مقدمة
شهدت إيران انتخاباتها الرئاسية في 18 يونيو 2021م في ظل ضغوط داخلية وخارجية يعاني منها النظام الإيراني، وأسفرت نتائج الانتخابات عن فوز المرشح «المتشدد» إبراهيم رئيسي، في منافسة بدَت محسومةً مسبقًا، وقد اكتسبت هذه الانتخابات أهميتها في ظل التطورات التي تمرُّ بها إيران داخليًّا وخارجيًّا، إذ من المتوقع أن يكون لنتائجها تأثيرٌ مهم على جملة الأوضاع في الداخل وعلى علاقات إيران الخارجية، ويحاول تقدير الموقف هذا أن يتابع أهم تطورات هذه الانتخابات ونتائجها ودلالاتها وتأثيراتها داخليًّا وخارجيًّا.
أولًا: الانتخابات وأبعاد الأزمة في إيران
جرت الانتخابات الرئاسية في ظل أوضاع داخلية حرجة بعدما عادت إيران إلى العزلة والحصار وفشلت جهود حكومة الرئيس حسن روحاني في تنفيذ برنامجها، وهو الأمر الذي أدى إلى زيادة حدة التنافس بين جناحي النظام. فمن جانبه وجَّه «الجناح المتشدد» انتقادات حادة للرئيس حسن روحاني و«الإصلاحيين» من مدخل المسؤولية عن الأوضاع التي ترتَّبت على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي. وتمكنوا من تحميل الرئيس روحاني وحكومته مسؤولية فشل الاتفاق، واستغلوا الضغوط الخارجية لإفشال سياساته وأهداف حكومته، لا سيما رغبته في تقليص هيمنة «الحرس الثوري» على الاقتصاد الإيراني، بل امتلك الحرسُ زمام المبادرة بعد عودة العقوبات، ولعب دورًا أساسيًّا في إدارة الأزمة الاقتصادية، وأصبح للمرشد علي خامنئي والمؤسسات الموازية شرعيةً كبيرة في توجيهِ الانتقادات لروحاني وحكومته، وفرضِ تغييرات على أفراد الحكومة، وتعديل بعض السياسات في إطار اقتصاد المقاومة، مع تبني سياسة المواجهة والتصعيد المتبادل في مواجهة الضغوط الخارجية، ومن أبرزها تخفيض التزامات إيران النووية ورفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60 % وتعطيل مهمة التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أما «الإصلاحيون» فقد وجَّهوا بدورهم انتقادات لــ «المتشددين» طالت المرشد والمؤسسات الموازية، وانعكس تأثيرها السلبي على أوجُه الإنفاق في الميزانية العامة؛ وبالتالي المسؤولية عن تدهور الأوضاع الاقتصادية، لكن أدى هذا الصراع في النهاية إلى إضعاف الرئيس و«التيار الإصلاحي» الداعم له، وتقوية جناح المرشد و«الحرس الثوري».
وقد بلغت الأزمة ذروتها في هجوم حكومة روحاني على المرشد والمؤسسات الموازية التي تحرِم الحكومة من تنفيذ برامجها وخططها، وكانت تسريبات وزير الخارجية محمد جواد ظريف حول «الحرس الثوري» ودور وزارة الخارجية الهامشي في القرار الخارجي آخرَ حلقات هذا الصراع. وبالمقابل حمَّل «المحافظون» روحاني وحكومته المسؤولية عن تدهور الأوضاع لثقته في الغرب وتعويله على الاتفاق النووي لمعالجة أزمات البلاد.
وعلى الجانب الاقتصادي والاجتماعي فإنَّ الأوضاع المعيشية تزداد سوءًا في ظل الأزمة الاقتصادية التي خلَّفتها العقوبات الأمريكية، فضلًا عن جائحة «كورونا» وسوء إدارة الحكومة للأزمة.
وعلى المستوى الخارجي، فعلى الرغم من بقاء العقوبات، إلَّا أنَّ رحيلَ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وتولي الرئيس جو بايدن الإدارةَ الأمريكية مثَّل فرصةً مهمة لرفع الضغوط عن النظام الإيراني، خصوصًا في ظل التأييد والدعم الروسي والصيني لطهران، والرغبة الأوروبية في إحياء الاتفاق النووي. حيث أُعيد الاعتبار لمسار الدبلوماسية من جديد. كما أبدت حكومة روحاني انفتاحًا على الحوار غير المباشر مع واشنطن في محاولة للعودة للاتفاق النووي وتبييض وجهها وتحسين موقفها الداخلي في مواجهة «المحافظين»، فيما سعى «المحافظون» إلى تعطيل مسار المفاوضات لحرمان «الإصلاحيين» من أي مكسبٍ شعبي يُعزز مركزهم قبل إجراء الانتخابات.
وجرت الانتخابات بينما لا تزال مفاوضات فيينا متعثرة ومستقبلها غامض، وذلك في ضوء الفجوة في التطلعات بين الجانبين الإيراني والأمريكي، حيث تتطلع إيران إلى رفع العقوبات الأمريكية قبل العودة لالتزاماتها النووية، مع تأمين ضمانات بعدم تعرُّضها للعقوبات مرةً أخرى، وهو الأمر الذي لا يلقى قبولًا أمريكيًّا. وقد كانت هناك رغبة في حسم ملف المفاوضات قبل الانتخابات بحيث لا تؤثر نتائجها على مسار المفاوضات، لا سيما أنَّ حكومة روحاني تُبدي مرونةً في مسألة المفاوضات، لكن هذا لم يحدث.
كذلك جاءت الانتخابات في ظل علاقات متوترة مع دول الجوار، لا سيما دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وهي مواجهة حمَّلت إيران تكلفةً باهظة، ولم تجنِ من تدخلاتها الإقليمية إلا مزيدًا من تدهور الأوضاع الداخلية.
وينتظر الجميع بترقُّب مراجعاتٍ حقيقية من جانب طهران من أجل تهدئة التوترات واستعادة الاستقرار الإقليمي بما يعود على جميع دول المنطقة وشعوبها بالفائدة.
ثانيًّا: الهندسة السلطوية للانتخابات وأولوية المشاركة على المنافسة
يضعُ النظام السياسي الإيراني بطبيعته الدينية السلطةَ الفعلية في يدِ المرشد والأجهزة غير المنتخبة، أو ما تُعرف بالمؤسسات الموازية، ويعدُّ مجلس صيانة الدستور الآليةَ الفاعلة في يدِ المرشد لضبط العملية الانتخابية تحديدًا، وضمان عدم تأثير مخرجاتها على غاياته وتوجُّهاته الثورية.
ومؤخرًا، اندفع «المتشددون» نحو الهيمنة على كافة مراكز صُنع القرار، وفي هذا الإطار قام مجلس صيانة الدستور في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في فبراير 2020م، باستبعاد كافة العناصر «الإصلاحية»، وتمكين «المحافظين» من الهيمنة على البرلمان، وهو الأمر الذي حدث في الانتخابات الرئاسية نفسها من خلال استبعاد أبرز الوجوه «الإصلاحية»، حيث استُبعد إسحاق جهانغيري بالإضافة إلى ثمانية مرشحين آخرين يُفترض أن يمثلوا «الجبهة الإصلاحية». ولضمان فوز المرشح المفضل لـ «المحافظين» تم كذلك استبعاد اثنين من أبرز المنافسين، وهما الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني.
بهذا جرى تمهيد الطريق أمام مرشح المرشد إبراهيم رئيسي لخوض انتخابات في مواجهة منافسين لا يتمتَّعون بشعبية وقاعدة انتخابية مؤثرة، وذلك في ظل رغبة من جانب «الجناح المتشدد» ممثلًا في المرشد و«الحرس الثوري» للحفاظ على مصالحهم السياسية والاقتصادية، فضلًا عن محاولة تثبيت أركان النظام في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرَّض لها، وضخ دماء ثورية جديدة في ظل تراجع وهَجِ الثورة والمؤيدين لها.
مع اقتراب موعد الانتخابات لم يتمكن «الإصلاحيون» من الاتفاق على مرشح بعينه، ربما لخيبة أملهم في روحاني الذي لم يفِ بوعوده الإصلاحية، فضلًا عن الإحباط من قرارات مجلس صيانة الدستور وإبعاد أبرز مرشحيهم.
وفي مقابل تشتُّت «الإصلاحيين» وعدم وجود مرشحٍ قوي يمثلُهم، كان «المحافظون» ملتفين حول إبراهيم رئيسي، وقد طالب 210 نواب في البرلمان، في بيانٍ موجَّه لعلي رضا زاكاني، وأمير حسين قاضي زاده هاشمي، ومحسن رضائي، وسعيد جليلي، بالانسحاب لصالح إبراهيم رئيسي. وبالفعل انسحب علي رضا زاكاني وسعيد جليلي من السباق الرئاسي الإيراني لصالح رئيسي، بينما دعت العديدُ من الأطراف لمقاطعة الانتخابات وروَّجت لشعار «لن أصوت»، وذلك اعتراضًا على العملية الانتخابية التي يرون أنها تمثيلية سياسية غير نزيهة وغير حرّة.
قبل بدء العملية الانتخابية بدا حرصُ النظام على تحقيق مشاركة انتخابية كبيرة أكثر من حرصِه على نزاهتها وتنافسيتها، وذلك يعود إلى الدور الذي تلعبه الانتخابات الإيرانية تاريخيًّا للنظام الحاكم في إيران منذ الثورة، حيث أنها ستارٌ لإعادة إنتاج الشرعية السياسية للطبقة الحاكمة وتأكيد مصالحها. لهذا على الرغم من هندسة التنافس واقتصاره على مرشحين بعينهم، فإنَّ كافة الأسماء التي تم استبعادُها سواءً من خلال مجلس صيانة الدستور أو من خلال طُرقٍ أخرى، فقد أكَّدت ودَعَت الجماهير إلى المشاركة. فمثلًا إسحاق جهانغيري في سلسلة تغريدات على حسابه في «تويتر» كتبها في 16 يونيو الجاري، قال: «رغم كل الشكاوى، يجب التفكير في مستقبل إيران والوطن والنظام والذهاب إلى صناديق الاقتراع لحماية الجمهورية».
وبالمثل دعا لاريجاني إلى المشاركة، وكذلك ظريف، ومن جانبه اعتبر روحاني المشاركةَ في الانتخابات دفاعًا عن الجمهورية والدستور وإرث الخميني.
أما الرئيس الأسبق محمد خاتمي فقد دعا هو الآخر للمشاركة، وحتى مهدي كروبي الذي يقبعُ في الإقامة الجبرية منذ 2009م قد شارك في الانتخابات وصوَّت لصالح عبد الناصر همتي، فيما غرَّد نجاد منفردًا بإعلانه مقاطعةَ الانتخابات.
ثالثًا: النتائج ودلالاتها
أسفرت نتائج الانتخابات عن فوز إبراهيم رئيسي بمنصب رئيس الجمهورية، وذلك في عملية انتخابية خلَت من التنافس تمت هندستُها سلطويًّا قبل بدايتها، حيث حصل رئيسي على 17.9 مليون صوت بما يعادل 61.95% من أصوات المقترعين بفارقٍ كبير عن كافة منافسيه، وكانت هذه النتائج متوقعةً إلى حدٍ بعيد. ويوضح الجدول أدناه عددَ الأصوات التي حصل عليها كلُّ مرشح وعددَ البطاقات البيضاء والملغاة.
جدول (1): عدد الأصوات التي حصل عليها مرشحو الرئاسة الإيرانية والبطاقات البيضاء والملغاة
م | عدد الأصوات | اسم المرشح | النسبة المئوية | |
1 | 17926345 | إبراهيم رئيسي | %61.95 | |
2 | 3412712 | محسن رضائي | %11.79 | |
3 | 2427201 | عبد الناصر همتي | %8.38 | |
4 | 999718 | أمير حسين قاضي زاده هاشمي | %3.45 | |
5 | 3726870 | الأصوات الملغاة والبيضاء | %12.88 |
المصدر: https://bit.ly/3qfLc1O
وقد بلغت نسبة المشاركة 48.8%، إذ من إجمالي 59 مليونًا و310 آلاف و307 إيرانيين يحقُّ لهم المشاركة في الانتخابات، شاركَ 28.8 مليون إيراني، وتُعد هذه النسبة هي الأقل في تاريخ الانتخابات الرئاسية التي أجرتها إيران منذ قيام ثورتها في 1979م، حيث كانت أقل نسبة مشاركة قبل هذه الانتخابات تعود لانتخابات 1993م، والتي بلغت نسبة المشاركة فيها 50.6 %. وإذا ما قارنَّا هذه النتائج بالانتخابات السابقة أيّ انتخابات 2017م التي فاز فيها حسن روحاني بنسبة مشاركة بلغت أكثر من 73%، فإن الفرق بينهما يصل إلى نحو 25%.
وفي الواقع فإنَّ تنظيم انتخابات المجالس المحلية التي تمت بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية، عزّزت من المنافسة لا سيما في المناطق الريفية والمناطق التي تتسم بتركيبةٍ إثنية وطائفية متداخلة، الأمر الذي يفترض أن يزيد من نسبة المشاركة إلى حدٍّ بعيد، غير أن تواضع نسبة المشاركة يكشفُ عن تراجعٍ كبير لشرعية النظام وحالة من اللامبالاة الشعبية وربما إحباط من الأوضاع الاقتصادية والسياسية، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن النظام كان ينظر لهذه الانتخابات بمثابة استفتاءٍ على شعبيته.
هذا وقد أظهرت النتائج ارتفاعًا غير مسبوق في عدد البطاقات البيضاء، حيث أقدم الناخبون على ترك أوراق الاقتراع بيضاء أيّ بدون التصويت لأيٍّ من المرشحين.
ووفقًا لوزارة الداخلية فقد بلغ مجموع الأصوات البيضاء فضلًا عن الأصوات الملغاة أكثر من 3.7 مليون صوت أيّ نحو 13% من مجموع الأصوات، ما يعني أنَّ مجموع هذه الأصوات كان أكثر مما حصل عليه محسن رضائي الذي حلَّ ثانيًّا بعد إبراهيم رئيسي، الأمر الذي أثار سخرية الشارع الإيراني الذي اعتبر أنَّ الأصوات البيضاء والباطلة حلت في المرتبة الثانية بعد رئيسي.
ويفسر هذه الظاهرة أن بعض المقترعين قرّروا المشاركة في الانتخابات، لكن المرشحين الأربعة لم يكونوا ضمن خياراتهم لذا فضلوا إيداع الورقة بيضاء اعتراضًا على رفض أهلية مرشحيهم المفضلين. وتحدث البعض عن أن هناك ناخبين أودعوا أوراق الاقتراع في داخل صناديق الاقتراع لكنها بيضاء أي لم ينتخبوا أيَّ مرشح، وذلك لتجنب الملاحقة أو الاتهام بعدم التصويت ومعاداة النظام خاصةً في بعض المؤسسات التي تُلزم العاملين فيها بالتصويت.
كما يخشى البعض من الفصل من الخدمة أو الحرمان من الامتيازات التي تقدمها تلك المؤسسات لمنسوبيها، أو الحرمان من الحصول على فرص العمل. وأخيرًا هناك عاملٌ آخر وهو أن الانتخابات الرئاسية جرت بالتزامن مع انتخابات المجالس المحلية، وتحدَّثت بعض المصادر عن أن كثيرًا من هؤلاء المقترعين لم يكونوا بصدد المشاركة في الانتخابات الرئاسية وأنهم توجهوا للتصويت فقط في انتخابات المجالس بدوافع محلية وخدمية، لكن السلطات أرغمتهم على التصويت في الانتخابات الرئاسية كذلك، لذا عمدَ الكثيرُ منهم إلى ترك أوراق التصويت بيضاء اعتراضًا على إرغامهم على التصويت.
والواقع أن خصم نسبة هذه البطاقات البيضاء التي بلغت نحو 13% من نسبة المشاركة والتي بلغت 48.8% يكشف عن مدى عدم الرضا عن الخيارات المطروحة في ورقة الاقتراع أو عدم الرضا من النظام السياسي ككُل، ويكشف عن مدى فشل كافة محاولات النظام في عملية الحشد والتعبئة على الرغم من تسخير كافة إمكانياته وأدواته لحثِّ الناخبين على المشاركة.
ونظرًا لأن الانتخابات في إيران بمثابة استفتاء على النظام ككُل وليست عمليةً تنافسيةً حقيقية والبرلمان ليس فاعلًا في السياسة بقدرٍ كافٍ، فإن هذه النسبة تُعطي مؤشرًا على أن قاعدة تأييد النظام تتآكل، فهي المشاركةُ الأقل منذ الثورة، ويتصل ذلك بما قبلها من تعبئة اجتماعية واحتجاجات واسعة آخرها احتجاجات الوقود في نوفمبر 2019م، والاحتجاجات التي أعقبت سقوط الطائرة الأوكرانية في يناير 2020م.
رابعًا: تداعيات انتخاب رئيسي
لا شكَّ أن واحدةً من الوظائف الأساسية لأي عملية انتخابية هي تهدئة التوترات الاجتماعية وامتصاص مطالب الجماهير، لكن نظرًا للهندسة السلطوية للعملية الانتخابية ووظيفتها المحدودة في تمكين الطبقة الحاكمة في إيران، فإن شرعيةَ النظام ستظل محلَّ تساؤل، لا سيما أن الرئيس المنتخب يمثل قمة الجهاز القمعي الإيراني، الذي تورَّط ولا يزال في قهر الشعب الإيراني وإسكاته.
وتاريخ رئيسي وسجلُّه على المستوى الإنساني والحقوقي، يؤكد أنه لا مجال لأي إصلاحات داخلية، بل مزيدًا من القمع، فهو متهمٌ بالمشاركة فيما يسمى بـ «لجنة الموت» التي أمرت بإعدام آلاف السجناء السياسيين في عام 1988م، كما كان من المؤيدين بعد الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها لعام 2009م للحملات القمعية الوحشية التي تلت تلك الانتخابات، وطرح مديرو حملته تقييد الوصول إلى الإنترنت. ويعوَّلُ عليه في لجمِ موجات التغيير والتغريب لا سيما بين الشباب، حيث ينظر النظام إلى هذه الموجات على أنها تهدِّد ثوابت الثورة الإيرانية ومرتكزاتها.
وعلى الجانب الاقتصادي ليس من المتوقع أن يقود رئيسي إصلاحات اقتصادية ذات مغزى، إذ إنَّه يعكس وجهة نظر القوى الاقتصادية المهيمنة لا سيما «الحرس الثوري»، والمؤسسات الاقتصادية الموازية، إذ سبق وأن عيّنهُ المرشد الأعلى علي خامنئي ليكون حارسًا على مؤسسة «آستان قدس رضوي»، وهي مؤسسةٌ خيرية ذات أصولٍ تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. وقد شغِلَ هذا المنصب لمدة ثلاث سنوات بدايةً من عام 2016م، كما أنه يرى أن الأوضاع في بلاده لا علاقة لها بالعقوبات، بل مرتبطةٌ بسوء الإدارة الداخلية.
وعلى الأرجح سيحتفظ رئيسي بخط المرشد وسيكون ظله في الرئاسة، لا سيما أنه يُعتبر الخليفةَ المحتمل لخامنئي، وقد تمت ترقيته مؤخرًا إلى رتبة «آية الله»، وهو ما يُجنبه المأزق الذي تعرَّض له خامنئي حين دفعت به مؤسسات السلطة لتولي منصب المرشد في حين لم تصل رتبته الدينية إلى هذه المنزلة، ومن ثم ستنصبُّ جهود رئيسي في جعل إيران جمهوريةً أكثر «إسلامية» وأقلَّ «جمهورية» من خلال تعزيز ولاية الفقيه واتباع نهج مرشديَها الخميني وخامنئي ليحوزَ أهليةَ تولي المنصب، كما سيكون قريبًا من الفصائل المتشددة كرجال الدين و«الحرس الثوري» الذين لهم تأثيرٌ كبير على اختيار خليفةِ خامنئي.
باختيار رئيسي يكون المرشد خامنئي قد تخلَّص من الانتقادات التي كانت توجَّه له من الرؤساء السابقين (سواءً «المحافظين» أو «الإصلاحيين»)، حيث دخول عددٍ من هؤلاء الرؤساء في خلافاتٍ شديدة معه أثناء توليهم لرئاسة الجمهورية وأبدوا اعتراضهم على تدخلات مؤسسة المرشد في بعض الصلاحيات الممنوحة لهم، وشكا البعض الآخر مثل الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني من قِلَّة الصلاحيات الممنوحة لهم.
وعلى مستوى الخارج، سيلتزمُ رئيسي بثوابت النظام فيما يتعلق بالسياسة الخارجية المدفوعة بالهوية، وربما يتَّخذ موقفًا متشددًا حيال المفاوضات والعلاقة مع الولايات المتحدة، باعتباره يمثل حالةَ الصفاء الثوري والمبادئ الخارجية المترسخة، وهذا ما قد يدفع الولايات المتحدة وأوروبا إلى الإسراع من أجل الوصول إلى صفقة قَبل مغادرة روحاني؛ وهي بالتأكيد مغامرة غير محسوبة ستُعطي رئيسي و«التيار المتشدد» مبررًا للاحتفاظ بسياساتهم العدائية دون تقديم تنازلات جوهرية.
هذا السيناريو في الواقع قد يمنحُ رئيسي اتفاقًا جاهزًا لن يتحمل عواقبه بل سيجني ثماره لتحسين صورة «التيار المحافظ»، لكن لو تأجلت المفاوضات قد يكون رئيسي مضطرًا إلى الإبقاء على الحوار المفتوح مع الغرب حاليًّا والمفاوضات بشأن العودة للاتفاق النووي. لكنه سيكون أكثر تحفظًا في حكومة روحاني، وسيكون في النهاية منفذًا لرغبة المرشد و«الحرس الثوري»، ومن ثم فإن حكومته ستكون أكثر تشددًا بشأن المطالب الإيرانية برفع العقوبات الأمريكية أولًا، ومسألة التحقق من تنفيذ ذلك، فضلًا عن طلب ضمانات بعدم خروج الولايات المتحدة من الاتفاق مرةً أخرى، وهذا قد يُطيل من أمدَ المفاوضات.
إنَّ رئيسي بحاجة إلى معالجة عاجلة للأزمة الاقتصادية للحفاظ على شرعية الطبقة الدينية الحاكمة، ومن ثم فإنه قد يُبدي مرونةً لا سيما أنَّ العودة للاتفاق النووي قد تُعزز من شرعيته، وقد تُعيد للنظام بعضًا من شعبيته المتآكلة، خصوصًا إذا رُفعت العقوبات ورُفدت الميزانية بعشرات المليارات من الدولارات من الأرصدة المجمدة ومن عائدات تصدير البترول والبتروكيماويات والمعادن والمنتجات الإيرانية المختلفة. لكن الخوف من أن مواقِفه قد تكون عائقًا أمام اندفاع المستثمرين الأجانب نحو إيران في حال تمت العودةُ للاتفاق النووي، إذ هناك حالة من عدم اليقين بشأن سياساته الخارجية التي لم تظهر في برنامجه الانتخابي.
وحتى مع العودة للاتفاق النووي فستكون هناك خطوطٌ حمراء في ظل حكومة رئيسي، أمام تحقيق الولايات المتحدة لمكاسب اقتصادية مهمة، حيث ستكون إيران في ظل ولايته أكثر اعتمادًا على روسيا والصين وأقل رغبةً في الانفتاح على الغرب والولايات المتحدة، وذلك وفق توجهاتٍ أيديولوجية يرعاها المرشد و«الحرس الثوري» انطلاقًا من مبادئ الثورة التي جاء رئيسي من أجل الحفاظ على استمراريتها، ونظرًا لسياسة التوجه شرقًا التي يتبنّاها النظام خلال الآونة الأخيرة.
وسيظل موقف إيران من القوى الإقليمية مرتبطٌ بحدوث تطورٍ على صعيد الاتفاق النووي، وبالضغوط الدولية والإقليمية لضبط سلوك إيران، إذ بغيرِ ذلك سيكون رئيسي أميلَ إلى خطِ «الحرس الثوري» و«المتشددين» في تبني سياسةٍ إقليمية مدفوعة بنزعةٍ مذهبية لتنفيذ طموح إيران في البقاء كقوةٍ إقليمية نافذة، وهو ما سيُقابل بسياسةٍ إقليمية أكثر صرامة.
على أية حال، الكرة الآن أصبحت في ملعب «المتشددين» الذين يتصدرون المشهد ويستحوذون على السلطات الثلاث، واللوم الذي أُلقي على روحاني بفشل خططه الاقتصادية، أو الرهان الخاسر على الاتفاق النووي، جميعها أصبحت في جُعبة «المتشددين»، فهل ستنجحُ سياستُهم في إيقاف تراجُع الشرعية، وهل يمكن أن يقدموا مقاربةً لمواجهة الضغوط الخارجية وإعادة النظر في سياساتهم الإقليمية والعلاقة مع الولايات المتحدة بما ينزعُ عن السياسة الإيرانية واحدًا من أكثر القيود والتهديدات غير المسبوقة للنظام، أم سيعودون إلى المبادئ الأيديولوجية المنبثِقة عن ولاية الفقيه؟.