البنى التحتية الاقتصادية لإيران.. أهمِّيتها وتوزيعها وتداعيات استهدافها

https://rasanah-iiis.org/?p=37755

 تضُمّ البنى التحتية الاقتصادية للدول طيفًا واسعًا للغاية من المقدرات الإنتاجية والمالية والخدمية والصناعية والزراعية، التي يمكن أن يؤدِّي استهدافها عسكريًا إلى تعطُّل أو توقُّف دوران ماكينة الإنتاج والحياة اليومية فيها، وزيادة التكاليف والضغوط المعيشية؛ وبالتالي زعزعة الاستقرار الأمني والمالي، وحتى الاستقرار السياسي للدولة في بعض الأحيان.

وتضُمّ البنى التحتية الاقتصادية الإيرانية منشآت الطاقة بأنواعها المختلفة، التي تشمل إنتاج الكهرباء والغاز والنفط والوقود والمشتقّات ومنصّات تصدير النفط، إلى جانب البنى المرتبطة بالتجارة الداخلية والخارجية والتنقُّل والسياحة؛ كالمطارات والموانىء وشبكات السِكَك الحديدية والطُرُق واللوجيستيات، وبنى التمويل والاتصالات والانترنت، وبنى الإنتاج الصناعي الاستراتيجية كالبتروكيماويات والصلب والسيارات، وبنى الغذاء والماء والخدمات الحيوية كالسدود ومحطّات المياه.

بالفعل، تمّ استهداف بعض البنى التحتية الاقتصادية لإيران، في الأيام الأولى من الضربات الإسرائيلية تجاه إيران، في محاولة لإحداث ضرر اقتصادي وضغوط معيشية بالداخل على الإيرانيين، وكذلك على النظام السياسي القائم، وذلك بعدما ركَّزت إسرائيل على تحييد الدفاعات الجوِّية في مناطق تركُّز هذه البنى الاقتصادية، والتي تتواجد بالأساس في الجنوب الإيراني تحديدًا، وكذلك في العاصمة طهران (انظر شكل 1)، مع الاتجاه الإسرئيلي نحو الاستمرار في استنزاف البنى التحتية الحيوية لإيران، وهو أمرٌ في غاية الخطورة قد يقود إلى زعزعة استقرار الاقتصاد الإيراني، ورُبَّما يمتدّ أثره ليشمل النظام السياسي الحاكم.

لذا، من المهم معرفة أنواع البنى التحتية الاقتصادية داخل إيران، ودورها الاقتصادي، وأماكن تركُّزها، ومن ثمَّ الوقوف على التداعيات الاقتصادية المختلفة لاستهدافها عسكريًا، خاصَّةً على الداخل الإيراني.

أولًا: ركائز البنية الاقتصادية الإيرانية وتداعيات استهدافها

1- منشآت الطاقة المتنوِّعة:

معامل إنتاج الغاز:  تشكِّل أهمِّية قصوى للاقتصاد المحلِّي، لاعتماد محطّات توليد الكهرباء عليه بنسبة أكثر 80% لإنتاج الكهرباء للاستخدام المنزلي والصناعي، بجانب التصدير لدول الجوار، كالعراق وتركيا.

وتتركَّز أهمّ حقول الغاز ومحطّات الضخّ في الأحواز جنوب غرب إيران، وتحديدًا حقل بارس جنوب إيران؛ أكبر حقول الغاز في البلاد (تمَّ استهداف المرحلة 14 منه، علمًا بأنَّ الحرس الثوري ينشط في تطوير هذا الحقل بقوَّة). واستهداف هذه المعامل يُضِرّ بالداخل بالأساس، ويهدِّد بتوقُّف إنتاج الكهرباء، التي تعتمد عليها الحياه اليومية في إيران، وكذلك الإنتاج الصناعي.

مصافي تكرير الوقود: يُضِرّ استهداف مصافي تكرير الوقود الداخل الإيراني بشدَّة؛ لأنَّ إنتاجها يُوجَّه للداخل بالأساس لإنتاج الديزل والبنزين والمشتقّات النفطية، ولا يكفي الإنتاج كامل الاستهلاك المحلِّي أحيانا، أي أنَّ استهدافه يهدِّد إمدادات الوقود المحلِّية، ويزيد الضغط الداخلي.

ومع تتوزيع مصافي تكرير الوقود حول أماكن التجمُّعات السُكّانية الكُبرى، مثل طهران وأصفهان وشيراز وبندر عباس، قامت إسرائيل باستهداف مصفاة وقود شهران في العاصمة طهران. 

محطّات إنتاج الكهرباء وشبكات التوزيع: تنتشر في مختلف المحافظات الإيرانية، وتعمل غالبيتها بالنفط والغاز، وبعضها بالطاقة الكهرومائية وطاقة الرياح والطاقة النووية (محطَّة بوشهر).

يؤثِّر استهداف محطّات الكهرباء على أداء الأعمال والحياه اليومية للإيرانيين، علمًا أنَّهم يعانون من الانقطاع اليومي للكهرباء قبل بدء الضربات، واستهداف محطّات الكهرباء يعرقل الحياه المدنية والصناعية، ويزيد السخط الداخلي مع اشتداد حرارة الصيف وارتفاع الأسعار.

منصّات تصدير النفط: تُعَدُّ جزيرة خارك الواقعة أمام السواحل الجنوبية لإيران على الخليج العربي المنصَّة الرئيسية لتصدير النفط الإيراني للخارج، بقُدرة تحميل تصِل إلى 5 مليون برميل يوميًا، وتخزين 28 مليون برميل في خزانات سطحية وعائمة. ويعرقل استهدافها صادرات إيران النفطية، التي تتراوح ما بين 1.4 مليون برميل/اليوم إلى 1.7 مليون برميل/اليوم، غالبيتها تُوجَّه إلى الصين.

كما أنَّ تضرُّر منشآت تصدير النفط سيكون له أثر سلبي دولي، يتمثَّل في ارتفاع أسعار النفط عالميًا (ارتفعت قرابة 15% خلال أول يومين من الضربات المُتبادَلة)، وتقلُّص إيرادات إيران المالية من ناحية أخرى (تُدِرّ الصادرات النفطية أكثر من 50 مليار دولار سنويًا للخزينة الإيرانية).

شكل 1 : أماكن تركُّز البنى التحتية للنفط والغاز في إيران

source: sciencedirect.com https://bit.ly/45XPW36

2- المطارات وخطوط النقل واللوجستيات:  

المطارات: تشمل قائمة من المطارات الرئيسية في البلاد، كمطار الإمام الخميني الدولي وهو المطار الرئيسي في العاصمة طهران، ومطار مشهد الدولي في مدينة مشهد (العاصمة الدينية للبلاد)، ومطار شيراز الدولي جنوب إيران، ومطار مهر آباد في العاصمة، الذي يخدم الرحلات الداخلية، وغيرها الكثير من المطارات. 

الموانئ: مثل موانىء بندر عباس في الجنوب الإيراني، وهو أكبر الموانىء من حيث التعامل مع التجارة الخارجية، وكذلك موانىء بندر خميني، وتشابهار، وبوشهر، وميناء جزيرة كيش، وميناء رجائي، وغيرها.

خطوط النقل واللوجستيات: تضُمّ قائمة طويلة من المقدرات المرتبطة بنقل البشر وتدفُّق السِلَع، مثل محطّات وخطوط السِكَك الحديدية الرابطة بين اتّجاهات إيران الأربعة، ومترو الأنفاق (مترو أنفاق طهران)، والطُرُق والجسور والأنفاق المارة عبر جبال زاغروس، ومنطقة الأحواز جنوب غرب إيران لنقل المعادن والثروات الطبيعية.

يؤدِّي استهداف البنى التحتية للمطارات والنقل واللوجستيات إلى تعطيل الرحلات المدنية، والتأثير سلبًا على قطاع السياحة ونشْر الهلع بين الأجانب المتردِّدين على إيران، وكذلك التجارة الخارجية غير النفطية، التي تفوق 130 مليار دولار سنويًا، وتراجع النمو الاقتصادي وتعطُّل عمل التجارة الداخلية وتدفُّق سلاسل التموين بالسِلَع بالأساسية وزيادة مستويات الأسعار، والتأثير على تجارة التزانزيت بين إيران ودول آسيا الوسطى.

3- البنى الصناعية ومخازن الغذاء الاستراتيجية:

مجمعات البتروكيماويات: أهمّ صناعة بالنسبة للاقتصاد الإيراني، وينشط فيها الحرس الثوري، وتشكِّل أكثر من 33% من صادرات إيران غير النفطية وتُدِرّ عليها أكثر من 15 مليار دولار سنويًا، وتترَّكز في عسلوية وماهشهر وأصفهان قريبًا من حقول النفط والغاز في الجنوب الإيراني.

مصانع إنتاج الصلب: صناعة أساسية للاقتصاد الإيراني لتلبية الطلب المحلِّي والتصدير للخارج، وتجعل إيران بين أكبر 10 منتجين للصُلب عالميًا، وتتركَّز الصناعة في منطقة أصفهان والأحواز جنوب غرب إيران.

مصانع إنتاج السيارات: صناعة مهمَّة توفِّر مئات آلاف الوظائف للإيرانيين، وتتركَّز المصانع في العاصمة طهران، مثل شركتي إيران خودرو وسايبا.

يخلق استهداف البنى الصناعية ضغطًا ماليًا كبيرًا على النظام الإيراني، خاصَّةً الحرس الثوري لانخراطه فيه بقوَّة، ويهدِّد بفقدان استثمارات ضخمة مرتفعة التكلفة وكثيفة استخدام رأس المال والعمالة البشرية في ذات الوقت، ويضرب توازنات العرض والطلب في أسواق السِلَع الإيرانية المرتبطة بالإنتاج الصناعي.  

4- البنى المالية والاتصالات:

البنى المالية: تضُمّ شبكات إدارة النظام المالي والمصرفي وأسواق الأوراق المالية، بجانب المقرّات الرئيسية للمصرف المركزي الإيراني والمصارف الكُبرى، والتي تتركَّز في العاصمة طهران، مثل بنك ملى إيران وبنك ملت وبنك أنصار (تابع للحرس الثوري).

بنى الاتصالات: مثل خطوط الكابلات البحرية، التي تزوِّد إيران بالإنترنت عبر الخليج العربي، وشبكات ومحطّات الاتصال الأرضية والمنصّات الإلكترونية للنفط والغاز والمصارف.

  يؤثِّر استهداف البنى المالية والاتصالات على توازُن أسواق المال والتجارة، ويمكن أن يُثير الفوضى والذعر بين العامَّة، إذا خرج عن السيطرة؛ وبالتالي تهديد استقرار أركان الاقتصاد برُّمته.

5- بنى الزراعة والمياه

السدود: تحوي أراضي إيران عشرات السدود الكبيرة،أكبرها سدّ الكرخة في الأحواز، وسدود على نهر كارون، وغيرها الكثير من السدود الصغيرة. وتستخدم إيران السدود في توفير مياه الشرب والري، وإنتاج الطاقة الكهرومائية.

محطّات المياه: تعتمد إيران في توفير إمدادات المياه، من خلال السدود المقامة على الأنهار، وكذلك المياه والجوفية، وتحلية مياه البحر، ومعالجة مياه الصرف الصحي. وتتركَّز محطّات المياه الأساسية في المناطق العمرانية الكبيرة، مثل العاصمة طهران ومدن مشهد وأصفهان. وتعاني إيران من شح مائي وجفاف متزايد، في السنوات الأخيرة.

يقود استهداف بنى الزراعة أو المياه إلى نتائج اقتصادية كارثية، مثل الفيضانات، والنزوح الجماعي، وشُح الغذاء وارتفاع أسعاره، ونقْص إمدادات مياه الشرب، والتلوُّث وانتشار الأمراض، وأضرار بيئية.  

ثانيًا: تحليل أبعاد استمرار العملية العسكرية على الاقتصاد الإيراني

يتّضِح ممّا سبق تنوُّع البنى التحتية الاقتصادية لإيران، مع تركُّز أهمّها في الجنوب والغرب الإيراني، وكذلك في العاصمة طهران. وفي ذات الوقت، نلاحظ تركيز الضربات الإسرائيلية في بداية الحرب على استهداف وتعطيل الدفاعات الجوِّية غرب وجنوب إيران تحديدًا، وهي المنطقة التي تتواجد فيها غالبية البنى التحتية الحيوية للبلاد في مجالات الطاقة والصناعة والموانىء الرئيسية. وقد قامت إسرائيل بالفعل بضرب بعضها، مثل حقل غاز بارس جنوب إيران ومصفاة نفط في طهران، وبعض خطوط السِكَك الحديدية وموانىء في الجنوب.

ولعلَّ هذا ما يؤكِّد بوضوح على الرغبة الإسرائيلية في استخدام الأهداف الاقتصادية المدنية أو بعضها؛ لإلحاق الضرر بالاقتصاد المحلِّي، وإرهاق الإيرانيين وزيادة الضغوط المعيشية علىهم، في وقت يعانون فيه من تضخم مرتفع كان قريبًا من 40% قبل الضربات الإسرائيلية، ومن المؤكَّد ارتفاعه فوق تلك المستويات مع استمرار الحرب، خاصَّةً بعد تراجُع قيمة العملة الإيرانية (التومان) بأكثر من 12% بعد الضربات، واضطرار الحكومة لإغلاق أسواق المال لأكثر من أسبوع، والاتّجاه نحو النزوح خارج العاصمة طهران. كما تعاني الحكومة الإيرانية من عجْزٍ مالي متزايد في ضوء العقوبات الأمريكية المفروضة على الاقتصاد منذ سنوات؛ وبالتالي سيحِدّ هذا العجز -المرجَّح تزايده بسبب الحرب- من قُدرة الحكومة على تعويض الدمار والخسائر المدنية بالسرعة الكافية. 

وبناءً عليه، فإنَّ إطالة أمد الحرب الدائرة حاليًا بين الطرفين ليست في صالح الاقتصاد أو النظام الإيراني القائم. وحتى مع تضرُّر قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي المختلفة من جرّاء الضربات الصاروخية الإيرانية، والتي شمِلَت استهداف أجزاء من البنى التحتية الاقتصادية للطاقة وبعض المصانع والموانىء التجارية كميناء حيفا وعطَّلت السياحة في إسرائيل بجانب الخسائر البشرية والمدنية، إلّا أنَّ غالبية البنى التحتية الاقتصادية الإسرائيلية لا تزال في مأمن ومغطَّاة بالدفاعات الجوِّية والتفوُّق العسكري والدعم الأمريكي، على العكس من البنى التحتية للاقتصاد الإيراني المنكشفة كُلِّيًا على الاستهداف العسكري.

 ومع تشدُّد الحكومة الإسرائيلية الحالية ورغبتها في تغيير النظام بالقوَّة، فإنَّ احتمالية الاستمرار الإسرائيلي في استهداف الأهداف الاقتصادية الحيوية لإيران يظل سيناريو مرجَّحًا، وإن حدَثَ هذا فستكون له تداعيات كارثية على حسب طبيعة الهدف المُستهدَف في مجتمع يفوق عدد سُكّانه 90 مليون نسمة ويعيش ظروفًا اقتصادية قاسية من الأساس. وقد تمتدّ الآثار السلبية للخارج، خاصَّةً فيما يتعلَّق باستقرار أسواق الطاقة وأسواق المال والاستثمارات في الشرق الأوسط والعالم، وكذلك معدلات النمو العالمي، ومستويات الأسعار في الأسواق الصناعية. وبالتالي، نحن أمام مهدِّد حقيقي لاستقرار الاقتصاد العالمي برُمّته. ولعلَّ الرغبة في تفادي هذه التداعيات المؤلمة، سواءً على الجانب الإيراني أو على الجانب العالمي، قد تُسرِّع الوساطات الدولية لإيجاد صيغة للتهدئة بين إسرائيل وإيران في القريب العاجل.

الخلاصة

على الرغم من وضْع الاقتتصاد الإيراني، الذي يُعَدُّ أحد نقاط الضعف الإيرانية، التي تدركها إسرائيل، إلّا أنَّ إيران تمتلك طيفًا واسعًا من البنى التحتية الاقتصادية والمقدرات الحيوية في مجالات الطاقة والصناعة والزراعة والمياه والنقل واللوجستيات والموانىء والبنى المالية، مع تركُّز أهمها في الجنوب الغربي للبلاد.

وقد قامت إسرائيل بضرب الدفاعات الجوِّية في تلك المنطقة منذ بداية الحرب، وبعدها استهدفت بعض مقدرات إيران وبناها التحتية الاقتصادية بالفعل، خاصَّةً تلك المركَّزة في الغرب والجنوب والعاصمة طهران، كمحطّات الغاز والوقود. وتهدُف بذلك لإضافة المزيد من الضغط على الحكومة الإيرانية، وتزيد من الاستياء الشعبي الداخلي والضغط على النظام، كما تدرك إسرائيل أنَّ استنزاف الاقتصاد يحِدّ من قُدرة الحكومة الإيرانية المالية على إعادة تأهيل قُدراتها العسكرية والنووية ويؤخِّر تعافيها من آثار الحرب الدائرة.

 لذا، من المرجَّح أن تستمِر إسرائيل في استهداف البنى الاقتصادية لإيران -ما لم يتِم التوصُّل لتهدئة- لاستنزافها ماليًا واقتصاديًا، حتى مع تضرُّر كافَّة قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي ذاته، بل وامتداد الضرر لاقتصادات المنطقة والعالم. وعلى الجانب الآخر، فإنَّ الرغبة في تفادي الفوضى الاقتصادية المؤكَّدة في حال توسُّع الصراع قد تسرِّع التدخُّلات الدولية؛ لإيجاد حلول للتهدئة بين إيران وإسرائيل قبل خروج الوضع عن السيطرة.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير