في الآونة الأخيرة نشطت دبلوماسية الجمهورية الفرنسية ممثلةً في رئيسها إيمانويل ماكرون ووزير خارجيته جان إيف لودريان في محاولةٍ منها لِلَعب دور الوسيط بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وقد شهدت الفترة الماضية محادثاتٍ هاتفيةٍ مطولةٍ بين الرئيسين الإيراني والفرنسي، ومن ثمَّة كلف الرئيس روحاني وزير خارجيته بالطيران إلى باريس بعد انتهاء جولته الإسكندنافية واللقاء بنظيره الفرنسي.
ماهي إلا أيام قليلة حتى تحدثت وسائل الإعلام العالمية عن وصول محمد جواد ظريف إلى مدينة بياريتس الفرنسية للقاء نظيره الفرنسي مجددًا على هامش اجتماع مجموعة السبع التي يحضرها بطبيعة الحال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. يبدو أنَّ هذه الخطوة الفرنسية قد حققت الهدف المنشود رغم تأكيد الجانب الأمريكي على عدم اطلاعه على الدعوة الموجهة لظريف ورد فعل الرئيس الأمريكي عندما تم سؤاله عن ذلك بالقول: «لا تعليق». لكنْ خلال المؤتمر الصحفي بين ماكرون وترامب أكد الأخير على أنه لا يمانع من اللقاء بالرئيس الإيراني مع تأكيده على أنَّ إيران لا تزال الداعم الأول للإرهاب وأنَّ عليها تعديل سلوكها الإقليمي.
في الجانب الإيراني، أثارت رحلة ظريف إلى بياريتس الفرنسية الكثير من الجدل في الأوساط السياسية الإيرانية وأشعلت مجددًا الصراعات بين التيارات السياسية في البلاد، فقد أبرز التيار المقرب من الحكومة تأييدًا للخطوة والزعم بأنَّ حضور ظريف الذي وضعته واشنطن مؤخرًا على قائمة العقوبات قد أظهر أنَّ الرئيس الأمريكي هو الذي يعاني العزلة بحد زعمهم، كما أعلن الرئيس روحاني بأنه لا مانع لديه من لقاء أيِّ مسؤولٍ أجنبيٍّ إذا كان ذلك اللقاء يعود بالنفع على إيران ويخدم مصالحها الوطنية. من جانبه، انتقد التيار الأصولي بشدة زيارة ظريف وتصريحات روحاني واعتبرها استمرارًا لسياسة التودد للغرب والخضوع لأمريكا وبقية الدول الغربية من قبل الحكومة الإيرانية، والتأكيد مجددًا على أنَّ أمريكا لا يمكن الوثوق بها ولا ينبغي التفاوض معها مطلقًا حتى يتم رفع العقوبات الأخيرة، وأهمها: السماح لإيران بتصدير إنتاجها من النِّفط. كذلك حذر 83 برلمانيًا روحاني بشأن التفاوض مع ترامب خلال الجلسة العلنية في البرلمان بتاريخ 27 أغسطس 2019، وجاء في التحذير الذي قدمه البرلمانيون جواد أبطحي، وأحمد آزادي خاه، وأحمد أمير آبادي فراهاني وجميعهم من الأصوليين، بالاتفاق مع 80 برلمانيًا: «ما السبب في اتخاذك لمواقفَ تُخالف مواقف المرشد الأعلى؟ لما أنت في صدد المقابلة والتفاوض مع شخصٍ أنت بنفسك وصفته بالمجنون؟ كما أنَّ المرشد الأعلى أمر بعدم التفاوض بأيِّ شكلٍ من الأشكال مع حكومة أمريكا هذه، والتفاوض معها سمٌّ قاتلٌ» بحسب ما نشرته وكالات الأنباء الإيرانية.
هذه الخطوة الإيرانية وما دار حولها من جدلٍ في الأوساط الإيرانية يعيد للأذهان الجدل ذاته قبل توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة «5+1»، كما أنَّ الرسائل المتبادلة عبر التصريحات بين روحاني وترامب واحتمالية اللقاء بين ترامب وروحاني على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك خلال الأسابيع القادمة تعيد للأذهان الاتصال الهاتفي الذي جرى بين روحاني والرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في سبتمبر 2013. ربما الفارق البسيط بين هاتين المرحلتين هو أنَّ الفريق الذي كان يحيط بأوباما كان داعمًا ومؤيدًا بقوة لفكرة الاتصال بينما الفريق المقرب حاليًا من الرئيس ترامب وبخاصة بومبيو وبولتون يعارضان ذلك. بطبيعة الحال هناك فرقٌ كبيرٌ بين شخصيتي ترامب وأوباما ومنطلقاتهما في السياسة الخارجية الأمريكية بشكلٍ عام، وتعاطيهما مع منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
على الجانب الإيراني، كانت الانتقادات لمفاوضات برنامج إيران النووي مع القوى الكبرى حتى مرحلة التوقيع على الاتفاق لا تختلف كثيرًا عما يُطلقه التيار الأصولي حاليًا من شعارات، إلا أنَّ المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي قد خلق لذلك مخرجًا عبر إطلاق شعار «المرونة البطولية»، بوصفِ التفاوض مع «الشيطان الأكبر» يندرج في هذا الإطار وبهدف تمرير موافقته على الاتفاق النووي والتوقيع مع أمريكا. وإذا كانت الظروف الاقتصادية التي تعيشها إيران حاليًا بسبب العقوبات الأمريكية أكثر قساوةً من تلك التي كانت تعيشها إيران في عام 2013، فإنها لن تكون مفاجأةٌ كبيرةٌ إذا ما أطلق خامنئي شعارًا مماثلًا للتعبير عن موافقته على التفاوض مجددًا مع أمريكا والتواصل بين روحاني وترامب.
وبغض النظر عن تحقق اللقاء بين روحاني وترامب من عدمه، وبغض النظر عن إمكانية الوصول إلى مرحلةٍ جديدةٍ من التفاوض بين واشنطن وطهران فإنَّ دول المنطقة العربية عليها التعلم من دروس الماضي القريب، والسعي إلى أن تكون عضوًا في أيِّ مفاوضاتٍ قادمةٍ للحفاظ على مصالحها وضمان ذلك ولاسيَّما وأنها المتضرر الأكبر من السلوك الإيراني في المنطقة، والضغط بأنْ تشمل أيَّ ترتيباتٍ قادمةٍ وضع البرنامج الصاروخي الإيراني وسلوك طهران العدائي وتهديداتها للملاحة العالمية ضمن بنود أيِّ اتفاقٍ متوقعٍ قادم.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد