قَد يُؤدي الاستياء الشعبي المتزايد إلى ظهور مؤسساتٍ سياسية جديدة في عديد من الدول الأوروبية، وعلى مستوى البرلمان الأوروبي في عام 2024م.
دافعان أساسيان وراء هذا التطوُّر السياسي، أولًا: الخوف من موجة جديدة من الهجرة، ثانيًا: ارتفاع مستوى التضخم في أوروبا منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير 2022م.
ويشكِّل هذا المزيج من العوامل الاجتماعية والاقتصادية التفسير الرئيسي وراء صعود الأحزاب اليمينية المتطرِّفة في جميع أنحاء أوروبا، ويُعزِّز هذا النمو أزمات الهجرة، وفقدان القوّة الشرائية. ويتجلَّى هذا التطوُّر السياسي أيضًا في سياسات عديد من الحكومات داخل الاتحاد الأوروبي.
في الواقع، وفي الوقت الذي يضمحِلّ فيه الانفصال الأيديولوجي عن الأحزاب اليمينية الكلاسيكية، فإنَّ الأحزاب التي تنتمي إلى اليمين الراديكالي، يُمكن أن تكون المستفيد الرئيسي من الانتخابات الأوروبية في يونيو 2024م. وفي أكثر من نصف الدول الأوروبية تُمثِّل الأحزاب اليمينية المتطرِّفة الآن القوّة السياسية الثانية، ما يضعها على أبواب السُّلطة.
ففي فرنسا، يتصدَّر «التجمُّع الوطني» استطلاعات الرأي للانتخابات الأوروبية المقبلة، كما يُعَدُّ اليمين المتطرِّف جزءًا من الائتلافات الحاكمة في السويد وفنلندا ولاتفيا.
ولعامٍ واحد، حكَمَ حزب اليمين المتطرِّف «إخوة إيطاليا» للفاشيين الجُدُد، إيطاليا. وتُعّدُّ أسباب نجاح الشعوبيين اليمينيين هي نفسها في فرنسا كما في ألمانيا، وأيضًا في إيطاليا وإسبانيا، والأسباب تتمحور حول مخاوف من التدهور الاقتصادي والاجتماعي.
بالمقارنة مع الدول الصاعدة، لم تعُد أوروبا تبدو كما كانت مركزًا للعالم، ولم تعُد قادرة على إثبات أهمِّيتها. وفي الوقت نفسه، وعلى الصعيد المحلِّي، لم تعُد الدول الأوروبية قادرة على تقديم نموذج ازدهار مضمون. وتستقطب الأحزاب القومية بشكلٍ أساسي مُريديها من الخاسرين في العولمة، ليس فقط ممَّن فقدوا وظائفهم، بل أيضًا من أولئك الذين يعتقدون أنَّ التغييرات في المرجعيات الثقافية تحدُث بسرعة كبيرة، وهذا يشمل جزءًا من الطبقة الوُسطى الأوروبية. وتُؤثِّر هذه الظاهرة في دول من أوروبا القديمة، وكذلك في دول من أوروبا الشرقية.
في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، كان صعود الجبهة الشعبية ( المعروفة الآن باسم «التجمع الوطني»، الذي أُنشئ في عام 1972م) في الانتخابات حالة فرنسية استثنائية في أوروبا، لكن تغيَّر الحال الآن، فقد أصبحت الأحزاب اليمينية المتطرِّفة لا تحصل في عديد من البلدان الأوروبية على درجات مُماثلة لتلك الموجودة في التجمع الوطني فحسب، بل وأعلى أحيانًا، ناهيك بأنَّ الأنظمة الانتخابية الأوروبية تسمح لهذه الأحزاب بأداء أفضل من اليمين المتطرِّف الفرنسي.
وبالنسبة لليمين الفرنسي المتطرِّف، يبقى الهدف المنشود كما هو في الانتخابات السابقة، تحويل الانتخابات الأوروبية إلى انتخابات نصفية، وستؤدِّي نتيجتها إلى تنظيم الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2027م، عندما يُنهي الرئيس إيمانويل ماكرون فترة رئاسته الثانية، حينها لن يتمكَّن من الترشُّح للرئاسة مرَّة ثالثة.
بدأ صعود «الجبهة الوطنية» الفرنسية يأخذ مجراه في سياقٍ سياسي مُثمِر. ومن إيطاليا إلى الدول الإسكندنافية وألمانيا، يكتسب اليمين المتطرِّف أرضيةً انتخابية، من خلال محاولة استغلال المخاوف من موجة جديدة من الهجرة قادمة من خارج أوروبا لجذب الناخبين الجُدُد.
تشهد أوروبا هذه الظاهرة السياسية في وقتٍ تتراجع فيه قوّة الدول الأوروبية بسبب صعود نظام عالمي «ما بعد غربي»، الأمر الذي فاقَم الحاجة إلى الحماية، وبالتالي زيادة الشعور بالقومية الاقتصادية.
يوجد تزايُد في عدد اتفاقيات الائتلاف، التي تُمهِّد طريق السُّلطة للأحزاب اليمينية المتطرِّفة في جميع أنحاء أوروبا، وبهذا نشهد نهاية المحرَّمات السياسية في أوروبا، ألا وهو الوفاق بين الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرِّفة لتشكيل الحكومات، أو للحصول على الأغلبية في البرلمان.
من المرجَّح أيضًا أن يُحقِّق اليمين المتطرِّف بعض المكاسب، خصوصًا في النمسا، مع إمكانية دخول الحكومة بعد انتخابات سبتمبر 2024م، وقد يكون هو الحزب الأكبر، ووفقًا لأحدث الاستطلاعات، يُمكن أن تحصل مجموعة الهوية والديمقراطية اليمينية في البرلمان الأوروبي على ما يصِل إلى 11 مقعدًا في تصويت يونيو 2024م. ويضم هذا اليمين الراديكالي أحزابًا مناهضة للنظام، ووطنية محافظة، وقائمة على الهوية، وتحرُّرية. وتعتمد تلك الأحزاب على تنفيذ الوعد بحماية مواطنيها من التهديدات الحقيقية أو المٌفترَضة.
وينقسم مختلف الأعضاء المٌنتخَبين في البرلمان من التابعين لأحزاب اليمين الراديكالي إلى مجموعتين رئيسيتين: من ناحية الهوية، التي تشمل بشكلٍ خاص «الحزب الوطني» و«التجمُّع الإيطالي»، ومن ناحية أخرى «المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين».
وبصورة عامة، يمكن أن يفوز المسؤولون المُنتخَبون من اليمين الراديكالي بـ130 إلى 180 مقعدًا في البرلمان الأوروبي المستقبلي، بعد الانتخابات في يونيو 2024م.
ويمكن أن يؤثِّر صعود الأحزاب اليمينية المتطرِّفة في موقف سياسة الاتحاد الأوروبي إزاء قضايا مثل الهجرة، وتغيُّر المناخ، وتوسيع الاتحاد الأوروبي.
أخيرًا، وبالإضافة إلى تأكيد هذه الظاهرة السياسية، يجب علينا الأخذ في الحسبان حقيقة ماثلة، وهي أنَّ الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرِّفة أصبحت الآن جزءًا من الخطاب السياسي السائد في أوروبا، مع التركيز على القضايا القائمة على الهوية والخطاب الاقتصادي، الذي يأخذ في الاعتبار مصالح المواطنين الأوروبيين، الذين يعتبرون أنفسهم الخاسرين من العولمة.