نجَمَ عن الغزو الروسي على أوكرانيا تداعياتٌ عديدة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية وجيوسياسية، وخلقت اضطراباتٍ في الحلف عبر الأطلسي، تشبَّث كل طرفٍ بوجهة نظره الخاصة حول الصراع في أوكرانيا، خصوصًا في ما يتعلق بدعم كييف ماليًّا وعسكريًّا، والطريقة المثلى لإنهاء الصراع. وانعكس ذلك بأضرار جسيمة على الداخل الأوروبي، إذ ارتفعت تكاليف المعيشة، التي فاقمت الضغوط على الحكومات الأوروبية. ونظرًا إلى محاذاتهم منطقة الصراع، يحرص الأوروبيون كل الحرص على إنهاء الصراع في أقرب وقتٍ ممكن، لكن الولايات المتحدة لا تشاطرهم هذا الموقف، فهي قد ترى في الصراع وسيلةً لإغراق روسيا في مستنقع أوكرانيا واستنزافها، لمنع صعود التحالف الإستراتيجي الصيني-الروسي مستقبلًا. ونتيجةً لهذه الحسابات المختلفة، شهدَت العَلاقات عبر الأطلسي اضطراباتٍ، وبرزت الحاجة إلى دراسة وجهات النظر لجانبي الأطلسي، أي أوروبا والولايات المتحدة. لذلك تسعى هذه الورقة إلى تحليل وجهات النظر الأوروبية والأمريكية حول الصراع الروسي-الأوكراني والعَلاقات عبر الأطلسي، واستشراف السناريوهات المستقبلية المحتملة، من خلال مناقشة محورين أساسيين: المنظور الأوروبي حول الصراع، ثم المنظور الأمريكي، وانتهاءً بالخاتمة والسيناريوهات المستقبلية.
أولًا: وجهة النظر الأوروبية
يأتي ارتفاع حدَّة التوتُّرات الاقتصادية بين واشنطن والدول الأوروبية في سياق تصاعُد مطالب أوروبا من حليفتها واشنطن بتقديم الدعم العسكري لكييف، للحد من الطموحات الروسية في أوكرانيا. وهذه التوتُّرات هي عواقب غير مقصودة، نجمت عن تنامي التوتُّرات بين الأوروبيين والجارة الروسية. ووصلت العَلاقات العسكرية بين أوروبا والولايات المتحدة إلى أعلى مستوياتها، لا سيما أنَّه حتى الدول الحيادية في أوروبا بدأت بالاصطفاف والدعم العلني للعقوبات الاقتصادية التي فرضها حلف الناتو على روسيا. وعلى الرغم من هذا الاصطفاف الأوروبي الموحَّد في وجه الطموحات الروسية العسكرية في أوكرانيا، فإنَّ الإدارة الأمريكية تضع على سُلَّم أولوياتها التصدِّي للصين، ما يخلق تحديًا للقادة في أوروبا، فلم تعُد القارة الأوروبية المحور الجيوسياسي للتحرُّكات (الديناميات) الدولية، وهذا ينطبق أيضًا حتى على سياق عودة شبح الحرب إلى أوروبا.
أثار الرئيس الأمريكي ردود فعل سلبية في أوروبا بإصداره «قانون خفض التضخم لعام 2022م»، الذي سيقدِّم بموجبه إعاناتٍ مالية للشركات الأمريكية، ويضع عائقًا أمام الشركات الأوروبية من الاستثمار في الأسواق الأمريكية. ويساور الأوروبيين شعورٌ بأنَّ الولايات المتحدة تحقِّق مكاسب اقتصادية من الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا، وقد يبدو التصوّر الأوروبي صائبًا عند مقارنة أسعار الغاز في أمريكا مع الأسعار في الأسواق الأوروبية، وارتفاع مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الأوروبيين، ناهيك بمسألة مشاركة الجانبين الأوروبي والأمريكي في تحمُّل الأعباء الاقتصادية الناجمة عن العقوبات المفروضة على روسيا. ثمّة احتمال بانتهاء هذه الوحدة الغربية، إذا ما استمرَّت الحرب لعدة أشهُر أو سنوات، ويدور نقاشٌ أيضًا حول أفضل السُّبُل لإنهاء الحرب سياسيًّا في أوكرانيا، بتبنِّي المسار الدبلوماسي عبر الحوار المباشر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو استمرار التصعيد العسكري ضد روسيا حتى النصر. وفي الأشهُر المقبلة، ستدخل قدرة هذا التحالف التاريخي لمقاومة التوتُّرات والاضطرابات تحت الاختبار.
تتمحور أولى نقاط الخلاف بين الجانبين حول «السبب» الكامن خلف تدهور الحالة في أوروبا، فمن وجهة النظر الأوروبية تقدِّم كلٌّ من: التبِعات غير المقصودة من العقوبات على موسكو، وارتفاع تكاليف الطاقة، وتمحوُر الإستراتيجية الأمريكية الجديدة على المصالح الوطنية دون اعتبار لمصالح الحلفاء، أسبابَ/تفسيراتِ التراجع الاقتصادي في أوروبا. ومن وجهة النظر الأمريكية، يكمُن السبب في اعتماد الأوروبيين على روسيا، إلى جانب نقص الاستثمارات الأوروبية في القدرات الدفاعية.
وبلا شك، من المفارقة أن نرى الأوروبيين في خِضَمّ ارتفاع التصعيد العسكري في أوكرانيا عاجزين عن فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا. هذا ليس فقط بسبب اتّساع الانقسام الداخلي في أوروبا بين النُّخبة السياسية والرأي العام، لكن أيضًا بسبب الحالة الخاصة لبعض الدول الأوروبية. على سبيل المثال، غياب الإرادة السياسية عند بعض الدول الأوروبية، مثل هنغاريا، وربما إيطاليا، سيحُول دون فرض عقوبات جديدة على روسيا مستقبلًا.
ونظرًا إلى اتّساع الفجوة بين الجانبين، كان المتوقَّع أن تزداد اللُّحمة الأوروبية متانةً، لمجابهة التحدّيات الاقتصادية الجديدة في القارَّة، لكن حدث عكس ذلك، إذ تمُرّ العَلاقات الفرنسية-الألمانية بأزمة، بسبب إحجام برلين عن تطوير مشاريع على المستوى الأوروبي لحل أزمة الطاقة في القارة، منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا. من الصعب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتفهَّم مسألة السيادة الألمانية، ومخاطر التزام أوروبا إستراتيجية دولية جديدة مناهضة لروسيا، إذا ترى واشنطن أنَّ نموذج ألمانيا للطاقة، الذي يعتمد على إمدادات الغاز الرخيص من روسيا والشراكة المتينة مع الصين، خطأ. أمّا فرنسا فتشدِّد في منهجها على حاجة الأوروبيين إلى «الاستقلال الإستراتيجي»، فيما تدافع برلين بموقفها هذا عن «السيادة الأوروبية»، على ألّا تذهب إلى أبعد من ذلك، كما هي الحال مع المنهج الفرنسي، حتى لا تستعدي إدارة بايدن.
وأخيرًا وليس آخرًا، يجد القادة في أوروبا، لا سيما فرنسا، أنَّ أزمة الثقة عبر الأطلسي في العَلاقات التجارية أصعب من غيرها في حلها، لعدة أسباب، أولًا: ثمّة توتُّرات متصاعدة حول تدفُّق الأموال إلى القطاع الدفاعي الأمريكي، إذ يجب علينا قراءة المشتريات العسكرية الأوروبية في سياق الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا، منذ بداية الحرب. بالأرقام، بلغ الدعم العسكري الأمريكي 15.2 مليار دولار، فيما وصل الدعم الأوروبي إلى 8 مليارات دولار. ثانيًا: يخشى الأوروبيون أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه عام 2000م، وفي هذا الصدد يقول خبير العَلاقات الخارجية روبرت كيغان: «أدّت العَلاقات غير المتكافئة بين الأوروبيين وواشنطن إلى عجز الأوروبيين عن تولِّي القيادة، عندما واجهوا تهديدات أمنية». ويشبِّه كيغان الحالة الأمريكية-الأوروبية بتقسيم المهامّ بين العُمّال، فيقول: «الأمريكيون يُعِدّون العشاء.. والأوروبيون يغسلون الصحون». وما كان حتميًّا لعام 2022م أن يدفع تدهور الحالة الاقتصادية في أوروبا وعودة الحكومات الأوروبية للتركيز على مصالحها الوطنية إلى تصاعُد التوتُّرات بين الأوروبيين وواشنطن.
ثانيًا: وجهة النظر الأمريكية
يعبِّر المسؤولون في الولايات المتحدة عن قلقهم حول كيفية الحفاظ على حلفاء واشنطن، متّحدين بموقف واحد للتصدِّي لـ«العدوان الروسي» على أوكرانيا. ويشير كلٌّ من تصاعُد الاحتجاجات في الداخل الأوروبي، بسبب ارتفاع معدلات التضخم واحتمال الانزلاق إلى ركود اقتصادي، إلى أنَّ التوصُّل إلى منهجية مشتركة تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا أصبح أكثر صعوبةً لكلا الجانبين، الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وما يفاقم الانقسام الأوروبي هو التهديدات الأخيرة على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشنّ ضربة نووية على الغرب، بالإضافة إلى قرار موسكو بتخفيض إمداداتها من الغاز إلى أوروبا.
لذلك، من الضروري جدًّا أن تتّخِذ الدول الأوروبية موقفًا موحَّدًا للرد على تهديدات بوتين النووية لضمان نجاتها. لذلك، ليس من المُستغرَب أنَّ الولايات المتحدة مستمرّة في التزامها تعزيز القدرات العسكرية الأوكرانية لصدّ الغزو الروسي، وصدّ المخاطر الأمنية على أعضاء حلف «الناتو» في نفس الوقت.
ومع ذلك، تسعى واشنطن أيضًا للتوصُّل إلى تسويةٍ بشأن الحرب الروسية-الأوكرانية، تسوية مقبولة لكلا الجانبين، مع الأخذ في الحسبان أنَّ بوتين يدعو أيضًا إلى اتفاق لإنهاء الصراع. ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، إن لم يستطِع الأوروبيون تحمُّل المنافسة العسكرية مع الروس، فعليهم ألّا يتوقَّعوا أكثر مما قُدِّم لهم، لضمان أمن دول أعضاء حلف «الناتو». بينما ترفع روسيا مستوى مخاطر الحرب، باتّهامها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مباشرةً بالتورُّط في ساحة الحرب في أوكرانيا، فإنَّ احتمالية خيار المواجهة، وهذا ما تتجنَّبه واشنطن، أضحى مرجحًا جدًّا.
تراجع التزام إدارة بايدن «المادة 5» من ميثاق حلف «الناتو»، التي تنُص على التزام الدفاع المشترك بين أعضاء الحلف، نظرًا إلى انشغالها في الانتخابات النصفية. وعلى الرغم من أهمية إحباط النزعة التوسُّعية الروسية لدى كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فإنَّ الكونغرس الأمريكي لا يرغب في أن يعطيها أولوية، ويفرض عقوبات من أجل حرب بعيدة تدور في أوروبا، لا سيما أنَّ الاقتصاد الأمريكي الآن يحاول التعافي من الاضطرابات وتباطؤ النمو، الذي حلَّ به من جرّاء جائحة كورونا.
في الوقت الحالي، يدعم الكونغرس الأمريكي خطة إدارة بايدن لزيادة الإنفاق الدفاعي، لكن هذا لا يعني أنَّ الرئيس الأمريكي يمكنه الاعتماد على الكونغرس لتقديم مزيدٍ من المساعدة العسكرية لأوروبا، أكثر مما وافقت عليه بالفعل. فعندما اندلعت الحرب في فبراير 2022م، عزَّزت القوّات الأمريكية في أوروبا دفاعات البلدان المتاخمة لأوكرانيا.
ومنذ بداية الحرب، حدّدت الولايات المتحدة معايير دعمها لأوكرانيا بأن تكون على أساس المصالح الأمنية الأمريكية. وبعد محطته الثانية في بروكسل، سافر الرئيس الأمريكي إلى بولندا في 20 مارس، حيث التقى بعض القوّات الأمريكية المنتشرة فيها، ورفض طلب بولندا إرسال طائرات «ميغ» مقاتلة إلى أوكرانيا، ورفض أيضًا طلب أوكرانيا بفرض منطقة حظر جوي، خوفًا من المواجهة المباشرة مع روسيا.
أكد بيانٌ صادر عن الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيسة المفوضية الأوروبية وأورسولا فون دير لاين، في 24 مارس، الالتزام الأمريكي-الأوروبي المشترك لتعزيز العقوبات ضد روسيا، وإيصال الإغاثة الإنسانية إلى أوكرانيا، فضلًا عن التعاون في مجال الطاقة والأمن السيبراني. لكن البيان لم يرتقِ إلى مستوى وعود ملموسة من جانب أمريكا لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي. وعلى صعيد آخر، رفض الرئيس الأمريكي في مايو فرض عقوباتٍ على الشركة الأوروبية «نورد ستريم 2 إيه جي/Nord Stream 2 AG »، المسؤولة عن بناء خط أنابيب الغاز الروسي «نورد ستريم 2»، سعيًا منه للحفاظ على عَلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها عبر المحيط الأطلسي.
أعلن الرئيس الأمريكي في «قمة حلف الناتو» بمدريد، في 29 يونيو، عن خطوات بلاده لزيادة عدد القوّات الأمريكية في أوروبا، وتعزيز قوّات الحلف في الجانب الشرقي لمواجهة التهديدات الروسية. وجاء هذا الإعلان في أعقاب زيادة عدد القوّات الأمريكية في الخدمة العسكرية لأوروبا بـ20 ألف جندي، ما أدّى إلى زيادة عدد القوّات الأمريكية هناك إلى 100 ألف جندي.
ولا يزال التعاون بين دول عبر الأطلسي ضعيفًا نسبيًّا، على الرغم من رفع الولايات المتحدة لعدد قوّاتها في «قوة الرد السريع/Rapid Reaction Force (RRF)» التابعة لحلف الناتو. وكان على الرئيس الأمريكي في شهر أكتوبر مقاومة الضغوط المتصاعدة من الكونغرس، خصوصًا من جانب الجمهوريين، بالتوقُّف عن تقديم شيك على بياض إلى أوكرانيا. أرسلت الولايات المتحدة لأوكرانيا دعمًا أمنيًّا بقيمة 19.1 مليار دولار، ومساعدات اقتصادية مباشرة بقيمة 13 مليار دولار، منذ بدء الحرب الروسية عليها في 24 فبراير. وحسب بيانات موقع «تعقُّب الدعم الأوكراني/Ukraine Support Tracker»، بلغ الدعم من الولايات المتحدة 47.8 مليار دولار، في حين بلغ دعم الدول الأوروبية ومؤسساتها 51.8 مليار دولار، منذ 24 يناير حتى 20 نوفمبر.
الدعم العسكري والاقتصادي الهائل الذي قدَّمته الولايات المتحدة لا يعني أنَّ عليها أن تضطلع بالدفاع عن حلفائها دائمًا وبكل السُّبُل، فعلى الولايات المتحدة أن تحمي مصالحها الوطنية في المقام الأول، لتبقى قوية ويمكن الاعتماد عليها خارجيًّا. ولديها أيضًا أولويات دفاعية وتهديدات من دول يجب عليها التصدي لها، مثل الصين وكوريا الشمالية وإيران، ناهيك بأنَّ إدارة بايدن ترى أن نجاحها في تعزيز أمن الولايات المتحدة مهمّ لضمان الفوز مرةً أخرى في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024م.
يرى الأوروبيون أنَّ «قانون خفض التضخم»، الذي أصدرته إدارة بايدن، ووافق عليه الحزبان، ورُصِدت له مليارات الدولارات للتصدي لأزمة تغيُّر المناخ والطاقة، غير عادل، لأنَّه يمنع الشركات الأوروبية من الاستثمار في الأسواق الأمريكية المربحة، ويعطي الاستثمارات الأمريكية المحلية أولوية. دفع هذا القانون دولًا مثل فرنسا وألمانيا للبدء في إعداد برامجهم الخاصة للدعم.
تتصاعد التوتُّرات عبر الأطلسي أيضًا بشأن عدد من القضايا الأخرى، مثل ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا. ومن المستبعَد جدًّا أن يُعيد الرئيس الأمريكي إعداد البنود الخاصة بالقانون، على الرغم من أنَّ حلفاء واشنطن الأوروبيين يرون في القانون وخطة إدارته «صُنِعَ في أمريكا» سياسة «حمائية»([1]) ضد الدول الأوروبية.
لم يرُدّ الرئيس الأمريكي بعدُ على مسؤول السياسات الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بشأن طلبه من واشنطن الرد على ما يساور الأوروبيين من مخاوف. وتقول واشنطن إنَّها ليست مسؤولة عن ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا. وفي يوليو 2022م هاجم السيناتور الجمهوري تيد كروز ما وصفه بسياسة «الاسترضاء» التي تتّبِعها إدارة بايدن تجاه روسيا، وألقى باللوم عليها في «الغزو الروسي لأوكرانيا». وقال أيضًا إنَّ موقف الرئيس الأمريكي كان «ضعيفًا» في صفقة الغاز «نورد ستريم 2» بين موسكو وأوروبا، حين رفعت العقوبات المفروضة عليها عام 2021م.
من الصعب على إدارة بايدن إقناع الرأي العام الأمريكي بأنَّ أوكرانيا تمثِّل قضية أهمّ للعالم الحُرّ من احتمالية حدوث ركود اقتصادي في البلاد. وقد سعى الرئيس الأمريكي خلال زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة لواشنطن إلى خفض التوتُّرات مع أوروبا، متعهِّدًا بأنَّ اهتمام بلاده بتوفير وظائف لمواطنيها لن يأتي على حساب أوروبا. ولم تُنشَر بعدُ تفاصيل حول الاتفاقات المُبرَمة بين الرئيسين خلال الزيارة، لكن من الواضح أنَّ الولايات المتحدة تريد مزيدًا من الالتزام من الجانب الأوروبي لتحمُّل المجهود الحربي في أوكرانيا، سعيًا منها لتعزيز حظوظ الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024م.
الخاتمة
بعد سنواتٍ من التوتُّرات في العَلاقات عبر الأطلسي، بسبب الموقف المتصلِّب الذي تبنّاه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تجاه أوروبا، وإصراره على تبنِّي نهج أُحادي على حساب منهج متعدّد الأطراف عبر الأطلسي، كان هناك أملٌ أن تتحسَّن العَلاقات مع تولِّي إدارة بايدن، واهتمامها بالعمل مع الحلفاء وتعزيز العَلاقات عبر الأطلسي. لكن مع الحرب الروسية على أوكرانيا، ظهرت حاجة مُلِحَّة لتقوية العَلاقات عبر الأطلسي، للتوحُّد في مواجهة تهديدات العدوان الروسي على أوروبا. لقد فتحَت الحرب في أوكرانيا بوابة الشرور على مصرعيها، إذ تسبَّبت آثارها في توتُّر العَلاقات مجدَّدًا عبر الأطلسي، على أثرها اتّهم الأوروبيون الولايات المتحدة بالتقصير في تقديم الدعم العسكري اللازم لأوكرانيا، وباستغلال أزمة الطاقة لمصالحهم. وأصبحت خطة فرنسا لتحقيق «الاستقلال الإستراتيجي» في أوروبا حُلمًا بعد تقليص أمريكا مظلتها الأمنية في أوروبا، والانقسام الأوروبي حول الطرق الأفضل للرد على الحرب الروسية ومجابهة آثارها الاقتصادية. ومع انعدام الحوار نسبيًّا بين برلين وباريس، وخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، لم يعُد هناك إطارٌ جامع بين الأوروبيين لاتّخاذ قرار توافقيّ لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وتدرك موسكو جيِّدًا هذا الانقسام، لذلك استمرَّت في حربها على أوكرانيا دون مقاومة كبيرة من الجانب الأوروبي. وفاقم ابتزازها بورقة إمدادات الغاز حالة التشظِّي في أوروبا، ومع قطع الإمدادات الآن تتّجِه عيون الأوروبيين نحو حلفائهم في الخليج والشركات الأمريكية لإنقاذهم من هذه المرحلة الاقتصادية القاسية. أمّا الولايات المتحدة فهي غاضبةٌ من إحجام الأوروبيين عن تحمُّل الأعباء الأمنية، خصوصًا أنَّ الجمهوريين غاضبون من مطالبة أوروبا بلادهم بالمساهمة بمزيد من القوّات والأسلحة والمساعدات الاقتصادية في حرب تدور على حدودهم. وأيضًا أغضب الإصرار الفرنسي على الاستقلال عن الولايات المتحدة دوائر السياسة الخارجية في واشنطن، التي تصرّ على اتّخاذ الفرنسيين مواقف أكثر حزمًا لحل الأزمة الأمنية في أوروبا. ولدى الولايات المتحدة أولويات أمنية أخرى، على رأسها التهديد الصيني، لذلك تريد من الأوروبيين أن يتحمَّلوا مسؤولية أمنهم، وترى أنَّهم قادرون على ذلك، ليتسنَّى لها التركيز على شواغل جيوسياسية أخرى. دفعت الآثار الاقتصادية الناجمة عن الحرب الأوروبيين للجوء إلى الصين، ما زاد غضب واشنطن. لا يوجد حل في الأفق لمعضلة العَلاقات عبر الأطلسي، كان هناك أمل أن تساعد الحرب الروسية على أوكرانيا في معالجة التوتُّرات والانقسام وتوحيد صفوف البيت الغربي، لكن هذا لم يتحقَّق، بل على العكس تصاعدت التوتُّرات أكثر على السطح، مفسحةً مساحة أكبر لروسيا لتنفيذ تحركاتها وخططها في أوكرانيا. ومن المرجَّح أن تحوِّل إدارة بايدن جُلّ اهتمامها إلى الداخل الأمريكي، تاركةً عَلاقاتها عبر الأطلسي على حالها في هذه الفترة، لا سيما أنَّ الانتخابات الرئاسية لعام 2024م ليست بعيدة. هذا الواقع يستدعي من الأوروبيين العمل على الاصطفاف والعمل قوةً موحَّدةً في وجه روسيا، وأن تبدأ باريس وبرلين بتشاور أكثر لإيجاد منفذ لهذه الفوضى في أوروبا، ومحاولة إعادة الحيوية إلى حلف الناتو بالتشاور مع واشنطن، وإلّا سيتعيَّن عليهم مواجهة غضب شعوبهم الغارقة في أزمة غلاء المعيشة. وبلا شك، يمثِّل ذلك امتحانًا صعبًا أمام الحلفاء عبر الأطلسي، وتحدِّيًا ينبغي العمل على تجاوزه لضمان ديمومة هذا الحلف بفاعلية.
([1]) الحمائية: السياسات الحكومة التي تقيِّد التجارة الدولية لدعم الصناعات المحلية. انظر: “Protectionism,” Investopedia, April 11, 2022, accessed December 29, 2022, https://www.investopedia.com/terms/p/protectionism.asp.