصفتها حاضنة الحرمين الشريفين وقائدة العالم العربي. ومن خلال تحالفها مع باريس، تسعى الرياض إلى كسر الجمود المزمن في هذا الملف عبر الجمع بين الاعتراف الغربي بالدولة الفلسطينية والتعهد العربي بإعمار غزة.
ويجب النظر إلى النقاش الأوروبي أيضًا، في سياق أوسع يرتبط بالقانون الدولي؛ إذ وصف عدد من المقرّرين الأمميين ومنظمات حقوق الإنسان، إلى جانب دول، مثل: جنوب أفريقيا وبوليفيا، سلوك إسرائيل في غزة بأنه يرقى إلى «إبادة جماعية». ورغم أن محكمة العدل الدولية لم تُصدر بعد حكمها النهائي، فإنها أقرت تدابير مؤقتة تُلزم إسرائيل بمنع أي أفعال يمكن أن تؤدي إلى الإبادة. وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي لم يتبنَّ رسميًا هذا الوصف، فإن استعداده المتزايد لاستخدام أدوات اقتصادية يعكس جديته في التعامل مع هذه المخاوف المتزايدة حول انتهاك القانون الدولي.
ومن منظور إستراتيجي، فإن تعليق الامتيازات التجارية سيحمل آثارًا بعيدة المدى. فبالنسبة لإسرائيل، قد تكون الخسائر الاقتصادية محدودة نسبيًا، لكنها ستتكبد خسارة رمزية كبرى، تتمثل في فقدان امتياز الوصول التفضيلي إلى السوق الأوروبية، وهو ما يشكّل نكسة دبلوماسية بالغة. أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فسيُعدّ ذلك لحظة نادرة من الوحدة والحزم في التعاطي مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، تُعزز مصداقيته كفاعل دولي مُلتزم بتطبيق القانون الدولي. بيد أن الفشل في اتخاذ هذا القرار سيكشف هشاشة الاتحاد وانقساماته الداخلية، التي طالما أضعفت اتساق سياسته الخارجية.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الخطوة الأوروبية المحتملة تحمل وجهين: فمن جهة، قد تُعمّق الفجوة عبر الأطلسي إذا واصلت واشنطن موقفها الحامي لإسرائيل. ومن جهة أخرى، قد تمنح البيت الأبيض مساحة أوسع للضغط على تل أبيب دون أن يبدو كمن يتحرك مُنفردًا. أما الفلسطينيون، فقد يجدون في الاعتراف الأوروبي بدولتهم وفي الضغط الاقتصادي على إسرائيل بارقة أمل لإحياء مشروع الدولة، وإن كانت النتائج النهائية ستتوقف على ما إذا كانت هذه التحركات ستترجم إلى تغييرات ملموسة على الأرض.
وفي المحصلة، يُجسّد الجدل الدائر حول تعليق الامتيازات التجارية لإسرائيل مُفارقات السياسة الأوروبية في الشرق الأوسط. فبعد أعوام من الخطاب الأخلاقي غير المقرون بالأفعال على الأرض، يبدو أن أوروبا (مدفوعة بهول ما جرى في غزة وبزخم المبادرة السعودية-الفرنسية للاعتراف بفلسطين) باتت مُستعدة أخيرًا لمواجهة إسرائيل بعقوبات فعلية، تمتحن مدى التزامها بالقانون الدولي، وتكشف ما إذا كانت قادرة على تحويل الأقوال إلى أفعال.