الانقسامات والحدود.. أسباب وتبعات الهجمات الأخيرة بين باكستان وأفغانستان

https://rasanah-iiis.org/?p=38348

منذ استيلاء حركة «طالبان» على السلطة في أفغانستان عام 2021م، أخذت التوترات بين باكستان وأفغانستان تتصاعد بوتيرة متسارعة، متجلية في اشتباكات حدودية متواترة على طول الحدود الممتدة لمسافة 2640 كيلومترًا بين البلدين، وهي حدود يسهل اختراقها تاريخيًّا وتشكّل بؤرة دائمة للتوتر الأمني والمناوشات العابرة. ومع تكرار الهجمات المتبادلة مؤخرًا، برزت مجددًا هشاشة العلاقات الباكستانية-الأفغانية، كاشفةً عن عمق التعقيدات المتجذّرة التي تُهدِّد بانزلاق المنطقة إلى صراعات منخفضة الحدّة قد تتطور إلى مواجهات أوسع.

كشف تقرير فريق الرصد والتحليل التابع لمجلس الأمن (الدورة الخامسة والثلاثون) أنّ حركة «طالبان» الأفغانية لا تزال تقدّم دعمًا ماليًّا ولوجستيًّا وعملياتيًّا لحركة «طالبان-باكستان |TTP»، التي صعّدت في السنوات الأخيرة هجماتها ضد الجيش الباكستاني. ففي مارس 2024م، شنّت باكستان غارات جوية على مخابئ الحركة داخل الأراضي الأفغانية، وهو ما اعتبرته حكومة «طالبان» انتهاكًا لسيادة البلاد. وتكررت الغارات في ديسمبر من العام نفسه، مُستهدفةً معسكرات للحركة وأدّت إلى أضرار جانبية أثارت غضبًا شعبيًّا واسعًا في أفغانستان. وبحسب التقارير، تمكَّن الجيش الباكستاني في مارس 2025م من قتل مسلحين تابعين لحركة «طالبان-باكستان» في أثناء محاولتهم التسلل إلى منطقة وزيرستان الشمالية. وخلال الأشهر الأخيرة، كثفت إسلام آباد عملياتها لمكافحة الإرهاب عبر الحدود، في سياق تصاعد جديد تجسَّد في الهجوم الذي شنّه مقاتلو «طالبان-باكستان» في 09 أكتوبر على قوات شبه عسكرية باكستانية وأسفر عن مقتل 11 جنديًّا. وردّت باكستان بغارات قرب كابول ومناطق أخرى استهدفت قيادات بارزة في الحركة، من بينهم زعيمها نور ولي محسود. في المقابل، أطلقت القوات الأفغانية النار على مواقع حدودية باكستانية على طول خط دوراند، الأمر الذي أدى إلى اندلاع اشتباكات عنيفة ومتقطعة. وأعلن الجيش الباكستاني مقتل أكثر من 200 مقاتل أفغاني، فيما قالت كابول إنّ 58 جنديًّا باكستانيًّا قُتلوا وجُرح ثلاثون آخرون.

تعود جذور هذا التصعيد إلى خلافات تاريخية عميقة، فالحكومة الأفغانية بقيادة «طالبان» تعتبر خط دوراند حدودًا غير شرعية فُرضت قسرًا في الحقبة الاستعمارية، إذ قسمت مجتمعات إثنية وقبلية بين الجانبين. هذا الموقف يُعَدّ أحد أهم الروابط الأيديولوجية بين «طالبان» الأفغانية ونظيرتها الباكستانية، حيث ترفض كلتاهما الاعتراف بشرعية الحدود الحالية. وقد عبّر نائب وزير الداخلية الأفغاني نبي عمري مؤخرًا عن هذا الموقف بقوله إنّ «خط دوراند فُرض بالقوة، وستسعى أفغانستان لاستعادة الأراضي المغتصبة». يعكس هذا الخطاب أنّ النزاع الحدودي ليس خلافًا سياسيًّا عابرًا، بل قضية بنيوية متجذّرة في تاريخ طويل من المظالم القومية والأيديولوجية، تجعل الاشتباكات الدورية تعبيرًا عن أزمة غير محلولة تمتد عبر الأجيال.

لكلّ من البلدين حساباته السياسية والأمنية الخاصة في ظل التصعيد الأخير. بالنسبة إلى باكستان، تتداخل اعتبارات الأمن الداخلي مع التوازنات الإقليمية الحساسة، إذ تواجه خطر تصاعد التمرّد المسلّح على حدودها الغربية في وقت تبقى فيه على أهبة الاستعداد شرقًا في مواجهة الهند. أيّ تصعيد جديد مع أفغانستان سيضاعف الضغط على المؤسسة العسكرية الباكستانية التي تضطر إلى التعامل مع تهديدات على جبهتين في آنٍ واحد، كما يُعقّد المشهد تشابك البنية الإثنية والديموغرافية، لا سيما بين السكان البشتون على جانبي خط دوراند. وتظل طموحات حركة «طالبان-باكستان» في تقويض سلطة إسلام آباد في إقليمَي خيبر بختونخوا وبلوشستان تهديدًا رئيسيًّا لأمن البلاد الداخلي.

وفي المقابل، تنظر باكستان بقلق متزايد إلى تحسُّن العلاقات بين حكومة «طالبان» في كابول والهند، فقد تزامن التصعيد الأخير مع زيارة وزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي إلى نيودلهي، حيث أعلنت الهند رفع مستوى بعثتها في كابول إلى مستوى سفارة كاملة. رأت إسلام آباد في هذه الخطوة جزءًا من إستراتيجية هندية لتوسيع نفوذها في أفغانستان وموازنة الدور الباكستاني، بل ذهب وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف إلى اتهام كابول علنًا بخوض «حرب بالوكالة لصالح نيودلهي».

ومن جانبها ترفض حكومة «طالبان» ترك الاعتداءات الباكستانية دون ردّ، إذ ترى في ذلك مساسًا بهيبتها وتقويضًا لشرعيتها. وقد تعمّقت عداوتها لإسلام آباد خلال العامين الماضيين على خلفية ترحيل باكستان لآلاف اللاجئين والمهاجرين الأفغان، ما دفع «طالبان» إلى اعتماد خطاب أكثر تشددًا، يُقدّم التصدي لباكستان بوصفه دفاعًا عن الكرامة الوطنية والسيادة. هذه الدينامية، القائمة على الرد والردّ المضاد، تُفاقِم المعضلة الأمنية بين البلدين، إذ تُفسَّر تحركات أحدهما دومًا على أنها تهديد وجودي من الآخر.

أما بالنسبة إلى أفغانستان، فإنّ الحفاظ على الاستقرار الداخلي أصبح ضرورة ملحّة في ظل سعي حكومة «طالبان» إلى انتزاع اعتراف دولي ومساعدات اقتصادية. وتُعَدّ قدرتها على ضبط الجماعات المسلحة داخل أراضيها اختبارًا رئيسيًّا لمصداقيتها، فوجود تنظيمات متطرفة فاعلة أثار قلقًا دوليًّا متزايدًا من تحوّل أفغانستان مجددًا إلى ملاذ للجماعات الإرهابية العابرة للحدود، بما يُهدد الأمن الإقليمي والدولي على حدٍّ سواء. ويكمن التحدي الأكبر أمام «طالبان» في التوفيق بين ولائها الأيديولوجي للفصائل المسلحة مثل «طالبان-باكستان»، وبين حاجتها البراغماتية إلى تفكيك تلك الجماعات لإثبات قدرتها على الحكم والانخراط في المجتمع الدولي. ودون اتخاذ خطوات حاسمة في هذا الاتجاه، ستبقى أفغانستان رهينة العزلة والعقوبات.

وتتداخل هذه التطورات مع تحولات أوسع في الجغرافيا السياسية لجنوب آسيا، حيث تتصاعد المنافسات وتُعاد حسابات النفوذ. فالهند تراقب بقلق تنامي التقارب بين باكستان والولايات المتحدة، فيما تشير تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول إمكانية استعادة قاعدة «باغرام» الجوية إلى اهتمام واشنطن المتجدد بإعادة التموضع الإستراتيجي في المنطقة. السيطرة على «باغرام» تمنح الولايات المتحدة موقعًا إستراتيجيًّا لمراقبة الصين وإيران وروسيا وآسيا الوسطى، فضلًا عن تعزيز نفوذها في منافستها الجيوسياسية مع بكين. وقد أعربت فصائل مناوئة لـ«طالبان»، مثل «جبهة المقاومة الوطنية» وبقايا النظام الأفغاني السابق، عن دعمها لأي عودة أمريكية محتملة إلى «باغرام»، معتبرة إياها فرصة لإحياء المقاومة المنظمة ضد حكومة «طالبان». وتدور تكهنات بأنَّ واشنطن قد تنسّق مع المؤسسة العسكرية الباكستانية لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد كابول إذا تصاعدت الأزمة. وبذلك تعود أفغانستان مجددًا إلى مركز التنافس بين القوى الكبرى ومسرحًا لصراعات النفوذ المتشابكة.

وفي 19 أكتوبر 2025م، توصّلت باكستان وأفغانستان إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة قطرية-تركية في الدوحة، نصّ على إنشاء آليات للحوار وضمان الاستقرار الدائم، بيدَ أن المحادثات اللاحقة في إسطنبول انهارت بعد أربعة أيام فقط، بعدما اتهمت إسلام آباد «طالبان» برفض اتخاذ أي إجراءات ضد مقاتلي حركة «طالبان-باكستان»، محذّرة من اندلاع «حرب مفتوحة» إن فشلت المفاوضات.

نظرة إلى المستقبل تُظهر أن فرص تحقيق سلام مستدام ستعتمد على عدة عوامل، أولها: قدرة حكومة «طالبان» على كبح الجماعات المسلحة داخل أفغانستان، مما سيُخفف انعدام الثقة ويُقلص التوترات الحدودية. ثانيها: ضرورة أن يعطي البَلَدان أولوية للعلاقات الاقتصادية وفرص التعاون الإقليمي، خصوصًا في ظل التحديات الاقتصادية الحادّة التي يواجهانها واعتماد أفغانستان الكبير على باكستان بوصفها ممرًّا رئيسيًّا للتجارة والاتصال الإقليمي. ويتطلب ذلك دعمًا من الشركاء الإقليميين والدوليين وخططًا للتنمية والاستثمار والحكم الشامل. وأخيرًا، تبقى الثقة المتبادلة والانخراط المستمر بين الأطراف الإقليمية شرطًا أساسيًّا لبناء استقرار طويل الأمد في منطقة ما زالت تتأرجح على حافة الاضطراب.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير