تشهد الساحة السياسية في اليابان تحولًا كبيرًا بعدما أعلن رئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا عن إجراء انتخابات مبكرة في 27 أكتوبر؛ بهدف تأمين منصبه وسط بيئة سياسية ممزقة، وكان إيشيبا يهدف بخطوته هذه إلى تعزيز السلطة في ظل مواجهة «الحزب الديمقراطي الليبرالي» أزمةً شعبيةً وفضيحة فساد مالي، تورط فيها عِدة قادة بارزين من الحزب، على رأسهم رئيس الوزراء السابق فوميو كيشيدا، وبدعوته إلى انتخابات مُبكرة كان إيشيبا، الذي خلف كيشيدا، يأمل في الحصول على تفويض قوي. وقبل الانتخابات، كان الحزب «الديمقراطي الليبرالي»، وشريكه الائتلافي كوميتو، يحتفظان بأغلبية ثابتة وصلت إلى 279 مقعدًا، ولكن بعد التصويت، انخفضت هذه الأغلبية انخفاضًا كبيرًا؛ فقد حصل «الحزب الديمقراطي الليبرالي» على 191 مقعدًا فقط وكوميتو 24 مقعدًا، مما أدى إلى إجمالي 215 مقعد، وهو ما يقل عن الحد الأدنى المطلوب للحصول على الأغلبية البالغ 233 مقعدًا. وتُشكل المخاطر الدبلوماسية، مثل التعريفات التجارية المحتملة، والمطالبات بزيادة الإنفاق الدفاعي في ظل إدارة ترامب المنتظرة، تحديات جديدة على اليابان، ومع انخفاض نسب التأييد والضغوطات المتزايدة من أجل زيادة الإنفاق وخفض الضرائب، سيتعين على حكومة إيشيبا الموازنة بعناية بين تحقيق توافق داخلي، وتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، الذي يستلزم زيادة الإنفاق الدفاعي.
أعيد تعيين إيشيبا رئيسًا لوزراء اليابان بعد فوزه في جولة الإعادة رغم عدم حصوله على أغلبية شاملة لأول مرة منذ ثلاثين عامًا، أي أنه سيقود حكومة أقلية، وهو ما سيفرض تحَديات وصعوبات في معالجة قضايا السياسة الداخلية والخارجية، كما سيتعين على إيشيبا الحصول على دعم أحزاب المعارضة مثل «الحزب الديمقراطي من أجل الشعب» لتمرير ميزانية تكميلية هذا الشتاء، وسط تنامي مطالب الرعاية الاجتماعية والخلافات داخل البرلمان الوطني الياباني بشأن السياسات الضريبية، وقد برز زعيم «الحزب الديمقراطي من أجل الشعب» يويتشيرو تاماكي، الآن كشخصية سياسية رئيسة في اليابان بعد البرلمان المعلق، حيث يدعو تاماكي إلى إجراء تغيير كبير في قانون ضريبة الدخل في اليابان، ويدفع إلى رفع سقف ضريبة الدخل من 1.03 مليون ين إلى 1.78 مليون ين، وهو ما يعتقد أنه سيفيد الناخبين الأصغر عُمرًا، ويشجع العاملين بدوام جزئي على زيادة ساعات عملهم، وفي حين يسعى إيشيبا إلى التعاون مع أحزاب المعارضة الأصغر مثل «الحزب الديمقراطي» من أجل تمرير ميزانية الحكومة، يبقى تاماكي حذرًا من الذهاب في تحالف وثيق مع «الحزب الليبرالي الديمقراطي».
تجري التحولات السياسية في اليابان في سياق تغيرات جيوسياسية إقليمية وعالمية أوسع نطاقًا، ولاسيما مع فوز «الحزب الجمهوري»، وعودة دونالد ترامب إلى سُدة الحكم في الولايات المتحدة، فقد أشار الرئيس المنتخب ترامب، خلال حملته الانتخابية، إلى عزمه على تحويل السياسة الخارجية الأمريكية نحو نهج أكثر حمائيةً وتجاريةً، وهو ما قد يخلق آثارًا بعيدة المدى على حُلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان، فخلال فترة ولايته السابقة، طلب ترامب من اليابان دفع المزيد مقابل الوجود العسكري الأمريكي في البلاد، وهو ما أكــده مؤخرًا السيناتور الجمهوري بيل هاغرتي، مما يُشير إلى استمرارية نهج ترامب تجاه المنطقة. ومن جانبها، تواصل كوريا الشمالية تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين، في حين تُحافظ الصين على موقفها الحازم في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وردًا على ذلك، تُعزز دول مثل اليابان قدراتها الدفاعية لمواجهة هذه التحديات الأمنية والجيوسياسية المتطورة في المنطق، ناهيك أن الحكومة اليابانية رفعت ميزانيتها الدفاعية لتصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027م.
وعلى خلفية التوترات الإقليمية المتصاعدة، اقترح إيشيبا تعزيز التحالف الياباني-الأمريكي بنشر «قوات الدفاع الذاتي» اليابانية في «غوام» لتعزيز قدرات الردع المتبادلة، كما اقترح إنشاء اتفاقية وضع قوات الدفاع الذاتي اليابانية في «غوام» على غرار القوات الأمريكية الموجود في اليابان، ودعا إيشيبا إلى توسيع الإدارة المشتركة للقواعد العسكرية الأمريكية في اليابان، ما من شأنه أن يخفف العبء على القوات الأمريكية هناك. واقترح أيضًا الاستخدام المشترك للقواعد العسكرية الأمريكية في أوكيناوا من قِبل القوات الأمريكية واليابانية، ويهدف إلى الارتقاء بالتحالف الياباني الأمريكي بحيث تصبح به كلا البلدين شريكين متساويين. كما أكد تاماكي مرارًا حاجة اليابان إلى تعزيز قُدراتها الدفاعية في خضم حالة أمنية مضطربة في المنطقة. ويدعو تاماكي إلى الحِفاظ على علاقات قوية مع الصين مع إعطاء الأولوية للأمن القومي الياباني، وأهمية التحالف بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية. وبحسب تقرير الدفاع عن اليابان لعام 2024م، تركز أهداف السياسة الدفاعية اليابانية على تعزيز القدرات الدفاعية الأساسية، وتعميق التعاون مع الحُلفاء مثل الولايات المتحدة، من أجل الدفع نحو الاستقرار الإقليمي، وتعزيز الموارد البشرية لدعم قوات الدفاع الذاتي، ومع تنامي التوترات الأمنية في المنطقة على خلفية تجارب كوريا الشمالية للصواريخ الباليستية بعيدة المدى وتهديداتها للجيران، ناهيك عن تصاعد التوترات مع الصين في بحر الصين الجنوبي، يتعين على طوكيو الآن أن تُحرك موقفها الدفاعي وجهودها الدبلوماسية لضمان الاستقرار.
وثمة ميدان آخر جدير بالذكر هنا سيواجه فيه إيشيبا تحديات، ألا وهو إدارة الاقتصاد الياباني، فقد شهد الفائض التجاري لليابان مع الولايات المتحدة نموًا كبيرًا بعدما بلغت صادراتها إلى الولايات المتحدة 133 مليار دولار العام الماضي، ولكن يبقى المستقبل ضبابيًا في هذا الصدد، ولاسيما إذا أعاد ترامب فرض التعريفات الجمركية على السلع المستوردة، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على القدرة التنافسية لليابان كما أن الزيادات المحتملة في التعريفات الجمركية والاضطرابات التجارية، بما في ذلك التعريفات الجمركية المحتملة بنسبة 60% على السلع الصينية، قد تلحق الضرر بسلاسل التوريد اليابانية. وتتشابك التحديات الاقتصادية التي تواجهها اليابان مع الضغوطات الخارجية مثل التعريفات الجمركية الأمريكية، والمطالب الداخلية بالإصلاح الاقتصادي، وقد أكد إيشيبا بالفعل على ضرورة التعاون مع أحزاب المعارضة لسن السياسات والإصلاحات السياسية، وناقش المراجعات المحتملة لقوانين الضرائب والصناديق السياسية مع تاماكي ورئيس «الحزب الديمقراطي الدستوري» الياباني يوشيهيكو نودا، كما دعا إيشيبا إلى التعاون في الإصلاح السياسي مع زعيم «حزب الابتكار الياباني» نوبويوكي بابا، على الرغم من أن بابا أعرب عن استيائه من عدم الالتزام بالاتفاقيات السابقة.