التحوُّل في الخطاب الإعلامي الإيراني ضدَّ السعودية.. وتداعياتهُ على سير العلاقات بين البلدين

https://rasanah-iiis.org/?p=35066

شهِدَ الخطاب الإعلامي الإيراني تجاه السعودية تصعيدًا ملحوظًا، بعد عودة العلاقات الدبلوماسية في مارس 2023م. لكن خلال الفترة الأخيرة، عادت النبرة الهجومية من جديد ضدّ المملكة؛ وذلك على خلفية السياق الإقليمي المضطرِب بفعل التوتُّرات العسكرية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، منذ انفجار الصراع في قطاع غزة، ثمّ التصعيد الإيراني-الإسرائيلي الأخير، قبل عودة الحديث عن التطبيع السعودي-الإسرائيلي والتحرُّكات الأمريكية الأخيرة باتّجاه حل الدولتين لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. في هذا التقرير، نُناقش مؤشِّرات ودلالات هذا التحوُّل في النبرة الإعلامية تجاه السعودية، ورؤية المملكة للتصعيد الإيراني، وتداعياته على سيْر العلاقات بين الدولتين، ثمّ مكاسب الطرفين من استمرار العلاقات وخسائرهما، في حال عودة التوتُّر أو قطْع العلاقات.

أولًا: مؤشِّرات ودلالات التحوُّل في النبرة الإعلامية الإيرانية ضدّ المملكة

ظهرت عدَّة مؤشِّرات على مدى الأيام القليلة الماضية، حول عودة النبرة الهجومية في الإعلام الايراني ضدّ المملكة العربية السعودية، يمكن الإشارة إلى جزء منها فيما يلي:

حمَلَ مقالُ الكاتب علي رضا تقوي نيا، الذينُشِر في صحيفة «آرمان أمروز» الإصلاحية في 5 مايو 2024م، نبرةً تصعيدية هجومية ضدّ المملكة باتّهامه الإمارات والسعودية والأردن بتأمين احتياجات إسرائيل، عن طريق إنشاء ممرّ برِّي من الإمارات إلى فلسطين المحتلَّة، في ظل استمرارية الحرب الإسرائيلية في غزة، وذلك على الرغم من عدم وجود تصريحات رسمية إسرائيلية أو سعودية على ذلك. كما أنَّ موقف المملكة واضح منذ بدايات الحرب، بطلبها من إسرائيل وقفها، واحترام قواعد القانون الدولي الإنساني، ورفْض التهجير وتصفية القضية، ونسَّقت وساعدت مع مصر في دخول وتقديم المساعدات للمدنيين الأبرياء، ورفضت بشدَّة عملية رفح، ورأست اللجنة العربية في الدفاع عن القضية الفلسطينية، والتعبئة الدولية لوقف الحرب المدمِّرة وحل الصراع عبر صيغة حل الدولتين.

تزداد لغة الكاتب ضدّ المملكة خطورةً، عندما كان يقصد بكلمة «وداعميها»، الدولَ الثلاث في العبارة «على الرغم من صعوبة استهداف السُفُن الإسرائيلية، وسُفُن داعميها في البحر المتوسِّط فنِّيًا، لكن فعليًا من المُحتمَل أن يكون لدى القوّات اليمنية (يقصُد القوّات الحوثية) أسلحة يمكنها إصابة سفينة بدقَّة على مسافة تزيد على 2000كم»، وتزداد لغة الهجوم خطورةً مع حديثه عن أنَّ «السيطرة على البحر المتوسِّط بالصواريخ البالستية والطيران المسلَّح، تعني السيطرة على التجارة البحرية لشمال أفريقيا وجنوب أوروبا وتركيا وروسيا وغرب آسيا.. وأنَّ فرْض الهيمنة الجيوسياسية على البحر المتوسِّط، تمكِّنُ القوات الحوثية من اكتساب مكانة أكبر في معادلات القوَّة الدولية».

تحمل هذه العبارات تحريضًا صريحًا ومباشرًا للحوثيين؛ المدعومين من إيران، على الاستهداف العسكري للسُفُن التجارية الإماراتية والسعودية والأردنية، بل وفي استمرارية الحوثيين في سياساتهم العدوانية ضدّ الملاحة والتجارة الدولية عمومًا، وتوسيع مسرح الاستهداف للسُفُن المارَّة، بعدم التركيز فقط على البحر الأحمر بل مدّ نطاق الأنشطة العدوانية إلى البحر المتوسِّط؛ ما يعني عمليًا دعوةً لإعاقة وضرب حركة سُفُن التجارة وناقلات النفط الخليجية والسعودية المارَّة نحو الغرب الأوربي والأمريكي. وفي هذه الحالة، يقصُد جرّ المملكة في الصراع الدائر؛ لكونها لن تقِف مكتوفةَ اليدين حال أيّ عدوانٍ ضدّها.

ينسجم المقال، وإن كان غير رسمي، مع ما ذهبت إليه صحيفة «كيهان» المحسوبة على النظام، بإشارتها إلى أنَّ الطريق البرِّي الإماراتي-السعودي، الذي يدعم إسرائيل بزعمهم، يقع في مرمى صواريخ ومسيَّرات اليمنيين، ولم تنتهِ حتى الآن رسميًا الحرب، التي امتدَّت لسنوات بين هاتين الدولتين ضدّ اليمن، لا سيّما أنَّ اليمنيين كشفوا عن صاروخهم ما فوق الصوتي، الذي يبلغ مداه 2000 كلم، وتُضيف بأنَّ على الحُكّام العرب وغير العرب، الذين يخونون الرأي العام والشعب الفلسطيني، أن يخافوا من الآن فصاعدًا، خصوصًا أنَّ المرشد علي خامنئي كان قد حذَّر من أنَّ هذه الحكومات الإسلامية ستنال جزاءَ خيانتها.

سبقَ ذلك المقال بعض التقارير الإعلامية الهجومية ضدّ المملكة والدول الخليجية، منذ انفجار الصراع في غزة، لكنَّها ليست بتلك النبرة التحريضية ضدّ المملكة، حيث أوردت صحيفة «خراسان» في 16 أبريل 2024م، تحليلًا بعنوان: «عُقم «إستراتيجية الناتو العربي»، حيث اتّهمت فيه دولَ الخليج بمساعدة إسرائيل لتأمين احتياجاتها، وذكرت في تهديد مُبطَّن بأنَّ هجمات الحوثيين لا تتعرَّض حاليًا لأيّ سفينة سعودية وإماراتية. كما أشار موقع «انتخاب» إلى أنَّ آراء بعض الخُبراء بأنَّ حُجَّة السعودية والأردن في اعتراضهما الطائرات المسيَّرة الإيرانية تأتي ضمن الأمور السيادية لحماية مجالهما الجوِّي، تتناقض مع مواقفهما ضدّ إسرائيل خلال حرب غزة.

تتزامن النبرة الإعلامية الهجومية ضدّ المملكة، مع الحديث الأمريكي عن اقتراب التطبيع بين الرياض وتل أبيب، وتعكس امتعاضًا إيرانيًا من تلك المحادثات، التي تقيِّمها إيران على أنَّها تزيد من عُزلتها، وتعزِّز من دمْج إسرائيل، وثانيًا؛ عدم الرضا الإيراني على نتائج عودة العلاقات السعودية-الإيرانية، بعد مرور أكثر من عام من التوقيع على الاتفاق السعودي-الإيراني في بكين، حيث يقيِّم الإيرانيون عودةَ العلاقات بالجمود؛ لضعف التقدُّم في الملفات الثنائية المُحتمَل التعاون فيها بين الجانبين. ولذلك، لرُبَّما تعكس تلك النبرة التصعيدية توجُّسًا إيرانيًا كبيرًا من سيْر العلاقات، وتسعى عبر إعلامها إلى إيصال رسائل للمملكة بأنَّ الطرف الإيراني سيكون الخاسرَ من تطبيع العلاقات مع إسرائيل؛ لأنَّ تلك العلاقة المُحتمَلة قد تُفضي إلى تدشين معادلةٍ جديدة أو تكتُّلٍ جديد يضرُّ بالمصالح الإيرانية.

وكذلك، تتزامن مع حلول موسم الحج، الذي يشكِّل مناسبةً مهمَّة بالنسبة للنظام الإيراني، ليس لمكانة هذه المراسم فحسب، بل لتقديم نموذج إيراني خاص يخلطُ بين الأبعاد السياسية والدينية، دون مراعات الضوابط والقواعد الدينية، التي تحكُم شعيرةَ الحج. وقد تجلَّى ذلك في محاولات إيران الدؤوبة لفرض ما يُسمَّى بمراسم البراءة من المشركين، والتي تقصدُ بهم ما تعتبرهم «قُوى الاستكبار الغربي الأوروبي والأمريكي وإسرائيل». وفي هذا الصدد، حاول المرشد خامنئي استغلالَ الأحداث، التي تشهدها غزة منذ أكتوبر 2023م، عبر تسمية حج هذا العام بـ «حج البراءة»، كمقدِّمة لإعطاء هذه المراسم الإيرانية زخمًا خاصًّا، يؤدِّي إلى تثبيتها كفكرة إيرانية خالِصة خلال الأعوام المقبلة. وتمثِّل هذه التسمية لحج هذا العام، دعوةً صريحةً من المرشد خامنئي لتسييس الحج، حيث لم تُراعِ حساسية المملكة وبقية العالم الإسلامي تجاه تسييس شعيرة الحج لخدمة أهداف سياسية خاصَّة.

ثانيًا: تداعيات التصعيد المُحتمَلة على سيْر العلاقات بين الدولتين

تتنوَّع التقييمات السعودية حيال عودة نغمة التصعيد الخطابي لإيران تجاه السعودية، رُبَّما للهواجس الإيرانية بعقد المملكة لاتفاق أمني شامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، ودفْع خطَّتها النووية الطموحة قُدُمًا، أو لجهة الهواجس الإيرانية من تباطؤ تقدُّم العلاقات الاقتصادية مع السعودية. وبالنسبة للسعودية، يمثِّل هذا الاتفاق مع أمريكا، في حال استكماله، تعزيزًا لقوَّة ومكانة السعودية بشكل كبير في المنطقة، وسيحمي المنطقة وأمنها، ويرسِّخ من حالة استقرارٍ تحتاجها المنطقة؛ للخروج من دوّامة الأزمات. وهذا هو ما تنظُر إليه إيران بعين الرهبة، معتبرةً أنَّه موجَّهٌ ضدّها ويستهدفها، وقد يحمل تعاونًا سعوديًا مع كُلٍّ من أمريكا أو إسرائيل، من خلال توفير منصَّة إقليمية لشنِّ هجوم سريع ضدّ إيران، حتى لو لم تكُن لدى القيادة السعودية أيّ نيّة للقيام بذلك. وهي مخاوف إيرانية تبدو غير مبرَّرة، حيث تغيب عن حسابات التصعيد الخطابي لإيران، أنَّ الدولة السعودية تُعَدُّ أحد أكبر وأهمّ الدول في المنطقة، وتحرص على إقامة علاقات متوازِنة مع الجميع، وتتّسِم سياستها الخارجية بالرزانة والتعقُّل. ولذلك، عندما تُقدِمُ السعودية على مثل هذه الخطوة الكبيرة، فلا بُدَّ أن تأخذ في اعتبارها أمن واستقرار وسلام المنطقة، ومصالحها المتمثِّلة في وجود بيئة استقرار خالية من المشكلات، ولن تقبل بأيّ اتفاق مع أمريكا أو إسرائيل من شأنه تهديد أمن دولٍ أخرى في المنطقة، سواءً إيران أو غيرها.

وعلى الرغم من أنَّ القيادة السعودية، وخلال مراحل مفاوضات تطوير تعاونها مع الحكومة الأمريكية، أخذت في حساباتها أهمِّية المحافظة على علاقتها مع إيران، وضمان عدم تعكير أجواء التقارب بينهما، إلّا أنَّ ذلك لا يمنع في المقابل أن تكون قد أخذت ضمن حساباتها، أنَّ التصعيد الإيراني والتهديد الخطابي هو تحدٍّ جَدِّي للعلاقات بينهما، وينبغي عدم إغفاله، وذلك لاعتبارات تاريخية ومواقف سابقة شهِدَتها العلاقات السعودية مع إيران، في تقلُّب مواقف الأخيرة، واستعدادها للتنصُّل من التزامات الاتفاق بينهما لأسبابٍ واهية، لا سيّما في حال حصول تطوُّرات جوهرية لعوامل داخلية أو خارجية، تدفع صانع القرار الإيراني إلى تأزيم العلاقات مع السعودية.

ومن هُنا، فمن المرجَّح أن تقوم إيران بالضغط على المملكة العربية السعودية لأجل وقْف مسارها في المُضي نحو تشكيل علاقات متطوِّرة مع الولايات المتحدة، عبر التلويح بتهديد أمن المملكة ذاته، إمّا بشكلٍ مباشر، أو بشكلٍ غير مباشر من خلال وكلاء إقليميين، بما في ذلك توسيع إيراني لدور الحوثيين في اليمن في تعقيد إشكاليات المنطقة، والزجّ بهم بشكل أكبر نحو استهداف الملاحة البحرية في خليج عدن وباب المندب، بما لا يخدم مسار الحل السياسي في اليمن، والاحتفاظ بالورقة الحوثية؛ وهو ما سيؤدِّي إلى تقويض الثقة بين الرياض وطهران. أو رُبَّما قد تلجأ إيران إلى التحريض، ومحاولة إثارة التوترات الأمنية داخل السعودية أو في دول الخليج، وهو توجُّهٌ ظهرت بوادرُه خلال خطاب مرشد إيران علي خامنئي في تحريضٍ مباشر على استغلال موسم الحج، وهذه المرَّة من خلال ركوب موجة معاناة أهل غزة، وهو تعدٍّ واضح وصريح على الاتفاق، الذي تمَّ بين السعودية وإيران، ومحاولات ابتزاز سياسي لتمرير أجندة إيران السياسية البعيدة كل البُعد عن الدين، وعن غزة ومعاناتها.

وعلى جانب تفنيد الهواجس الإيرانيةوالاستعجال في ترجمة بنود الاتفاق الاقتصادية والتجارية، فإنَّالبطء في بعض المجالات له مبرِّراته الموضوعية، حيث أنَّ الطموحات الاقتصادية تتطلَّب استقرارًا أمنيًا وسياسيًا في المنطقة، وهو ما عمِلَت عليه السعودية بإعادتها للعلاقات مع إيران، واختيارها لأولوية إشراك إيران، لا عُزلتها. لكن السلوك الإيراني وحسابات المصالح الذاتية الخاصَّة في الإقليم، هي ما أربكت الوضع الأمني والاستقرار السياسي في المنطقة؛ وبالتالي تعذَّرَ الدفع بعلاقة الدولتين في جانبها الاقتصادي قُدُمًا.

ثالثًا: مكاسب الطرفين من استمرار العلاقات

توافقت السعودية وإيران والصين، خلال الاجتماع الأول للجنة الثلاثية المشتركة، الذي عُقِد في منتصف ديسمبر 2023م، على المكاسب التي حقَّقها الاتفاق، وفي مقدِّمتها وضْع لبِنات في علاقة تعاونية بين البلدين في الإطار الثنائي والإقليمي، تُجنِّبهُما مخاطر الأزمة والتوتُّر الذي كان سائدًا بينهما. وقد أثبتت الحرب الإسرائيلية على غزة هذا الاتّجاه، حيث أسفرت عن تطوُّراتٍ كان أبرزها انتقال المواجهة بين إسرائيل وإيران من حروب الظل والوكالة إلى المواجه المباشرة؛ ما جعلَ المنطقة على حافَّة الحرب الإقليمية الشاملة. انطلاقًا من هذا، يمكن القول إنَّ أهمّ المكاسب التي تحقِّقها الرياض وطهران باستمرار تمسُّكهما باتفاق بكين، تكمُن في قُدرة الطرفين على المستوى الإستراتيجي تحييدَ توظيف الولايات المتحدة الأمريكية الخلافات بينهما لتحقيق أهدافها في المنطقة. وبالتالي، فإنَّ استمرار الالتزام بالاتفاق يضمن عدم توظيف أيّ طرف لقُدراته وإمكاناته ضدّ الطرف الآخر، في حالات التوتُّر مع قُوى إقليمية ودولية أخرى، بل الأكثر من ذلك قد تتحوَّل على المدى المتوسِّط والبعيد إلى عامل مكمِّل ومعزِّز لإستراتيجية كُلٍّ منهما للحفاظ على الاستقرار والأمن الإقليمي، وفُرَصُ ذلك كبيرة جدًّا، في ظل الرعاية الصينية للاتفاق، وسعيها الحثيث لمواصلة التزام الطرفين به وتنفيذ بنوده، عبر الاجتماعات الدورية، التي ستحتضن الرياض نسختها الثانية في شهر يونيو 2024م.

وشكَّل البُعد الاقتصادي أحد أبرز نقاط الضعف في الاتفاق، خاصَّةً بالنسبة للطرف الإيراني الذي كان ينتظر تحقيق عوائد اقتصادية كبيرة هو في أمسِّ الحاجة لها. وفي هذا الإطار، من الضروري التأكيد على أنَّ التعاملات التجارية بين البلدين تحديدًا، تحتاج لوقت أطول؛ حتى يُعيد رأس المال (المستثمرون) بناءَ الثقة، التي فُقِدت بحُكم التجارب التاريخية السابقة. ومن هُنا، فإنَّ استمرار العلاقات الودية التعاونية بين البلدين «خطابًا وممارسة»، لفترة طويلة نسبيًا، تُعَدُّ حاجةً ضرورية لتدارُك نقطة الضعف هذه في الاتفاق. فضلًا على أنَّ ذلك الأمر يخلقُ أيضًا ظروفًا مواتية، لتجسيد المشاريع التنموية الوطنية وامتداداتها الإقليمية، التي تتطلَّب قدرًا كبيرًا من الاستقرار، ويُتيح المجال لتخصيص موارد مالية أكبر لمسائل التنمية، كما يخلقُ بيئةً مناسبة لجذب الاستثمارات الخارجية.

رابعًا: خسائر الطرفين في حال توتُّر أو قطْع العلاقات

بلا شك، فإنَّ أي توتُّر للعلاقات بين البلدين سينعكس سلبًا على مصالحهما السياسية والاقتصادية، وقد يمتدّ إلى العلاقات التشابكية في المنطقة بكاملها. بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فإنَّ توتُّر العلاقات مع إيران وصولًا إلى قطْع العلاقات، سوف تكون له آثارٌ سلبية على أمن المنطقة واستقرارها، حيث تعود المنافسة والمواجهة، وهذا بدوره سيفرض على المملكة إعادة توجيه بوصلة سياساتها، عبر التركيز على الجوانب الدفاعية، وتوجيه مزيد من الموارد للإنفاق العسكري، وقد تجُرّ المواجهةُ إيرانَ إلى العمل على تقويض الأمن الداخلي للمملكة، عبر استهداف منشآتها النفطية، والعودة إلى تسخين الجبهات التي تتقاطع فيها مصالح البلدين، إذ رُبّما تنتهي فترة الهدوء الراهنة في اليمن، وقد تستخدم إيران الحوثيين من أجل شنِّ المزيد من الهجمات على المنشآت النفطية السعودية كما حدث في السابق، وليس مضمونًا أن تقوم الولايات المتحدة بنفس الجهود الدفاعية، التي قامت بها عندما هاجمت إيرانُ إسرائيلَ في أبريل 2024م. كما قد تعود إيران إلى شنِّ حملاتها الإعلامية ضدّ المملكة، وسوف تستغِلّ إيران المواقف الإقليمية من الحرب الإسرائيلية على غزة في هذا الإطار، وبالفعل بدأت حملات من هذا القبيل ضدّ المملكة في إيران، لا سيّما من جانب رجال الدين.

كذلك، فإنَّ العودة للمواجهة سوف تؤثِّر على الموارد التي تحتاجها المملكة من أجل تحقيق الطموحات الداخلية في إطار «رؤية 2030»، ومن ثمَّ فإنَّ حالة عدم الاستقرار وتوتُّر العلاقات مع إيران سوف تكون لها انعكاساتها على مشروع التنمية في الداخل، وحركة الاقتصاد والاستثمارات، التي ترجو المملكة جذبها لتعزيز مكانتها وقيادتها إقليميًا وعالميًا. من جهة أخرى، سوف يؤدِّي انهيار الاتفاق إلى التماس المملكة المساعدةَ من الولايات المتحدة، بعدما نجحت في تحييد هذا الملف عن العلاقات مع واشنطن واستغلال الأخيرة هذا الملف لابتزاز السعودية والضغط عليها. وقد يفرض انهيار الاتفاق على المملكة الدخولَ في معادلات وصِيَغٍ أمنية فضفاضة تحت دعوى مواجهة إيران، وبالمقابل قد يضرُّ توتُّر العلاقات مع طهران بعلاقات المملكة المتطوِّرة مع الصين؛ لأنَّه سوف يُدخِل المنطقة في حالة جديدة من التوتُّر وعدم الاستقرار، وقد يضرُّ بحركة الملاحة وتدفُّقات النفط.

أمّا بالنسبة لإيران، فإنَّ انهيار الاتفاق سوف يعكسُ مسار الهدوء، الذي سمح لإيران باستعادة علاقاتها مع دول الخليج ودول المنطقة، وهو ما قد يؤدِّي إلى تحالُف جديد، على غرار الذي تشكَّل في عام 2016م لمواجهة تهديدات إيران. وهذا سيتطلَّب إعادة توجيه المزيد من موارد الميزانية إلى مشروع المواجهة في الخارج، وهي قضية لطالما كانت محلَّ انتقادات داخلية، كما أنَّ مشاركة الخليج والسعودية إلى جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية ستكون مؤثِّرة في فرْض مزيدٍ من الضغوط على إيران، بما في ذلك الضغوط الاقتصادية، والأخرى التي تخُصّ البرنامج النووي الإيراني. ولا شك، سوف ينعكس ذلك على الأوضاع السياسية والاجتماعية في الداخل، ما سيؤدِّي إلى إضعاف فعالية الحكومة، التي وعدت بتحسين العلاقات مع دول الجوار، وتحسين الوضع الاقتصادي، وسيفرض ذلك مزيدًا من الضغوط الشعبية على النظام، ورُبَّما يتعرَّض نفوذ إيران في عدد من الساحات إلى التآكل، نتيجةَ الضغوط السعودية والخليجية على بعض الدول من أجل وضع حدٍّ لعلاقاتها مع إيران، بالأحرى ستكون إيران أكثرَ عُزلة.

وأخيرًا، فإنَّ انهيار الاتفاق سيُنهي قناةً دبلوماسيةً مهمَّة للتواصل بين الجانبين، وسوف يُخرِج طرفًا دوليًا مهمًا كالصين من المعادلة الحاكمة للعلاقات، وهو ما يعني أنَّ حقبةً ممتَدَّةً من النزاعات والمواجهات سوف تندلع، وقد تقود المنطقة إلى حالة من عدم الاستقرار، وسوف تكون الأطرافُ أداةً لتلاعُب القُوى الكُبرى بها، في إطار مصالحها وتنافسها الإستراتيجي.

خاتمة

من السابق لأوانه اعتبار أنَّ التصعيد الإعلامي ضدّ المملكة العربية السعودية، يمثِّل رغبةً أكيدة للنظام الإيراني، لا سيّما بعد لقاء وزيري خارجية البلدين على هامش اجتماع منظَّمة التعاون الإسلامي في العاصمة الغامبية بانجول، وتأكيدهما بأنَّ العلاقات بين البلدين تسير في الاتّجاه الصحيح. لكن ليس من المُستبعَد أن تكون هنالك أطرافٌ إيرانية غير راضية عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتسعى لافتعال بعض الأزمات، وقد يكون النظام الإيراني نفسه بصدد إيصال بعض الرسائل وتمريرها إلى السعودية، لكن عبر بوّابة الإعلام؛ للحيلولة دون عودة العلاقة بين البلدين إلى مربَّع التوتُّر، والذي قد تكون محصّلته هذه المرة فُقدان ما تبقَّى من ثِقة، خاصَّةً بعد الالتزام، الذي أبدتهُ السعودية بتعهُّداتها تجاه الجانب الإيراني خلال الفترة التي أعقبت عودة علاقاتها الدبلوماسية بين البلدين، وإعلانها في أكثر من مناسبة عن حرصها على تطوير علاقاتها مع طهران في مختلف المستويات. وممّا لا شك فيه أنَّ الاستقرار في العلاقة سيعود بالنفع على كلا البلدين، خاصَّةً بالنسبة لإيران، التي تمُرّ بأزمات داخلية وتوتُّرات خارجية، ومن شأن عودة التوتُّر أن يُفقِد إيران فُرَصًا اقتصاديةً مستقبلية في السوق السعودي والخليجي، وقد يؤثِّر سلبًا على سيْر المشاريع المشتركة والعابرة للحدود ضمن المبادرات الدولية. كما أنَّ فقدان فُرصةَ وجودِ وسيطٍ مثل الصين، التي رعت هذه العلاقة، لن يكون متاحًا مرَّةً أخرى، في حال تأزَّمت العلاقات مجدَّدًا. لذلك، ليس من الحكمة أن يتِم إهدار فُرصة قائمة لتحقيق مكاسب هامَّة للبلدين ولدول المنطقة، بعيدًا عن المشاريع الكُبرى والاستقطابات الدولية. وما يحتاجهُ البلدان فعلًا، هو المزيد من الحوار وتبادُل الحوارات والزيارات؛ لبحث سُبُل ومجالات جديدة لتعزيز العلاقات بما يخدم مصلحة البلدين، والبُعد عن مسبِّبات التأزيم والانعزال.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير