ليست اللغة أداة للتواصل الإنساني فقط، إنها وعلى حد تعبير الفيلسوف الألماني هايدغر، “لعنة الإنسان الحديث”، فوَفْق رأيه “الدالّ لم يعد يشير إلى مدلولٍ واضح”، بل تجاوز الأمر ذلك لتصبح اللغة كما يقول الفيلسوف نيتشه سلاحًا للشك وتفتيتًا لليقينيات والقطعيات، لذا حاول الفيلسوف الفرنسي رولان بارت زعيم المدرسة التفكيكية أن يجد حلًّا لهذه المعضلة من خلال ما سمَّاه “التصفير الدلاليّ”، وهو يعني تحويل الكلمات إلى أرقام، إيمانًا بدِقَّتها الدلاليَّة ولقِلَّة احتمالية خطئها، فاللغة فعلٌ عاجزٌ عن القول والوضوح والدقة، مكرسة للغموض والإيهام والتشابك اللا منطقيّ.
تنويم جماعي وجهل مقدس
رغم هذه الإشكاليات اللغوية على المستوى الفلسفيّ والفكريّ، ورغم أن الدالّ لم يعُد يشير إلى مدلول واضح، فإن اللغة الإعلامية في إيران على مستوى التصريحات السياسيَّة، استطاعت أن تخلق قالبها الخاصّ ضمن البرغماتيَّة التي تؤمن بها، وحاولت بكامل جهدها أن تؤسِّس لمفاهيمها وآيديولوجياتها من خلال حقن تصاريحها الإعلاميَّة بجرعات هائلة من التبريرات الدينية والعاطفيّة، تحقيقًا للمفهوم الذي سمَّاه أركون “الجهل المقدَّس” الذي يخاطب العاطفة لا المنطق، وصحيحٌ أن الإقناع عمليَّة منطقيَّة في المقام الأول، إلا أن العاطفة أكثر إقناعًا في الأغلب من المنطق، وفي هذا الجانب يقول نيتشه: “إن المفاهيم العاطفيَّة، وإن كانت خرافة، تحقِّق ما لا تحققه الأشياء الأخرى، فالموسيقى مثلًّا بسبب قيمتها العاطفية تَنفُذ إلى الشعور مباشرةً دون أن يمارس المنطق رقابته عليها بسبب ما تحمله من زَخْمٍ عاطفيّ وتأثيريّ”.
بجانب ما قاله نيتشه سابقًا فالتصريحات الإعلامية في إيران تعتمد أيضًا على إحدى أهم النظريات الحديثة التي أسّسها غوستاف لوبون في كتابه الشهير “سيكولوجيا الجماهير”، والتي تفيد بأن الصراعات السياسية والاقتصادية في العصر الحديث اختلفت كثيرًا عنها في العصور السابقة، فقد أصبح التأثير على الجماهير شيئًا أساسيًّا فيها وركيزةً لا يمكن الاستغناء عنها، فالكلام الذي يطلقه أيُّ قائدٍ يمارس تنويمًا مغناطيسيًّا على الجموع، يشبه تمامًا ما يفعله الطبيب في أثناء تخدير المريض، في حين أن الإقناع العقلانيّ يفشل عندما يقع في صدام مع المشاعر والعواطف، لذلك تستمر الخرافات لقرون رغم تناقضها مع أبسط حدود المنطق.
التركيز على العاطفة لتجاوز مشكلة الأقليّات
إن رؤيتَي نيتشه وغوستاف لوبون تحضران بشراهة في التصريحات الإيرانية لِمَا تحقِّقانه لرجالات السياسية هناك من حلٍّ فعليٍّ لمشكلاتٍ عدة، من ضمنها التعدُّديات العرقية التي تشكل جزءًا كبيرًا جدًّا من تكوين المجتمع، فالأكراد وحدهم يبلغون ما يقارب عشرة ملايين نسمة، لذا من الصعب أن يكون التصريح السياسي هناك قائمًا على العرقيَّة أو على المنطق، لأنهما متعددان ومختلفان، بينما العاطفة الإنسانية واحدة وأكثريَّة. من أمثلة استخدام الجانب العاطفي الخاضع للأيدلوجيا الدينية في التصريحات الإيرانيّة، قول رئيس هيئة الطاقة الذرية علي أكبر صالحي في أواخر أغسطس 2017: “إيران لا تسعى لصناعة الأسلحة النووية، لأن صناعة القنابل النووية حرام دينيًّا”. لقد استخدم صالحيّ في هذا التصريح اللغة الدينية الآيديولوجيَّة بوضوحٍ فائقٍ، وفي هذا الصدد يقول المفكر أوليفي ربول: “إن الميدان المفضَّل لرجل الآيديولوجيا هو اللغة؛ إنها توفّر له مساحة لممارسة سلطة المعنى والدلالات التي يريد ترويجيها”
مثالٌ آخر يستنطق دراية السياسيين الإيرانيين ورجال الدين هناك، بأهمِّية اللغة الدينية وإمكانية التلاعب بها وفصل الدالّ عن المدلول لتحقيق براغماتية معيَّنة، ففي أحداث الثورة الخضراء 2009 لعب الإنترنت دورًا هامًّا، ولم يجد المرشد الأعلى شرعيةً منطقية لحجبه سوى أن يقول: “إذا كان استخدام الإنترنت سيؤدي إلى فعل الشر ونشر الأكاذيب والأخبار التحريضية، ممَّا يساعد أعداء الإسلام والمسلمين، فاستخدامه يصبح محرَّمًا”.
تحويل الأكثرية إلى أقلية.. وإعادة تسمية الأشياء
هذه الألعاب اللغوية ذات اللباس الديني في التصريحات الإعلامية لم تكُن إيران وحدها من يستخدمها، فكثير من الأحزاب السياسية المتقدمة والواعية في دولٍ كثيرة تعتمد عليها بشكلٍ أساسي وقطعيّ، لِمَا تحقِّقه من أغراض لا يمكن حصرها، فإبان الحرب الإسبانية كانت الأحزاب العلمانيَّة بصدد ترويج أفكارها السياسية، إلا أن السلطة الكاثوليكية كانت عائقًا عسيرًا أمام تَقدُّم الحزب سياسيًّا واجتماعيًّا، وفي خطاب مُغايِرٍ ومختلف عن الخطابات السياسية الرائجة في ذلك الوقت، قال أحدهم في تَجمُّعٍ كبير: “أيها الكاثوليكي، أيها العامل، أيها المستخدم، أيها الفلاح، نمدّ إليك اليد -نحن العلمانيين- لأنك أخ لنا ولأنك مثلنا تتملكك نفس الهموم” ففي هذا التصريح نلحظ فصل الدالّ عن المدلول اللغوي المتعارَف عليه على مستوى السياق، لأن العامل والفلاح والمستخدم جميعهم من الديانة الكاثوليكية، وهم الأغلبيَّة، لكن الحزب استطاع أن يقدِّم لهم مفهومًا ضمنيًّا عن طريق اللغة بأنهم مجرَّد قِلَّة، من خلال ندائه للمفرد (الكاثوليكي – العامل – المستخدم – الفلاح)، في حين أنه عندما تَحدَّث عن حزبه قال “نحن”.
لا تعتمد تصريحات الساسة الإيرانيين الإعلامية على الثيمة الدينية فقط، كما هو الحال مع تصريح المرشد تجاه الإنترنت وصالحي تجاه القنبلة النووية، بل تحضر ثيمات أخرى، فعلى سبيل المثال تكريس ثيمة “المقاومة” لوصف الجماعات المسلحة والتخريبية في سوريا أو العراق أو أفغانستان والمدعومة من النظام، أو وصف رجال الحرس الثوري بـ”المدافعين عن الإنسانية”، ووصف مطالب الاستقلال لأكراد العراق بـ”تقسيم وحدة الشعوب”! من ضمن الأمثلة الأخرى التي يمكن عرضها في هذا السياق، والتي توضح تحريف الدال عن مدلوله الواقعي باستخدام الجانب اللغوي فقط، تصريح المتحدث الرسميّ باسم القوات المسلَّحة العميد مسعود جزائري، القائل فيه: “التفاوض بشأن صواريخنا مرفوض تمامًا، فإيران اليوم تواجه أعداءً أشرارًا وكُثرًا، ويجب أن تنمِّي صناعاتها العسكرية للدفاع عن نفسها”.
للوهلة الأولى يبدو هذا التصريح منطقيًّا وشرعيًّا لدى القارئ، فهو يُشعر الفرد الإيرانيّ بأن ثمة تربصًا خارجيًّا، لهذا فإن رغبة الحكومة الإيرانية في تطوير صواريخها مشروع وحقٌّ لها دفاعًا عن نفسها لأنها تواجه أعداءً كثرًا، إلا أن الحقيقة الواقعية مختلفة كُليًّا، بل على النقيض تمامًا، فرغبة التطوير نابعة من أهداف برغماتيّة توسُّعية وتهديدية، وهو ما أكّده مجلس الأمن أكثر من مرة، بل هو ما أكّده النظام الإيراني نفسه.
لقد استطاع جزائري أن يستخدم في هذا التصريح، رغم قصر حجمه، مفاهيم ونظرياتٍ عدة، ومن ضمن تلك المفاهيم ما سمَّاه زيغمونت باومان “الفرد تحت الحصار” في كتابه “الحياة السائلة”، ويعني هذا المفهوم: “محاولة الأنظمة بشكل دائم إشعار الفرد المنتمي إليها، بأنهُ تحت سلطة تَربُّص الآخر، وبحاجة ماسَّة إلى التمسُّك بالنظام الذي ينتمي إليه مهما كانت الفجوة بينهما، حتى يتنسى له الشعور بالأمان والحماية.
دوَّامة الصمت.. إعادة التكرار للسيطرة
المتتبع للتصريحات الإيرانية يلحظُ صفةً تُلازمها دائمًا، هي “التكرار”، فالتصريح الذي يقوله صالحي يأتي مكررًا بعد أيام قليلة من مسؤولٍ آخر، وبعد أيام أُخرى من مسؤول آخَر، بنفس المعنى والتشابه في العبارة والمضامين، وهذا ليس اعتباطًا أو نقصًا في الدراية الإعلامية لدى السياسي الإيراني، بل يعني المنهجية العلمية والتطبيق النظري لأبرز نظريات علم الاتصال الجماهيري المسماة بـ”دوامة الصمت”، التي طورتها الباحثة الألمانية إليزابيث نويل، ومفادها أن “التأثير التراكمي من خلال التكرار والتشابه حول التصريحات أو المعلومات الإعلاميَّة يؤدِّي إلى تأثيرات على المتلقِّي على المدى البعيد، إضافةً إلى أن التكرار الذي تمارسه أيّ وسيلة إعلاميّة يسيطر على الإنسان ويحاصره في كل مكان، ويهيمن على بيئته المعلوماتيَّة، لينتج عن ذلك تأثير شامل على المتلقِّي يجعل من الصعب عليه الهروب من تلك الرسائل المعلوماتية”، إضافة إلى أن “التجانس الكلاميّ الذي يخرج من الأشخاص المنتمين إلى تيار أو حزب أو نظام معيَّن يجعل الفرد المتلقِّي يعاني صعوبة بالغة في أن يُكوِّن رأيًا مستقلًّا له حول القضايا المختلفة، سياسيةً كانت أو اقتصادية أو أمنية، وبهذه الطريقة تصنع وسائل الإعلام إجماعًا جماهيريًّا حول الأفكار والقيم والرؤى التي يريد ترويجها”.