يفيد عديدٌ من أدبيات تحليل الصراعات في إقليم الشرق الأوسط بأن التناقض في الموقف الغربي، لا سيما تجاه مواجهة مخاطر وتهديدات الفاعلين من غير الدول، يعد أحد العوامل الجوهرية في إطالة أمد الصراعات المهدِّدة للأمن والسلم الإقليميين، بل والدوليين، خصوصًا في ظل مقاربات خليجية متتالية تدعو لمواجهة المخاطر المتصاعدة للفاعلين من غير الدول، حفاظًا على أمن واستقرار الفاعلين من الدول، وذلك ضمن أطر وإستراتيجيات حماية الدول الوطنية في الشرق الأوسط المركزي بين الإستراتيجيات الإقليمية والدولية.
وما دامت القوى الغربية لم تحرك ساكنًا أمام عديد من المطالبات الخليجية عمومًا، والسعودية خصوصًا، لحفظ الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط على نحو يوفر الحماية، ليس فقط للحلفاء التقليديين والإستراتيجيين فحسب، وإنما لممرات الملاحة والتجارة الدولية، التي تهمُّ القوى الغربية بالأساس، لذلك حذرت السعودية -ولا تزال- منذ أكثر أربعين عامًا من تنامي مخاطر الفكر والنزعة الجيو-سياسية لدى بعض الأنظمة الحاكمة ووكلائها، ومن مشاريع الهدم والتخريب التي تحملها تلك الأنظمة وأذرعها.
لكن غضَّت الدول الغربية الطرف عن مطالبات المملكة خلال العقود الأربعة الماضية تجاه الأمن الإقليمي ومهدِّداته، إذ كانت المملكة تؤكد أن قضية الحفاظ على الدولة الوطنية والأمن الإقليمي يجب أن تنبثق ضمن سياقات وطنية تُراعي الخصوصيات المحلية بمختلف أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وما تقتضيه من حلول، حتى وإن تطلَّب ذلك فترات زمنية طويلة، بينما لم تكترث القوى الغربية بدعوات المملكة، ما سمح لبعض القوى الإقليمية -ذات النزعة التوسعية- بالاستثمار في الأزمات التي شهدها الشرق الأوسط منذ مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، وتوظيف التباينات الداخلية لصالح تعزيز نفوذ الفاعلين من غير الدول على حساب الدول الوطنية، وتجاوزها، بسبب عدم الاكتراث الغربي، ليس فقط لمصالح الحلفاء، وإنما الخطوط الحمراء الغربية ذاتها في أحايين كثيرة.
تظل التحذيرات السعودية من الممارسات الخطيرة للفاعلين من غير الدول في عديد من الساحات الإقليمية، والساحة اليمنية هنا نموذج واضح للتناقض الغربي في التعامل مع تهديدات الفاعلين من غير الدول، فقد حذَّرت المملكة مرارًا وتَكرارًا من مغبّة تنامي نفوذ هؤلاء الفاعلين من غير الدول وقوة شوكتهم في الساحة اليمنية على حساب مؤسسات الدولة والشرعية وحركة الملاحة الدولية، وطالبت المجتمع الدولي بالاصطفاف إلى جانبها لتوفير الحماية للتجارة والملاحة الدولية عند «باب المندب» الإستراتيجي، الذي يعد أحد أبرز ممرات التجارة الدولية، كما طالبت المملكة الأمم المتحدة والدول دائمةَ العضوية في مجلس الأمن والمبعوثَيْن الأممي والأمريكي بمراجعة مواقفهم والتصدي لمسؤولياتهم القانونية والإنسانية والأخلاقية، والضغط على الحوثيين لوقف انتهاكاتهم، وإدراجهم ضمن قوائم الإرهاب الدولية.
لكن تقاعست القوى الغربية عن الاضطلاع بدورها إزاء تنامي هذا الخطر للفاعلين من غير الدول في الساحة اليمنية، واكتفت الأمم المتحدة وبعض الدول الأوروبية بإدانات خجولة وضعيفة للغاية للانتهاكات بحق الشعب اليمني وقصف الأهداف المدنية والمطارات والمنشآت النفطية في السعودية، كشركة أرامكو، ووقفت الدول الغربية انتصارات الجيش اليمني والشرعية اليمنية، المدعومة من قوات التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، في الحديدة وغيرها من المحافظات اليمنية التي شهدت انتصارات للجيش اليمني الوطني، وذلك عبر قرارات مؤتمر ستكهولم، ووضع المدينة (الحديدة) تحت الوصاية الأممية، وعرقلة هذه الانتصارات بمزاعمَ واهية.
كذلك انتهى الحال بإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي كان يُفترض أن تمارس الضغوط على الحوثيين، بأن رفعتهم من قائمة التنظيمات الإرهابية في فبراير 2021م، أي ألغت قرار الرئيس السابق دونالد ترامب بتصنيف الحوثيين «جماعة إرهابية»، وذلك بحُجة أن إدراج الحوثيين ضمن قوائم الإرهاب «قد يترك تأثيرًا مدمِّرًا في حصول اليمنيين على السلع الأساسية، غذاء ووقود، متجاهلةً بذلك جرائم الحوثيين بحق الشعب اليمني وجيرانه.
وقد أرسل هذا التخاذل بإشارات خاطئة للحوثيين ليواصلوا جرائمهم التي ذهب ضحيتها الأبرياء من أبناء الشعب اليمني، فضلًا عن الاستمرار في إرسال «الدرونز» إلى الأراضي السعودية، واستهدافها بالصواريخ الباليستية.
وما أن تعرضت المصالح الغربية للخطر المباشر باستهداف الحوثيين السفن التجارية الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية، باعتبارها وسيلة ضغط على الغرب لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة -كما يدعي الحوثيون- تحرَّك الغرب وكأنه أول مرة يشاهد تنامي المخاطر عند «باب المندب» الإستراتيجي، وكأنه لم يسمع قبل ذلك عشرات التحذيرات السعودية، وفجأة أعادت إدارة الرئيس بايدن تصنيف الحوثيين «جماعة إرهابية»، وأعلنت عن تشكيل تحالف عسكري للتصدي لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر، ودعت حلفاءها في الشرق الأوسط إلى الانضمام إلى التحالف، الذي لم يلقَ استجابة واسعة، ربما لإدراك دول المنطقة حقيقة التناقض الغربي، وأن الأهداف الحقيقية من تشكيل التحالف تتعلق بحماية السفن الإسرائيلية والمصالح الغربية، بينما يتعرض شعب كامل للإبادة من آلة الحرب الإسرائيلية في فلسطين، كما لم يحرك الغرب ساكنًا عندما طالبت الفواعل الخليجية الإسهام في تأمين إمدادات النفط والتجارة الدولية في البحر الأحمر.
أثبت الواقع الإقليمي على مدى أربعة قرون منصرمة حتى تفاقم الاضطرابات الأمنية في البحر الأحمر، مدى مصداقية التحذيرات السعودية من تنامي مخاطر الفاعلين من غير الدول على الأمن والسلم الدوليين، وقد تسببت هذه الغفلة الغربية في اتساع دائرة الخطر لتطال مصالح الفواعل الغربية التي لم تُعِر اهتمامًا جادًّا بالتحذيرات السعودية، ونظرت إليها من زاوية التنافس الإقليمي، ما دفع المملكة إلى أخذ زمام المبادرة ومواجهة المخاطر المتفاقمة في البحر الأحمر ودول جوارها، ولم يمنعها ذلك من تقديم رؤيتها الطموحة، 2030، نموذجًا ناجحًا يؤكد وجود خِيارات وبدائل أفضل لشعوب المنطقة، وبالتزامن مع النجاحات الداخلية التي حققتها الرؤية قادت المملكة جهودًا جبارة لترسيخ هذه المقاربة إقليميًّا، سواء بتسوية الأزمات كما في اليمن، أو للإسهام في التنمية كما في العراق وغيرها من الدول المجاورة، وكان الاتفاق مع إيران -برعاية صينية- خطوة مهمة في هذا الإطار، فقد أثبتت الإرادة السعودية الحقيقية الرغبة في الخروج بالإقليم من دائرة الحروب والنزاعات بعدما تيقَّنت من أن القوى الغربية لا تكترث بمشكلاته، وتتعاطى معها بما يخدم مصالحها الظرفية فحسب.
تكمن خطورة هذا التناقض الغربي في كونه يُفقد ثقة القوى الحليفة بالقوى الغربية كونه حليفًا أو قطبًا دوليًّا قادرًا على توفير الحماية الأمنية لحلفائه ولممرات الملاحة الدولية، والأخطر أنه يفرض على القوى الحليفة إعادة تقييم سياستها الخارجية تجاه شركائها الدوليين، بل ويدفعها نحو خِيار تعدُّد بدائل الحلفاء والشركاء الدوليين ضمن إستراتيجية جديدة لحماية مصالحها عبر قدراتها الذاتية وبحلفائها الدوليين الجُدُد من قوى تحوَّلت إلى قطبٍ أو بديل دولي يمكن التعويل عليه بعد اختبار أوراق ضغطه وأدوات تأثيره في مجريات الشؤون الإقليمية والدولية ضمن المعركة الكبرى بين الأقطاب العظمى على قيادة الأرض وتراتُبية القوى في النظام الدولي.
وختامًا، لم يعد تغافُل أو عدم أخذ القوى الكبرى في حسبانها مصالح الحلفاء المؤثرين في مجريات الشؤون الإقليمية والدولية، أو اتباعها سياسة غض الطرف عن أدوار الفاعلين من غير الدول، سياسة ناجعة تضمن تحقيق مصالح القوى الكبرى في كل الأحوال، بل أدرك عديد من القوى الإقليمية اللعبة، وتعلَّمت هذه القوى الدرس، وراحت تُجري تقييمات وتعديلات في سياساتها الخارجية بتنويع بدائلها وقائمة شركائها بما يضمن تحقيق مصالحها في المقام الأول، نتيجة فقدانها الثقة بتلك القوى الغربية التي كشف تعاطيها مع التهديدات المتصاعدة في البحر الأحمر عن افتقارها إلى إستراتيجية واضحة في التعامل مع المليشيات المسلحة الموالية لإيران في ساحات النفوذ عمومًا، وفي الساحة اليمنية خصوصًا، وهنا نذكر ما صرَّح به الرئيس بايدن حين قال إن واشنطن «مستعدة لإزالة الحوثيين من قائمة الجماعات الإرهابية مجددًا حال توقفهم عن استهداف الملاحة في البحر الأحمر»، ما يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الغرب يريد بقاء الحوثيين مصدر تهديد دائم لأمن المنطقة، لا لمصالحه أو للمصالح الإسرائيلية.
المصدر: عرب نيوز
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد