لم يطرح البيت الأبيض حتى الآن أي استعراض للسياسات الحكومية العامَّة والشاملة التي طال انتظارها حول الجمهورية الإيرانيَّة، إلا أن رؤساء الإدارة قد اجتمعوا خلال الأسابيع القليلة الماضية لتسوية تفاصيل الاتفاق النووي مع إيران، المعروف أيضًا باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وقد جدَّد ترامب في 14 سبتمبر الإعفاء الذي ينصّ على تخفيف العقوبات على إيران بموجب شروط برنامج العمل المشترك، في حين فرضت وزارة المالية في الوقت ذاته عقوبات جديدة تستهدف أنصار الحرس الثوري.
وتتوافق خطة الإعفاء عن العقوبات النووية تلك بالإضافة إلى فرض عقوبات أخرى، مع رسالة الإدارة الكبرى حول إيران، وهي أن المشكلات التي تسببها الجمهورية الإيرانيَّة تتجاوز بكثير مشكلة البرنامج النووي، بما في ذلك دعم الأعمال الإجرامية والإرهابية، والتهديدات المحدقة بالممرات المائية الاستراتيجية، بالإضافة إلى تطوير القذائف التسيارية، والسؤال الذي لا يزال معلَّقًا هو ما إذا كانت هذه الصورة الكاملة ستؤثر على السياسة الأمريكيَّة في العراق وسوريا ولبنان، بحيث لا تزال الجمهورية الإيرانيَّة تعزِّز سطوتها على تلك الدول.
وتأتي صفقة إيران الكبرى المقبلة في 15 أكتوبر، إذ سيتعين على الرئيس الأمريكيّ أن يُقِرّ مرة أخرى أمام الكونغرس بأن إيران ممتثلة لشروط خطة العمل الشاملة المشتركة، وذلك بموجب قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيرانيّ لعام 2015، في حين يذكر أن ترامب الذي سبق أن انتقد هذا الاتفاق خلال حملته الرئاسية هو حريص على سحب الثقة منه، إذ صرَّح في يوليو لصحيفة “وول ستريت جورنال” قائلًا: “لو أن الأمر يرجع إليّ لكان من الممكن أن أقر بأن إيران غير ممتثلة لبنود الاتفاق منذ 180 يومًا”.
ولا يزال ترامب يتوجه باللوم إلى وزير خارجيته بسبب إبقائه بعيدًا عن اتخاذ قرار قيادي على الرغم من عدم قيامه بذلك حتى الآن، في الوقت الذي يحاول فيه ريكس تيلرسون أن يفعلها، ووَفْقًا لتقرير وكالة أسوشيتد برس الأسبوع الماضي، فقد حثَّت وزارة الخارجية بالفعل الرئيس للإقرار على الامتثال الإيرانيّ مرة أخرى، ثم التوجُّه إلى الكونغرس لإصلاح الاتفاق.
ويقول أحد الإيرانيّين المحنكين من الذين شاركوا من كَثَب في نقاش سحب الثقة: “لا يزال وزير الخارجية وموظفوه يظهرون ترامب بصورة الأحمق أمام إيران”، واستطرد: “خلال الجولة الأولى من الإعفاءات ونقاشات إعادة الثقة في سلمية النشاط النووي التي جرت في أبريل، حاول كل منهم أن يُظهِر القضية للرئيس كأنها مجرَّد قضية فنية ثانوية ليس فيها ما يستدعي قلقه، في حين سلبوه حقه في اتِّباع أي خيار آخر عندما جاء وقت إقراره في يوليو. أما هذه المرة فهم يحاولون فعلًا إيقاعه في شباك هذه العملية.” (يستلزم قانون 2015 تجديد الثقة كل 90 يومًا).
وقد حاولت وزارة الخارجية بالاشتراك مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والأوروبيّين تنفيذ عملية دبلوماسية لتضييق جوانب الصفقة لضمان إقرار ترامب بسلميتها في أكتوبر، إلا أنهم تَصدَّوا بذلك لجهود الدولة على النحو المتوقع كما فعلت إيران. إن الهدف من هذا الاقتراح، كما هو الحال مع المبادرة الأخيرة “لإصلاح” الصفقة، هو ربط ترامب في عملية من شأنها منعه من سحب الثقة المتعلقة بسلمية النشاط النووي، والتي هي الخطوة الأولى للقضاء على الصفقة تمامًا.
إذا ما الخيارات المطروحة أمام الرئيس الأمريكيّ في أكتوبر؟
في الواقع لا يزال بإمكانه تمزيق الاتفاق النووي تمامًا، وهو السيناريو الذي أقرَّه جون بولتون ووعد به ترامب مُسبَقًا، في حين يوجد خيار آخر هو الطعن في امتثال إيران للاتفاق النووي لا إعادة فرض العقوبات، وعلى كل حال ليس هذا في الوقت الراهن. وقال مارك دوبويتز، المدير التنفيذي لمؤسَّسة الدفاع عن الديمقراطيات، وهو خبير بارز في هذا الاتفاق: “بإمكان ترامب أن ينأى عن التوقيع إذا لم تصبّ خُطّة العمل المشتركة الشاملة في المصلحة الوطنية الأمريكيَّة”. وأضاف: “من ثم يرجع الأمر إلى الكونغرس ليناقش الأمر خلال 60 يومًا، إذ يحتاج الرئيس عندها إلى طرح حُجَّة مقنعة مفادها أن هذا الوقت غير مناسب لإعادة الكونغرس فرض العقوبات وإلغاء الصفقة”.
ووَفْقًا لدوبويتز فإن هذا التكتيك لا يُنذِر إيران فحسب، بل يرسل إلى حلفائنا الأوروبيّين كثيرًا من التحذيرات المُسبَقة لوضع سياسة مشتركة حول كيفية إصلاح هذه الصفقة النووية التي تنطوي على مثالب خطيرة، والأفضل أن نفعل ذلك معًا، وعلى الجميع أن يفهموا أن الولايات المتَّحدة على أُهبَة الاستعداد لإعادة فرض العقوبات عوضًا عن رصف الطريق أمام إيران لامتلاك أسلحة نووية وأخرى عابرة للقارات،” وقال: “يفضِّل الأوروبيون اتِّباع نهج مشترك تجاه إيران، ودائمًا ما سيفضلون تحقيق اقتصاد الولايات المتَّحدة البالغ 19 تريليون دولار أمريكيّ على تحقيق 400 مليار دولار من اقتصاد إيران”، وأضاف أيضًا: “القوة المالية القسرية لأمريكا حقيقة، بخاصَّة تحت إدارة ترامب”.
من ناحية أخرى يقول دوبويتز: “إذا كان الرئيس سيُقِرّ [بامتثال إيران] لخطة العمل المشتركة الشاملة مرة أخرى في الشهر المقبل، فعندها سيفقد مصداقيته لدى الديمقراطيين وأوروبا، بصرف النظر عن إيران وغيرها من المراقبين المهتمين، لا سيما كوريا الشمالية وروسيا، وفي حال أقر مرة أخرى، فسيكون عليه أن يخوض معركة صعبة حتى يبرهن استعداده للمضيّ بعيدًا واستخدام جميع وسائل القوة للضغط على إيران وقطع طريقها بشكل دائم نحو امتلاك الأسلحة الذرية”.
على أي حال، لم تتضح الوسائل التي ترغب الإدارة في استخدامها بعد، وقال مسؤولون لدى ترامب لـ”رويترز” الأسبوع الماضي إن البيت الأبيض قلق بشأن “اللجوء إلى استخدام ردّ عسكري أكثر قوة على وكلاء إيران في سوريا والعراق، مِمَّا سيعقد المعركة التي تقودها الولايات المتَّحدة ضدّ داعش”، وقد أكَّد ترامب نفسه أن تنظيم داعش يشكِّل أهمّ أولوياته في المنطقة قائلًا: “ليس لدينا كثير لنفعله في سوريا عدا القضاء على داعش”.
ولكن كما كتب هنري كيسنجر الشهر الماضي، فإن حملة إزالة داعش من منطقة الهلال الخصيب يمكن أن تؤدِّي أيضًا إلى “ظهور إمبراطورية إيرانيَّة راديكالية”. ولكن كيف لذلك أن يحدث؟ لأنه على الرغم من الفوارق الدقيقة والمضاعفات السياسية في الشرق الأوسط، فإن الصراع الذي يندلع الآن من بغداد إلى بيروت قد تَحوَّل إلى لعبة محصِّلتها صفر، وبمجرد أن تتحاشى الولايات المتَّحدة وضع بصمة غائرة على أرض الواقع، فإن إيران لا يمكنها أن تستفيد إلا من الحملة المناهضة لداعش، والتي تدعم أصدقاءها وعملاءها في بغداد ودمشق وبيروت. محاربة داعش في هذه المرحلة تعني مساعدة الجمهورية الإيرانيَّة في تحقيق هدفها الذي طال انتظاره والمتمثل في إنشاء جسر برِّي يربط طهران، عبر بغداد ودمشق، بشرق البحر الأبيض المتوسط.
ومنذ إطلاق الصواريخ على مواقع الأسد وروسيا في سوريا في أبريل، اتخذت إدارة ترامب موقفًا يقضي بعدم التدخل في النِّظام بدمشق، ولكن الوضع أسوأ من ذلك في أماكن أخرى، ففي العراق تتعاون القوات الأمريكيَّة مع جيش عراقي يعمل بصورة وثيقة مع قوات الحشد الشعبي التي يسيطر عليها الحرس الثوري، ويذكر أن مستشار الأمن القومي لدى ترامب، ه.ر.ماكماستر “أصدر عدة توجيهات إلى موظفي مجلس الأمن القومي للنظر في الطرق التي يمكن للولايات المتَّحدة من خلالها أن تكون أكثر عدوانية في موقفها تجاه حزب الله” في لبنان، في حين تواصل الإدارة في الوقت ذاته تمويل القوات المسلَّحة اللبنانية، على الرغم من أنها تعتبر أكثر من مساعدة لحزب الله في هذه الأيام. لم تدخل الولايات المتَّحدة في شراكة مباشرة مع إيران والأسد وروسيا، بل تدخلت بصورة متقطعة. ومع ذلك، تبقى النتيجة نفسها.
كيف انتهى المطاف بأمريكا لأن تصبح حليفة لدولة ستغدو نووية مارقة في القريب العاجل؟ فبعد كل هذا لم تشكِّل محاربة داعش مصلحة أساسية دائمة للولايات المتَّحدة، في الواقع أطلق باراك أوباما على تنظيم داعش وصف فريق “جي في” بعد أن أعرب عن أسفه تجاه قطع رؤوس الصحفيين الأمريكيّين مِمَّا أرغمه على الردّ. على الرغم من إدراك طبيعة الحرب على مستوى المنطقة التي تؤول محصلتها إلى الصفر، اعتقد أوباما أن حملته ضدّ داعش من شأنها أن تعزِّز تفضيلاته السياسية المؤيدة لإيران، وبالتأكيد يشكِّل تنظيم داعش سيناريو مروعًا تطول تهديداته الأمريكيّين وحلفاءهم في المنطقة بالإضافة إلى أوروبا، لكن القضية لا تدور حول الأسوأ أو الأكثر عنفًا، إيران أم داعش، بل هي كيفية تحقيق التوازن في مطالب مواجهة التهديد الاستراتيجي ضدّ أولئك الذين يطبِّقون سياسات مكافحة الإرهاب.
وكما ذكر ريويل مارك غريشت في هذه الصفحات الأسبوع الماضي، فإن مكافحة الإرهاب “هي الطريق الأسهل الذي يجب اتخاذه عند مواجهة المشكلات المتشعبة في الشرق الأوسط”، ولكنها أصبحت “مسؤولية يتحملها واضعو السياسات الذين يحاولون العمل من خلال القضايا الكبيرة التي تدور حول الثقل الإقليمي. إن الحملة المناهضة لداعش تحجب المخاوف الاستراتيجية الملحة التي تمسّ المصالح الأمريكيَّة الأساسية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى. لا شك أن المجموعات الإرهابية خطرة، لكنها لا تشكِّل تهديدًا استراتيجيًّا مثل إيران، فهي دولة مترامية الأطراف تمتلك مؤسَّسات عدة بما في ذلك جيشها المتوسِّع وبرنامج أسلحتها النووية وتحالفها مع الدول المعادية للولايات المتَّحدة مثل روسيا، بالإضافة إلى دعمها للتنظيمات الإرهابية كحزب الله وداعش.
يعتقد كيسنجر في وجود خطر كهذا، لأن ذلك يتوافق مع رؤيته الكلاسيكية للحنكة السياسية، لأن الشاغل الأساسي هو إدارة الصراع بين الدول على الموارد الحيوية والأراضي، وخلال الحرب الباردة كان الإرهاب من هذا المنظور يشكِّل تهديدًا من الدرجة الثانية، ويبدو أن بعض مسؤولي ترامب، لا جميعهم، يفتقرون إلى مثل هذا التمييز. وزير الدفاع الأمريكيّ جيمس ماتيس الذي كان يُعرف بموقفه العدائي ضدّ إيران أوضح منذ عدة سنوات عندما كان لواءً في البحرية، وكان لا يزال على رأس الخدمة، أن إسقاط الأسد سيشكِّل “أكبر نكسة استراتيجية لإيران منذ 25 عامًا”، وبذلك لم تتغير قراءة خريطة ماتيس، بحيث لا تزال إيران تشكل تهديدًا كبيرًا.
من الواضح تمامًا أن أوباما قد وضع خليفته في مأزق، سواء أكان ترامب أم كان هيلاري كلينتون، وأي مأزق تحفُّه ظلال داعش! لكن السؤال هنا هو: هل ترامب قادر على النجاة منه؟
مادة مترجمة: “ويكلي ستاندرد”
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز