مدفوعين بالمصالح الإستراتيجية المُتبادَلة، عزَّزت روسيا وكوريا الشمالية تعاونهما بصورة ملحوظة، منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية. بالنسبة لروسيا، تساعد هذه الشراكة في تخفيف الوطأة الاقتصادية للعقوبات الغربية، وتُسهِم في دعْم جهودها الحربية. أمّا كوريا الشمالية، فتهدُف من خلال هذا التحالف إلى التَحرُّر من العُزلة الدولية، وتأمين مواردها الأساسية، وتعزيز اقتصادها.
أعلنت الدولتان مؤخَّرًا عن خِطَط لتوسيع تعاونهما الاقتصادي، لكن لا تزال تفاصيلها غامضة. وذكرت وكالة الأنباء الروسية الرسمية «تاس»، أنَّ الاتفاقية تشمل التعاون في صناعات مثل السياحة والعلوم والزراعة. ويأتي هذا في أعقاب مناقشات سابقة جرت في سبتمبر 2023م، أثناء زيارة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون لروسيا، حينها أعلن وزير الموارد الطبيعية الروسي ألكسندر كوزلوف، عن زيادة شحنات الحبوب إلى بيونغ يانغ، وناقش أيضًا استئناف الرحلات الجوِّية بانتظام بين البلدين، إلى جانب تحسين الطُرُق اللوجستية والتجارية، من خلال إحياء مشروع السِكَك الحديدية وميناء خاسان-راجين. وقد أضفى اتفاق نوفمبر 2024م الطابع الرسمي على هذه الجهود؛ ما يُشير إلى التزام أعمق بالشراكة الاقتصادية بين الدولتين.
ومع استمرار إرسال روسيا المزيد من القُوى العاملة للقتال في الصفوف الأمامية للحرب، أصبحت قطاعات أخرى من اقتصادها، مثل البناء والزراعة، تعاني من نقْص متزايِد في العمالة. لذلك، فمن المتوقَّع أن يزداد عدد العُمّال الكوريين الشماليين في روسيا؛ ما يساهم في سدِّ هذا النقص في العمالة. وقد يفيد هذا كوريا الشمالية؛ فهو يوفِّر مصدرًا للعملة الأجنبية «وهو تقليد لطالما اتّبعته كوريا الشمالية»، ومورد شديد الأهمِّية لاقتصادها. وقد لفت التدفُّق المُحتمَل للعمالة الكورية الشمالية إلى روسيا الانتباه؛ بسبب تداعياتها على العقوبات، التي فرضتها الأُمم المتحدة، التي تحَظر توظيف العمالة الكورية الشمالية في الخارج. لذا، يُسلِّط هذا الوضع الضوء على التحدِّيات المستمِرَّة في فرْض العقوبات الدولية، كما يُثير تساؤلاتٍ أوسع حول فعاليتها في معالجة الحقائق الجيوسياسية المتغيِّرة.
والأهم من التعاون الاقتصادي، هي الشراكة العسكرية المتنامية بين روسيا وكوريا الشمالية؛ فقد وقَّعت الدولتان معاهدة دفاع مشترك في يونيو من هذا العام، تلتزمان بموجبها بمساعدة بعضهما في حال وقوع هجوم، ويتّسِق هذا التطوُّر مع السِياق الأوسع لتجارة الأسلحة والتبادلات الإستراتيجية بين البلدين.
وتُشير تقديرات «جهاز الاستخبارات الوطني في كوريا الجنوبية»، إلى أنَّ كوريا الشمالية أرسلت إلى روسيا أكثر من 8 ملايين قذيفة مدفعية منذ بدء الحرب. ولهذه القذائف دورٌ حاسم في الصراع بين روسيا وأوكرانيا؛ فقد تسبَّبت بسقوط قرابة الــــ 80% من الضحايا على كِلا الجانبين. ويمكِّن استمرار كوريا الشمالية في إمداد روسيا بقذائف المدفعية، من الحفاظ على تفوُّقها في القوَّة النارية على أوكرانيا، إذ تُقدَّر نسبة القذائف الحالية لصالح روسيا بنسبة واحد إلى عشرة. ومن جانبه، اعترف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بنقص المدفعية في بلاده؛ ما يؤكِّد على خطورة هذا الفرق في النسبة. كما أنَّ إرسال كوريا الشمالية القذائف لا يُعزِّز موقف روسيا في ساحة المعركة فحسب، بل يُخفِّف أيضًا العبء على مجمّعها الصناعي العسكري المُستنزَف إنتاجيًا في اقتصادٍ أنهكته الحرب.
ويُشير تقرير «جهاز الاستخبارات الوطني في كوريا الجنوبية»، إلى أنَّ كوريا الشمالية أرسلت أكثر من 11 ألف جندي لمساعدة روسيا، لا سيّما إلى منطقة «كورسك». وقد يكون هذا التطوُّر حاسمًا لجهود الحرب الروسية؛ لأنَّه يسمح للجيش الروسي بتجنُّب تحويل القوّات من مناطق أخرى من الجبهة لدعم العمليات الدفاعية أو الهجومية في «كورسك». ومن شأن وجود مثل هذا العدد الكبير من القوّات الكورية الشمالية إلى جانب القوّات الروسية الموجودة بالمنطقة، أن يقوِّض موقف أوكرانيا المتفوِّق حاليًا في أيّ مفاوضات مستقبلية.
ومؤخَّرًا، كثَّف الجيش الروسي عملياته الهجومية في «كورسك»، بهدف دفْع القوّات الأوكرانية إلى التراجُع عبر الحدود. وتعهَّد الرئيس الأمريكي المُنتخَب دونالد ترامب، بإحضار زيلينسكي وبوتين إلى طاولة المفاوضات؛ لإنهاء الصراع بمجرد بدء إدارته يناير المقبل. وفي هذا السياق، لا بُدّ من أن تستغِلّ أوكرانيا احتلالها لأجزاء من «كورسك» كورقة للمساومة. وبلا شكّ، تَعي روسيا هذه الديناميكية الإستراتيجية، وفي حال تأكُّد وجود قوّات كورية شمالية في المنطقة، فإنَّ هذا يُشير إلى تصميم روسيا على حرْق هذه الورقة الأوكرانية.
ولا تزال حدود استفادة كوريا الشمالية من دعمها لروسيا غير واضحة، لكن تُشير التقارير إلى أنَّ روسيا زوَّدت بيونغ يانغ بأكثر من مليون برميل من النفط منذ بداية عام 2024م، وهو ما يُشكِّل انتهاكًا للعقوبات، التي فرضتها الأمم المتحدة على كوريا الشمالية. وقد يَدعم هذا التَدفُّق من موارد الطاقة برامج التسلُّح الآخِذة في التوسُّع بكوريا الشمالية، خصوصًا إنتاجها الضخم من الطائرات المسيَّرة الهجومية، الذي أُعلِن عنه مؤخَّرًا. كما تدور تكهُّنات حول احتمالية نقْل المعرفة التسليحية من روسيا إلى كوريا الشمالية؛ من أجل تطوير تكنولوجيا الطائرات المسيَّرة والأسلحة النووية. وفي حال تأكَّدت هذه التكهُّنات، قد تؤدِّي هذه التطوُّرات إلى مزيدٍ من زعزعة الاستقرار في «شبه الجزيرة الكورية»، وتصعيد التوتُّرات مع كوريا الجنوبية، ورُبَّما سيؤدِّي إلى جرِّ كوريا الجنوبية إلى الصراع في أوكرانيا، من خلال زيادة الدعم لكييف. ومن جانبها، قد تنَظُر الصين أيضًا إلى هذه التطوُّرات، على أنَّها تهديد للاستقرار الإقليمي في شمال غرب آسيا.
وتمتَدّ الشراكة بين روسيا وكوريا الشمالية إلى أبعادٍ اقتصادية وعسكرية واستراتيجية، ولها آثارٌ كبيرة على الجغرافيا السياسية العالمية. فمن إمدادات الذخائر ونشْر القوّات إلى شحنات النفط واحتمالية نقل التكنولوجيا، يسلِّط تعاونهما الضوء على جهود الدولتين لمواجهة العُزلة الدولية والعقوبات. وفي حين تعمل هذه الشراكة على تعزيز أهدافهما قصيرة الأجل، فإنَّها تخاطر بتصعيد التوتُّرات في أوروبا الشرقية وشمال شرق آسيا؛ ما قد يجُرّ المزيد من الجِهات الفَاعِلة إلى الصراع. ومع تطوُّر هذه العلاقة، من المرجَّح أن تمتَدّ تداعياتها إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة المباشرة.