تُعَدُّ منطقة غرب البلقان المحورَ الأساسي للمعركة الجيوسياسية؛ من أجل النفوذ بين بروكسل وموسكو. ويبدو أنَّ أقوى دولة في تلك المنطقة هي دولة صِربيا، وعلى الرغم من الجهود الغربية لتقريب صِربيا من الاتحاد الأوروبي وسحبها بعيدًا عن محور الصين وروسيا، إلّا أنَّ هذه السياسة مُقامَرة محفوفة بالمخاطر، وقد يأتي هدف أوروبا المُتمثِّل بدمج صِربيا في الدائرة الأوروبية بنتائج عكسية.
لا تزال صربيا في واقع الأمر الدولة الوحيدة في أوروبا، التي لم تلتزم بالعقوبات الغربية ضدّ روسيا منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية، في فبراير 2022م، ولا يُوجَد إجماع أوروبي بخصوص الاعتراف بكوسوفو كدولة مستقِلَّة. تعترف الولايات المتحدة و22 دولة من أصل 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي بها كدولة، بينما تنظُر إليها صِربيا وروسيا على أنَّها إقليم مُنشَقّ. كما لا تعترف إسبانيا وقبرص وسلوفاكيا ورومانيا واليونان باستقلال كوسوفو، بينما تعترف بها باقي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من جانب واحد، وقد أُعلِن ذلك في عام 2008م. ويُشكِّل هذا الوضع مشكلة داخل حلف الناتو، حيث ينبغي أن يحصل انضمام أيّ عضو جديد على الموافقة بالإجماع، ويُعيق انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي موقف الدول المذكورة أعلاه، باستثناء قبرص، التي ليست عضوًا في «الناتو».
عَزَّزت صِربيا وروسيا علاقاتهما في الأيام الأخيرة، بإبرامهما اتفاقًا يتعلَّق بالصحة وإعلان موسكو عن تسليم نظام مضادّ للطائرات المسيَّرة في يناير 2024م. وقال الرئيس الصِربي ألكسندر فوتشيتش، إنَّ النظام المضادّ للطائرات المسيَّرة «بين يديه»، وأنَّ صِربيا دفعت ثمنه منذ وقت طويل. كما أضاف أنَّ الميزانية الصربية ساعدت في شراء «نظام الدفاع المتطوِّر 701 من الصناعة الوطنية الروسية»، وسيجري شراء أكثر من 850 منظومة في السنوات المقبلة.
لم تكتفِ صربيا برفض الالتزام بالسياسة الخارجية الأوروبية تجاه الجانب الروسي بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية فَحَسْب، بل تُواصل توقيع الاتفاقيات مع روسيا، في الوقت الذي تُطبِّق دول أوروبية أُخرى العقوبات وتسعى إلى الحدِّ من جميع أشكال التعاون معها. أقرَّ الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش كذلك بالدعم الروسي للسلامة الإقليمية لصربيا؛ بسبب موقف موسكو إزاء كوسوفو. يعيش ثُلث ما يقرُب من 120 ألف من صِرْب كوسوفو (التي يبلغ إجمالي عدد سُكّانها 1.8 مليون نسمة) في شمال كوسوفو، وهي منطقة متاخِمة لصِربيا، حيث تقع مدينة بريشتينا، وذلك في ظلّ وجود طموحات لتحقيق السيادة عليها. ويرفُض سُكّان هذه المنطقة، بدعمٍ من بلغراد، أن تدين بكامل الولاء لحكومة كوسوفو.
ولا تريد صِربيا أن تصبح العُملة الأوروبية «اليورو»، العملة الموحَّدة المعتمدة للتعاملات المالية في كوسوفو. وأعلن البنك المركزي لكوسوفو في يناير 2024م، عن دخول الأنظمة، التي تتعلَّق بالتعاملات النقدية، اعتبارًا من 1 فبراير 2024م. ونصَّت هذه الأنظمة، على أنَّ اليورو سيصبح العملةَ الوحيدة المُصرَّح بها للمدفوعات النقدية والإلكترونية في البلاد؛ بسبب تشريعها رسميًا لمكافحة النقود المزيَّفة، وغيرها من أشكال الجرائم المالية. ويُثير هذا القرار مخاوف من اندلاع نزاع جديد مع صِربيا، حيث يُصِرُّ الصِرْب في شمال البلاد على استخدام الدينار الصربي. ودعا الاتحاد الأوروبي كذلك كلا الطرفين، إلى تلافي حدوث أيّ تدهور في الوضع الحالي. وينُصّ دستور كوسوفو على استخدام اليورو فقط في جميع البلاد؛ وبالتالي، تحدِّد الأنظمة شروط التطبيق ببساطة. كما أوضح البنك المركزي أنَّ المعاملات الطوعية بين الأطراف، التي تستخدم عملات أخرى غير اليورو، تقع خارج نطاق الأنظمة.
تظهر جبهة أخرى في البلقان كنتيجةٍ غير مباشرة للحرب الروسية-الأوكرانية، حيث تسعى موسكو لاستغلال التوتُّرات القومية؛ لإبطاء مشروع دول البلقان للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقارنت المتحدِّثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، مؤخَّرًا، بين الاحتجاجات في صربيا، التي ندَّدت بالتزوير المزعوم في انتخابات 17 ديسمبر 2023م، والاحتجاجات في ساحة ميدان كييف في عام 2014م، والتي قادت إلى وصول القادة الموالين للغرب للسُلطة في أوكرانيا. وذهبت 23.66% فقط من الأصوات إلى التحالف الموالي لأوروبا، في الوقت الذي أشارت فيه النتائج الرسمية إلى فوز بنسبة 46.75% للحزب التقدُّمي الصِربي القومي، الذي يتزعَّمه الرئيس فوتشيتش. لطالما اعتقد الأوروبيون أنَّ علاقات صربيا التجارية مع الاتحاد الأوروبي والتنمية الاقتصادية للبلاد، ستتغلَّب في النهاية على الرئيس فوتشيتش، في جانب بحثه عن سياسة متوازِنة بين موسكو وبروكسل. ويبدو أنَّ انضمام صِربيا في المستقبل إلى الاتحاد الأوروبي، أصبح أكثر تعقيدًا؛ لأنَّ روسيا والصين قد استغلَّت الوضع لتعزيز مصالحها.
يجب النظر إلى تزايُد تركيز الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على البلقان، في سياق الحرب الروسية-الأوكرانية منذ عام 2022م. وصَعَّدَ القادة البوسنيون والصِرْب من نبرة خطابهم الساعي إلى الانفصال عن الاتحاد في البوسنة والهرسك، وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، إنَّ «حلفاء الناتو يدعمون بقوَّة سيادة البوسنة والهرسك، وسلامتها الإقليمية». وأشار ستولتنبرغ في معرض حديثه في سراييفو، إلى «أنَّ الخطاب الانفصالي والانقسامي لروسيا والتدخُّل الأجنبي والروسي الخبيث يُثير قلقنا». لقد عمِلَت الحرب الروسية-الأوكرانية كذلك، على إبراز الانقسامات القائمة، ولم تكُن دول غرب البلقان في الواقع موحَّدةً في مواقفها إزاء هذه الحرب، التي لا تزال مستعِرة. لا تُبدي روسيا أيّ اهتمامٍ بتمديد الحرب في أوكرانيا إلى غرب البلقان، إلّا أنَّ موسكو تمتلك مصلحةً في رؤية أزمةٍ إقليميةٍ محدودة، أثناء التحدُّث مع الجهات الدبلوماسية الرئيسية الفاعِلة في المنطقة. ووفقًا لتصوُّر الولايات المتحدة، يُوجَد خطر من أنَّ روسيا يمكن أن تُزعزِع استقرار البوسنة وبقية المنطقة، وتُحوِّل على الأقلّ بعض الاهتمام العالمي عن غزوها لأوكرانيا. كما تدعم موسكو علنًا الرئيس الانفصالي الموالي لروسيا من صِرْب البوسنة ميلوراد دوديك، الذي دعا مرارًا إلى تقسيم البلاد، وضمّ نصف البوسنة، الذي يسيطر عليه الصِرْب، إلى صربيا المجاورة. وعلى الرغم من النفوذ الروسي وخطر التصعيد بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، فالسيناريو الأكثر احتمالًا يتمثَّل باستمرار التوتُّرات الجيوسياسية، والمنافسات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من ناحية، وروسيا والصين من ناحيةٍ أخرى. كما قد يؤدِّي اتّخاذ موقفٍ أوروبي أكثر تشدُّدًا تجاه بلغراد كذلك، إلى تسريعِ التقارب بين صربيا وشركائها الشرقيين، وتحديدًا روسيا والصين.