لم تحسم الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التي شهدتها إيران في 28 يونيو 2024، السباق بين المرشحين الأربعة الذين خاضوا الانتخابات، مسعود بزشكيان الذي يمثل التيار «الإصلاحي»، وكل من محمد باقر قاليباف ومسعود جليلي ومصطفى بور محمدي، الذين يمثلون التيار «المحافظ». وأسفرت النتائج عن جولة إعادة بين المرشح «الإصلاحي» مسعود بزشكيان، ومرشح التيار «المتشدد» سعيد جليلي، ومع أن الانتخابات قد جرت في أجواء إيجابية من جهة الإجراءات، ومجريات التصويت يوم الانتخاب، غير أن نتائجها، ولا سيما ما يتعلق بنسبة المشاركة، جاءت مخيبة لآمال النظام الإيراني. في هذا الإطار يمكن إلقاء الضوء على نتائج هذه الانتخابات ودلالاتها وأهم تداعياتها المحتملة.
أولًا: ما يميز البيئة الانتخابية الراهنة من البيئات السابقة
أُجريت الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدتها إيران، في ظل توقيتات ضاغطة للغاية على النظام الإيراني نتيجة للمدة القصيرة المتاحة للترتيبات للانتخابات الرئاسية، التي فرضتها ظروف رحيل الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرته شمال غرب إيران، لربما تؤثر هذه الظروف في فرص النظام في فرض الترتيبات اللازمة لانتخاب المرشح المفضل ضمن إستراتيجية النظام لتوطيد مفاصل الدولة الإيرانية في قبضة «المحافظين».
في المقابل، أُجريت جولة الانتخابات الرئاسية الماضية في 2021م، التي فاز فيها الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، بشكل مرتب ومدروس في توقيتات غير ضاغطة على النظام، ما وفَّر له الفرص الكافية لإجراء الرتيبات اللازمة للاتفاق على المرشح المفضل للرئاسة، وهو ما يسَّر مسألة وصول إبراهيم رئيسي إلى رأس السُّلطة التنفيذية في إيران، فالرئيس الإيراني في الجولة السابقة كان شبه معروف مسبقًا، بينما في الجولة الأخيرة كان المرشح المفضل للنظام مبهمًا وغير معروف.
كذلك بخلاف الجولة السابقة، لعبت البيئة الداخلية في الجولة الانتخابية الرئاسية التي أُجريت يوم الجمعة 28 يونيو2024 دورًا مؤثرًا في نتائج الانتخابات الرئاسية، نتيجة التوقيت الضاغط لوضع ترتيبات كافية تضمن عملية تأمين الرئاسة للتيار «المحافظ»، وبالتالي كان للمتغيرات الداخلية، المتمثلة في تنامي حالة الاحتقان الواسع لشريحة مجتمعية كبيرة من هيمنة «المحافظين» على السلطة في إيران ومن سياسات النظام الداخلية والخارجية، دور في فرص المترشحين بخلاف الجولة السابقة، ويتضح ذلك من النتائج النهائية التي أعلنتها وزارة الداخلية الإيرانية.
لذلك، لعبت المعطيات الداخلية دورًا بارزًا في تعزيز فرص تقدم مرشح التيار الإصلاحي، مسعود بزشكيان، بشكل لم يتوقعه كثيرون في إيران وخارجها، في مفارقه مع تراجع فرص التيار الإصلاحي بشكل كبير في المعادلة الإيرانية مقابل هيمنة المحافظين على الحكم خلال السنوات الماضية. وحتى إن حسمت جولة الإعادة لصالح مرشح التيار المحافظ، سعيد جليلي، ستكون هذه الانتخابات كاشفة للغاية لمسألة الدور الكبير الذي تلعبه الترتيبات الانتخابية للنظام في التأثير على فرص الإصلاحيين للوصول إلى السُّلطة، بدليل أنه عندما تقلصت الترتيبات الخاصة بالنظام ازدادت فرص الإصلاحيين وتراجعت حظوظ المحافظين إلى درجة خروج قاليباف من السباق الرئاسي وتأرجح المعركة بين بزشكيان وجليلي.
بخلاف جولة الانتخابات السابقة، التي سعى خلالها النظام إلى تعزيز خيارات تأمين مسألة تحديد خليفة للمرشد، وحسم الصراع بين المحافظين والإصلاحيين في الحكم من خلال هندسة العملية الانتخابية لصالح المحافظين، وتحديدًا وصول شخص إبراهيم رئيسي لكرسي الرئاسة، جرت الانتخابات الأخيرة في ظل ضبابية للمشهد الانتخابي، وكان السؤال الرئيس قبل عملية الاقتراع: هل سيعود صراع الثنائية في الحكم حال حسم معركة الرئاسة لصالح بزشكيان، المدعوم من روحاني وظريف والإصلاحيين الراغبين في بناء علاقات فعالة وإيجابية مع العالم؟ أم ستُحسم مجددًا لصالح التيار المحافظ؟
كذلك أُجريت الانتخابات الأخيرة، بخلاف الانتخابات الماضية، في ظل حيرة الناخبين في التصويت بين اثنين من كبار رموز التيار المحافظ: قاليباف وجليلي، ما من شأنه تشتيت الأصوات للتيار المحافظ، مقابل تعويل المرشح الإصلاحي الوحيد على تعدد منافسيه المحافظين في تحقيق اختراق في المعركة الانتخابية.
ثانيًا: النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية
لقد شارك في هذه الانتخابات الرئاسية المبكرة 4 مرشحين، هم الإصلاحي مسعود بزشكيان، الذي وجد دعمًا كبيرًا من القيادات الإصلاحية والمعتدلة، إضافة إلى ثلاثة مرشحين يمثلون التيار المحافظ، وهم رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، وسعيد جليلي، فضلًا عن رجل الدين الوحيد في هذه الانتخابات مصطفى بور محمدي. وقبل بدء الاستحقاق الرئاسي انسحب اثنان من المرشحين المحافظين، هما أمير حسين قاضي زاده هاشمي وعمدة العاصمة طهران، علي رضا زاكاني.
ونتيجة للإقبال الضعيف على مراكز الاقتراع ورغبة النظام الإيراني في زيادة نسبة المشاركة، اضطرت وزارة الداخلية إلى تمديد عمليات التصويت، التي كان مقررًا أن تنتهي عند الساعة 18:00 من مساء الجمعة 28 يونيو 2024، ثلاث مرات، لمدة ساعتين في كل مرة.
وحسب النتائج النهائية التي أعلنتها وزارة الداخلية الإيرانية، فقد بلغ عدد المقترعين في هذه الانتخابات 24.535.185 صوتًا، بنسبة مشاركة وصلت إلى 40%، وهي النسبة الأقل في تاريخ الانتخابات الرئاسية التي أجرتها إيران منذ انتصار ثورتها في 1979م.
وكشفت النتائج أن أيًّا من المرشحين الأربعة لم يتمكن من حسم نتيجة الانتخابات لصالحه بالحصول على أكثر من خمسين بالمئة من مجموع الأصوات، فقد حلَّ المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان أولًا بحصده أكثر من عشرة ملايين صوت، وجاء في المرتبة الثانية المرشح المحافظ سعيد جليلي بحصوله على نحو 9 ملايين وثلاثمائة ألف صوت، أما المرشح المحافظ ورئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف فقد حصل على المركز الثالث بمجموع أصوات لم تكن متوقعة، إذ بلغت أقل من ثلاثة ملايين ونصف المليون صوت، فيما حصل مصطفى بور محمدي، رجل الدين ووزير العدل في حكومة حسن روحاني، على أقل الأصوات التي لم تصل إلى 207 آلاف صوت. وبهذه النتيجة ينتقل كل من المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان والمرشح المتشدد سعيد جليلي إلى جولة الإعادة، المقررة يوم الجمعة المقبل الموافق 5 يوليو 2024م، كونهما حصلا على أعلى الأصوات في الجولة الأولى.
ويوضح الجدول أدناه عددَ الأصوات التي حصل عليها كلُّ مرشح، إضافة إلى الأصوات الباطلة.
جدول (1): عدد الأصوات التي حصل عليها مرشحو الرئاسة الإيرانية
اسم المرشح | التيار | عدد الأصوات | النسبة المئوية |
مسعود بزشكيان | الإصلاحي | 10.415.991 | 42.45 |
سعيد جليلي | المحافظ | 9.473.298 | 38.61 |
محمد باقر قاليباف | المحافظ | 3.383340 | 13.79 |
مصطفى بور محمدي | المحافظ | 206.397 | 0.84 |
الأصوت الباطلة | 1.056.159 | 4.31% |
المصدر: https://2u.pw/6o2I2qZ3 وhttps://2u.pw/smC2d9qK
كشفت النتائج استمرار المنحنى التنازلي لنسبة المشاركة في الانتخابات، في مؤشر واضح على فشل كل المخططات التي رسمها النظام الإيراني لزيادة نسبة المشاركة، بما في ذلك موافقة مجلس صيانة الدستور على ترشيح الإصلاحي مسعود بزشكيان، إضافة إلى ذلك فقد أظهرت النتائج ارتفاعًا كبيرًا في الأصوات الباطلة، التي بلغت نسبتها 4.31%، وذلك يشير إلى أن عددًا كبيرًا من الناخبين قرروا الحضور إلى مراكز الاقتراع لكن بترك أوراق الاقتراع بيضاء أو عدم اتباع الشروط المتعلقة بالتصويت الصحيح، ربما للتعبير عن الغضب من سياسات النظام، أو لتجنب الملاحقة أو الفصل من العمل أو الاتهام بعدم التصويت ومعاداة النظام، خصوصًا في بعض المؤسسات التي تُلزم العاملين التصويت في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.
إصرار كل من محمد باقر قاليباف وسعيد جليلي على عدم الانسحاب من السباق الرئاسي لصالح أحدهما، أدى إلى تشتيت أصوات التيار المحافظ، وهو ما انعكس سلبيًّا على حظوظهم في حسم الانتخابات من الجولة الأولى، وبالتالي إفساح المجال لمسعود بزشكيان، المدعوم من التيار الإصلاحي والمعتدلين، للتفوق على سعيد جليلي والانتقال إلى جولة الإعادة.
ثالثًا: دلالات العملية الانتخابية
يمكن القول إن العملية الانتخابية تشير إلى عدد من الدلالات، أهمها:
1. استعادة التيار الإصلاحي الزخْم السياسي: تشير نتائج الانتخابات، التي حلَّ فيها بزشكيان في المركز الأول، إلى نجاح حملته الرئاسية في استقطاب تأييد المعتدلين، فضلًا عن التيار الإصلاحي الذي كان يعاني من انقسامات وتشتت منذ نهاية فترة الرئيس روحاني، ومع أن السماح للإصلاحيين بخوض السباق بالأساس جاء برغبة من النظام، لكن أداء الإصلاحيين أثبت أنهم يمتلكون حضورًا سياسيًّا، ولديهم قاعدة شعبية لا بأس بها.
2. فشل النظام في توسيع نطاق المشاركة: على الرغم من أن هندسة العملية الانتخابية من جانب مجلس صيانة الدستور كانت تستهدف جذب التيارات كافة إلى صندوق الانتخابات، سواء الإصلاحيين أو أجنحة التيار المحافظ، إذ جرى النظر إلى السماح لبزشكيان على أنه تكتيكي، ورغم أن المرشد قال «إن مشاركة الشعب جزء من جوهر الدولة واستمرار وجود الجمهورية الإسلامية ومكانتها في العالم مرتبط بمشاركة الناس»، فإن نسبة المشاركة جاءت الأقل في تاريخ إيران منذ الثورة، وهو ما يشير إلى أن دعوات المرشد إلى المشاركة من أجل مستقبل النظام لم تجد لها صدى، لا سيما بين الأجيال الجديدة، وإلى استمرار تراجع شعبية النظام وشرعيته.
3. تعزيز المتشددين داخل التيار المحافظ: بينما كانت تذهب استطلاعات الرأي إلى أن قاليباف، الذي يوصف بأنه الأقل تشددًا داخل التيار المحافظ، هو الأكثر حظًّا من جليلي، ممثل التيار المتشدد، جاءت النتائج بعكس ذلك، وهو ما يعني أن الجناج المتشدد هو الأكثر تأثيرًا بين المحافظين، ولديه قاعدة تأييد أوسع بين المحافظين، وهو أمر يتسق مع الهمينة المتزايدة لهذا التيار داخل المؤسسات، وإذا ما نجح جليلي في جولة الإعادة، فإن المتشددين من المحافظين سيكونون قد وضعوا أيديهم على أغلب المؤسسات.
4. إحباط الرأي العام وفشل في امتصاص الغضب الشعبي: تشير نتائج الانتخابات إلى أن النظام لم ينجح في أن يوظف الانتخابات في جذب القطاعات التي لديها معه موقف حاسم، بما في ذلك جيل «زد»، أو الحركات الاجتماعية الرافضة للنظام، وقد ظهر ذلك جليًّا في النتائج، فقرابة 60% عزفوا عن المشاركة بجانب أكثر من 4% من الأصوات الباطلة، وهو عدد لا شك كبير، ما يشير ليس فقط إلى رفض المرشحين، بل رفض النظام ككل، وفي جوهره يعني إحباطًا كبيرًا لدى الرأي العام الإيراني وفشل الانتخابات في امتصاص التوترات الداخلية والتعبير عن مطالب الناس.
5. عدم تمثيل المرأة والمعارضة من خارج النظام: كما كان الحال منذ الثورة الإسلامية عام 1979م، مُنعت النساء وأولئك الذين يدعون إلى التغيير الجذري من الترشح في الانتخابات.
رابعًا: جولة إعادة محتدمة
من المقرر أن تجرى انتخابات الإعادة يوم الجمعة المقبل، بين الإصلاحي مسعود بزشكيان والمفاوض النووي السابق المتشدد سعيد جليلي، ومن المتوقع أن يحمل ذلك عددًا من التداعيات، أهمها:
1. استقطاب داخلي أكبر: سوف تتجه إيران إلى جولة إعادة حاسمة بين مرشح تيار الإصلاح بزشكيان، ومرشح الجناح الأكثر تشددًا في التيار المحافظ سعيد جليلي، ولا شك أن ذلك سوف يخلق حالة استقطاب واسعة بين الأجنحة المتنافسة داخل النظام، خصوصًا أن الرجلين يمثلان طرفي نقيض في ما يتعلق بعدد من القضايا، لا سيما ما يتعلق بالانفتاح على الغرب والموقف من الملف النووي، فضلًا عن السياسة الداخلية والمواقف من قضايا الحريات والمرأة وغيرها من البرامج الاقتصادية.
2. مزيد من الحشد من جانب الإصلاحيين: سيحاول الإصلاحيون جذب مزيد من الدعم من جانب الأطراف التي لم تشارك في الانتخابات، بما في ذلك الإصلاحيون الذين رفضوا المشاركة في الجولة الأولى، وكذلك الأجيال الشابة التي على ما يبدو أنها لم تعد مقتنعة ولا تثق بالعملية والنظام الإيراني برمته.
3. توحيد صفوف الأجنحة داخل التيار المتشدد: خروج المنافسين المتشددين كافة من السباق سوف يؤدي إلى توحيد جهود هذا التيار، بما في ذلك المتشددون والأقل تشددًا خلف جليلي، وهو حسب ما جاءت به النتائج قد يزيد حظوظ جليلي، لا سيما بعد أن أعلن قاليباف، المرشح الذي حصل على المركز الثالث، وبقية المرشحين المحسوبين على التيار المحافظ، دعمهم لجليلي في جولة الإعادة، وكذلك في حال عدم نجاح الإصلاحيين في جذب الناخبين المقاطعين للانتخابات.
4. تركيز النظام جهوده في جولة الإعادة على رفع نسبة المشاركة: بينما كان يعول النظام على أن يحقق في هذه الانتخابات نسبة مشاركة مرتفعة تثبت شرعيته وتمنحه دعمًا لمواقفه داخليًّا وخارجيًّا، فإن نسبة المشاركة سوف تمثل له حرجًا كبيرًا، وستعطي خصومه داخليًّا وخارجيًّا فرصة للتشكيك في شرعيته. وبالتالي سيعمل النظام بقيادة المرشد على أن تزيد نسبة المشاركة خلال جولة الإعادة من أجل الحفاظ على صورته.
5. مقاطعة محتملة: يبدو أن الذين قاطعوا العملية الانتخابية، وهؤلاء تصل نسبتهم إلى 60%، ما يزالون يشككون في العملية برمتها وفي جدوى الانتخابات، ويبدو من الصعب إقناعهم بالمشاركة في جولة الإعادة.
في النهاية، يمكن القول إن خطة النظام لخلق منافسة بين التيارات الداعمة له لم تنطلِ على الجماهير ولم تدفعهم إلى صناديق الاقتراع، ولهذا دلالاته على أن الناس باتت تدرك حقيقة تبادل الأدوار التي يمارسها النظام، وبالتالي قد يواجه النظام تحديًا في ما يتعلق بسياساته الداخلية والخارجية، إذ إن عزوف الجماهير يشير إلى أن الاحتقان ما زال قائمًا، وأنه يوجد عدم رضا واسع النطاق عن الأوضاع التي آلت إليها البلاد، وأنه ما تزال الفجوة بين الجماهير وبين التيارات كافة موجودة، بما في ذلك الإصلاحيون، كذلك فإن عزوف مشاركة الأجيال الشابة -كما هو واضح من عدم ارتفاع نسبة المشاركة- قد يترتب عليه حراك قد تظهر آثاره مع أي حادثة، كما حدث خلال الاحتجاجات التي شهدتها إيران على مدار السنوات الماضية، أما بالنسبة لنتائج جولة الإعادة فمن المحتمل أن يؤدي تكتل المتشددين إلى إضعاف حظوظ بزشكيان، الذي سيحاول حشد تياره من أجل الوصول إلى سدة الرئاسة.