حظِيَت منطقة المحيطين الهندي والهادئ باهتمامٍ واسع في السنوات الأخيرة؛ نظرًا لأهمِّيتها الجيوسياسية والإستراتيجية، وحوَّلت التوتُّرات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين في المنطقة، التركيزَ إلى بؤر من التوتُّرات الأمنية، وإلى تأثيراتٍ مُحتمَلة على التجارة العالمية وخطوط الإمداد والأمن البحري.
تعكس السياسات الخارجية، التي تنتهجُها دول الخليج حاليًا، رغبتها في الحصولِ على فُرص جديدة في خِضَم الاضطرابات الجيوسياسية السائدة بسبب جائحة كورونا، وكذلك الحرب الروسية-الأوكرانية، وتضاؤل أهمِّية الشرق الأوسط في بوصلة الإدارة الأمريكية. في هذا السياق، عزَّزت دول الخليج من مشاركتها في المنطقة بشكلٍ أساسي؛ للحفاظ على مصالحها ولتعزيز شراكاتها الاقتصادية، من خلال تبنِّي سياسات الاحتياطات الإستراتيجية.
يعبِّر مفهوم «التحوُّط الإستراتيجي» بالأساس عن الحفاظ على التوازن بين مجموعة من القوى المتنافسة أو في خِضَم تهديداتٍ مُحتمَلة، ويتحقَّق ذلك من خلال تنويع الشراكات والتحالفات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية، التي تسمح في نهاية المطاف لأيّ دولة بحماية مصالحها، دون أن تعتمدَ اعتمادًا مُفرِطًا على أيّ حليف أو شريك بعينه؛ وهذا يعني بشكل أساسي بالنسبة لدول الخليج، زيادةَ مشاركتها مع القوى الكُبرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والنأي بالنفسِ عن التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين. وهذا أمرٌ بالغ الأهمِّية بالنظر إلى التحرُّكات الأمريكية، لدعم مشاركة أعمق وإنشاء بِنية أمنية للتصدِّي للصينِ في المنطقة. على سبيل المثال، تُعَدُّ بعض التجمُّعات مثل أكوس والحوار الأمني الرباعي، وأيضًا الزيارات الدبلوماسية الأمريكية للفوزِ بجُزر في جنوب المحيط الهادئ مثل «بابوا غينيا الجديدة، وفيجي، وتونغا»، والاجتماع الثلاثي الأخير بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، انعكاسًا لما سبق ذكره؛ فلم تكُن الصين عمياء أو رافضة لهذه التحرُّكات الأمريكية، لذلك اقترح الرئيس الصيني شي جين بينغ في العام الماضي مبادرة الأمن العالمي، التي كانت بمثابة استجابة لإستراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن لم يُكشَف عن تفاصيل هذه المبادرة. وبالإضافة إلى ذلك، استخدمت الصين أيضًا قوتها الناعمة لاستقطاب جُزر جنوب المحيط الهادئ، حيث أصبحت هذه الجُزر أهدافًا مغرية وصعبة المنال تتكالب عليها الدول في رقعة الشطرنج الجيوسياسية.
وتحافظ دول الخليج على علاقات وثيقة ومميَّزة مع الولايات المتحدة الأمريكية على الجبهة الأمنية، على الرغم من التوتُّرات الأخيرة بين إدارة بايدن والمملكة العربية السعودية. ومع ذلك، فقد زادت السعودية ودول الخليج من تفاعلها مع الصين، باعتبارها جزءًا من إستراتيجيات التنويع الاقتصادي، التي تتّبِعها، ويُعزى ذلك أيضًا إلى ضرورات برامجها الطموحة في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي على المستوى الداخلي، ناهيك عن سعيها لتولِّي زمام المبادرة في ثورة الذكاء الصناعي. علاوةً على ذلك، توسَّطت الصين في اتفاق التقارب السعودي-الإيراني؛ الأمر الذي سوف ينعكس على التقارب المتزايد بين بكين والرياض، وهو التطوُّر الذي أثارَ الدهشة لدى إدارة بايدن. كما زادت دول الخليج من تفاعلها مع الهند في السنوات الأخيرة؛ فقد مهَّد الموقع الجغرافي الإستراتيجي لنيودلهي، إلى جانب الإمكانات والقُدرات الاقتصادية في مجالات الزراعة والتكنولوجيا والفضاء الخارجي والرعاية الصحية، الطريق لتعميق العلاقات بين الجانبين. وعزَّزت السعودية علاقاتها مع الهند، وعكست زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عام 2019م أهمِّية العلاقة بين البلدين. ومع ذلك وفي الوقت نفسه، حافظت المملكة العربية السعودية على علاقاتها الوثيقة مع باكستان، وهي المنافس الإقليمي للهند، وأكَّدت التزامها تجاه إسلام أباد؛ لضمان عدم وجود أيّ صدْع في علاقاتها المتنامية مع الهند. ولاتزال دول مجلس التعاون الخليجي أكبرَ شريك تجاري للهند، وحسبما أفادت به وزارة التجارة والصناعة الهندية، فقد بلغت التجارة الثنائية بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي 154 مليار دولار، خلال السنة المالية 2021-2022م. وقد برزت الهند والصين كجهات فاعلة في أسواق النفط العالمية؛ الأمر الذي عزَّز فُرَص دول الخليج لإقامة علاقات أعمق مع كلا البلدين.
وتعكس مبادرة التعاون الثلاثي، التي أطلقتها فرنسا والهند والإمارات العربية المتحدة، الدورَ الدولي الذي تلعبُه أبوظبي في التعامل الفعّال مع شركاء متنوِّعين، لا سيّما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتكشف العلاقات المتنامية بين الإمارات وكوريا الجنوبية على الجبهتين الأمنية والاقتصادية، اهتمامَ دول الخليج في تحوُّلها نحو القوى الآسيوية. وتواصل الإمارات تعزيزَ علاقاتها الاقتصادية، خاصَّةً فيما يتعلَّق بالطاقة، مع دول مثل كوريا الجنوبية والصين ونظيراتها الآسيوية الأخرى. وبالمثل، عزَّزت قطر أيضًا من جهودها لإقامة علاقات وثيقة مع القوى الآسيوية، خاصَّةً الهند واليابان وكوريا الجنوبية. وبالنظر إلى النظام الجيوسياسي الآخذ بالتشكُّل الآن بهيمنة غربية أقلّ وبترابط داخلي أكبر، يُعَدُّ هذا التحوُّل في التركيز، أي تحوُّل تركيز السياسة الخارجية الخليجية نحو الشرق، ذا أهمِّية كبيرة.
تبرُز آسيا تدريجيًا كقوة اقتصادية أساسية، ومن المتوقَّع أن تساهم بأكثر من 50% من الناتج المحلِّي الإجمالي العالمي بحلول عام 2040م. وفي هذا الإطار، تهدف دول الخليج إلى الحفاظ على مصالحها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الأمر الذي سوف يُعزِّز من مكانتها الموحَّدة كمركز محوري للطاقة والتجارة والتبادل التجاري، خصوصًا أنَّها تتمتَّع بموقع إستراتيجي تتقاطع فيه القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا. ويعكس الاجتماع الأول لوزراء خارجية دول الآسيان ومجلس التعاون الخليجي المقرَّر عقده في سبتمبر 2023م، بالتزامن مع قمّة مجلس التعاون الخليجي والآسيان التي ستعقد في أكتوبر 2023 بالرياض، جدِّيةَ دول الخليج في العمل بشكل وثيق مع دول المنطقة.