التحدي الإستراتيجي.. جولة بوتين الآسيوية الأخيرة وسط العقوبات الدولية

https://rasanah-iiis.org/?p=35576

زارَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخَّرًا كوريا الشمالية وفيتنام، خلال جولته في آسيا، حيث وقّع عدَّة اتفاقيات مهمَّة. وجاءت هذه الزيارات، في وقتٍ تعاني فيه روسيا من عقوبات صارمة، وتحاول فيه تأكيد نفوذها في آسيا، إذ يعتزم بوتين إظهار التضامن معه، وتعزيز العلاقات مع دول مثل كوريا الشمالية وفيتنام، بما يسمح له بتواجد إستراتيجي بالمنطقة، وبتعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري، على الرغم من العقوبات.

ووقَّع بوتين أثناء زيارته بيونغ يانغ اتفاقية شراكة إستراتيجية شاملة، وهي تحل محل معاهدة «الصداقة والتعاون وحُسن الجوار»، التي وُقِّعت بين البلدين خلال أول رئاسة لبوتين مع كيم جونغ إل، في عام 2000م. وتنُصّ الاتفاقية الدفاعية الجديدة على المساعدة المُتبادَلة، في حال تعرُّض أيّ البلدين للاعتداء. كما سيُساعد تعميق الشراكة العسكرية مع روسيا كوريا الشمالية في تجديد أسلحتها، وهي مسألة ذات أولوية عند الرئيس كيم جونغ أون.

وفي عام 2017م، قال بوتين إنَّه لا يقبل أن تكون كوريا الشمالية دولةً نووية، وطلب من الولايات المتحدة عدم تصعيد الوضع، ودعا إلى حل سلمي، لكن روسيا غيَّرت موقفها حاليًا، في ظل ما تواجههُ من عُزلة متزايدة. وأصبح اتّخاذ قرارات ضدّ كوريا الشمالية في الأُمم المتحدة صعبًا جدًّا؛ نظرًا للتدخُّلات الروسية الأخيرة، فعلى سبيل المثال استخدمت روسيا والصين في مايو 2022م حق النقض (الفيتو) ضدّ مشروع قرار أمريكي لفرض عقوبات جديدة على كوريا الشمالية، بعد قيامها بإطلاق عدَّة صواريخ عابرة للقارات. وفي مطلع هذا العام، استخدمت روسيا «الفيتو» أيضًا، ضدّ مشروع قرار أمريكي لتمديد مهمَّة فريق خُبراء الأمم المتحدة المسؤول عن مراقبة العقوبات على كوريا الشمالية.  

وقد أعطت زيارة بوتين لكوريا الشمالية -الدولة الأكثر عُزلة- انطباعًا بمستوى اليأس، الذي وصلت إليه روسيا. وترى الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، أنَّ كوريا الشمالية تزوِّد روسيا بالأسلحة في صراعها مع أوكرانيا، إذ أشارت تقارير إلى نقْل بيونغ يانغ لصواريخ بالستية وذخيرة. كما أنَّ كيم أعرب لبوتين، أنَّ بلاده تقِف بشكلٍ كامل مع الحكومة والجيش والشعب في روسيا، وتساندهم في عمليتهم العسكرية الخاصَّة في أوكرانيا.

ومن المرجَّح أن تزداد عمليات نقْل الأسلحة إلى روسيا، في أعقاب الاتفاقية الدفاعية التي وَّقعتها مع كوريا الشمالية؛ فمع تكثيف روسيا لتصنيع الأسلحة، فإنَّ وجود إمدادات رخيصة من كوريا الشمالية سيخفِّف جزءًا من العبء، الذي يثقلها في الصراع. ويستند البلدان في تحالفهما على موقفهما المشترك المناهِض للولايات المتحدة، والرغبة في التصدِّي للهيمنة الأمريكية. وبالنسبة لكوريا الشمالية، فإنَّ الشراكة مع روسيا تشِدّ من أزر خطابها المحلِّي، الذي تتبنّاه وسط تزايُد التوتُّرات الحدودية مع كوريا الجنوبية والولايات المتحدة. وقد استغل كيم هذه الفُرصة؛ لتسليط الضوء على تحالُف بلاده القوي مع روسيا. كما قد يساعد هذا التعاون كوريا الشمالية في سد احتياجاتها من الطاقة والغذاء والمواد الصناعية والآلات والأسلحة، وغيرها من الضروريات، وفي المقابل فقد يساعد روسيا على الحصول على ذخيرة وعمالة رخيصة تعزِّز بها قواها العاملة، التي قلَّصتها الحرب.  

وفيما يخُصّ عواقب هذا التعاون الروسي-الكوري الشمالي، فقد يشكِّل تحدِّيًا للصين، التي تبسط نفوذها منذ فترة طويلة على بيونغ يانغ. وبالتالي، فإنَّ قُدرة الأخيرة على تنويع شراكاتها قد يمكِّنها في نهاية المطاف من التحرُّك باستقلالية أكبر؛ ما سيُسبِّب صداعًا إستراتيجيًا للصين. وتهدُف كوريا الشمالية إلى تفادي الاعتماد المفرط على بكين، على الرغم من أن 80 إلى 90% من تجارتها الخارجية تتِم مع الصين. وبالتالي، تأتي خطوة كوريا الشمالية الإستراتيجية للتعاون مع روسيا، في إطار جهودها لتعزيز استقلالها الدبلوماسي والاقتصادي عن الصين، وفي نفس الوقت مواصلة علاقاتها الاقتصادية المهمَّة معها.

وينعكس التعاون الدفاعي بين روسيا وكوريا الشمالية أيضًا على كوريا الجنوبية، ويدُلّ على ذلك خطواتها الأخيرة، إذ أعلنت أنَّها تنظُر في إرسال أسلحة إلى أوكرانيا؛ ما سيُشكِّل تحوُّلًا كبيرًا في سياستها. وعلى الرغم من أنَّ تعاون روسيا مع كوريا الشمالية أثارَ مخاوفًا إقليمية ودولية، إلّا أنَّ موسكو ترى أنَّه من الضروري ثنيُ سيول عن إمداد كييف بالأسلحة، كما دلَّت عليه التصريحات الأخيرة.

وخلال زيارة بوتين لفيتنام، التقى برئيسها تاو لام، وأشرف على توقيع 11 اتفاقية تعاون في قطاعات مختلفة، منها التعليم العالي والعدالة والأبحاث النووية، إلى جانب التبادل العلمي والوقاية من الأوبئة والتعاون في مجال الطاقة. ويجدُر الذكر إلى أنَّ روسيا هي أول دولة وقَّعت اتفاقية شراكة إستراتيجية مع فيتنام في عام 2001م، وأنَّ حوالي 80% من واردات الأسلحة في فيتنام تأتي من روسيا. وسعى بوتين أيضًا خلال الزيارة، إلى تعزيز حضور موسكو في المنطقة في مجالات مختلفة، لا سيّما أنَّ فيتنام دولة رائدة في الصناعة والزراعة؛ ما عزَّز اقتصادها بشكل كبير.

غير أنَّ نهْج فيتنام تجاه روسيا يختلف عن نهج كوريا الشمالية تجاهها، على الرغم من من العلاقات التاريخية، التي تجمع فيتنام بروسيا. إذ أنَّ «دبلوماسية الخيزران» تمنح فيتنام المرونة، وتمكِّنها من الحفاظ على علاقاتها المهمَّة مع الولايات المتحدة، وهي خطوة إستراتيجية في سبيل تحقيق الموازنة مع النفوذ الصيني، وسط النزاعات طويلة الأمد في بحر الصين الجنوبي. كما أنَّ فيتنام التزمت بالحياد بشأن الحرب الروسية-الأوكرانية، على الرغم من أنَّ التعامل مع هذا الملف يزداد صعوبة، وتسعى فيتنام إلى الحصول على الدعم الأمريكي في تحقيق أهدافها الاقتصادية، وتوسيع شراكاتها الدفاعية. وفي عام 2023م، بلغ حجم التجارة الثنائية بين روسيا وفيتنام 3.6 مليار دولار، بخلاف حجم تجارتها مع الصين البالغ 171 مليار دولار، وحجم تجارتها مع الولايات المتحدة البالغ 111 مليار دولار.   

وعلى ضوء التطوُّرات الحالية، فإنَّ روسيا تدركُ ضرورة إدارة علاقاتها وتعزيزها، خصوصًا مع الدول، التي تربطها بموسكو تحالفات عسكرية طويلة الأمد لا يمكن تغييرها بسهولة. كما تهدُف روسيا من الزيارات الأخيرة في آسيا، إلى إظهار نفسها بصورة المتزعِّمة للجنوب العالمي، إذ تلعب على وتر المخاوف المشتركة بين دول الجنوب حول النظام العالمي، الذي يهيمن عليه الغرب. ونظرًا لما تواجههُ الولايات المتحدة من سخط وضغْط عالمييْن في سياق موقفها بشأن قضايا مثل الحرب الدائرة في غزة، فقد تحاولُ روسيا استغلال الفُرصة؛ لفرض مزيد من الضغط على الإدارة الأمريكي، من خلال التهديد بمشاركة التقنية النووية مع كوريا الشمالية، ونقْل أسلحة مهمَّة لها. وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال ممكن، إلّا أنَّه غير مُرجَّح؛ لأنَّها لن ترغب في تصعيد التوتُّرات مع الولايات المتحدة على المدى القصير.    

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير