على رغم مضي ثلاثة أعوام على عمر حكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني دبلوماسية المحور، إلا أن الأبعاد الاستخباراتية للحرس الثوري ما زالت تهيمن على هذه الدبلوماسية، وهو ما يشير إلى وجود حكومة ظل، وما البيانان غير المسبوقين؛ الأول لقاسم سليماني بصفته قائداً لفيلق القدس، والثاني للحرس الثوري اللذان يظهران فيهما دعمهما لقائد الشيعة في البحرين، ويوجهان فيهما تهديداً سافراً للمنامة؛ إلا مظهراً من مظاهر الوضع المؤسف، الذي تواجهه تلك الدبلوماسية.
وفي الوقت الذي يتجاهل فيه الفريق سليماني في بيانه، قمع الإيرانيين في الداخل، وانتهاك حقوق أبناء بلده الأساسية، يعترض على “حالة الاختناق والتضييق” على الشعب البحريني، كما أن قائد فيلق القدس لم يلقِ بالاً للحقوق الأساسية للشعب الإيراني الذي ثار في أحداث عام 2009م، ولا للدموية والقسوة اللتين قوبلت بهما اعتراضات ملايين المدنيين آنذاك، بل إنه أيّد خامنئي في الأشهر الـ 65 الماضية، التي مرّت على فرض الإقامة الجبرية على مرشحي انتخابات رئاسة الجمهورية آنذاك، موسوي وكرّوبي، لكنه الآن يبدو قلقاً إزاء الحقوق الأساسية لمعارضي الحكومة في البحرين، بل إنه دافع كذلك عن “المقاومة المسلّحة” للمعارضين، وتحدّث عن “اشتعال النيران”.
في المقابل، أصدر الحرس الثوري بياناً مشابهاً في مضمونه وحدّته، تحدث فيه عن “اشتعال مشعل الثورة” وعن “ثورة مدمّرة” في البحرين، ولم يكتفِ بمهاجمة السعودية بعنف، بل ووعد بانهيار نظامها قريباً على يد الشعب البحريني وعزيمته الثورية.
الجدير بالتأمل أن بيان الحرس الثوري اعتبر إسقاط الجنسية عن عيسى قاسم “أمراً مخالفاً لأصول وقيَم الدين الإسلامي المبين والأعراف الدولية”، هذا بينما كان بعض قادته، ومنهم محمد رضا نقدي قائد قوات التعبئة (الباسيج)، طالبوا علناً في السنوات القليلة السابقة بإسقاط الجنسية عن قادة “الحركة الخضراء” في إيران.
» “استخباراتية” الحرس الثوري وسياسة العنف
لم ولا تتوانى الحالة الاستخباراتية المسيطرة على الحرس الثوري عن اعتمادها على العنف والقمع، من أجل الإبقاء على حياة النظام المستبدّ القائم على ولاية الفقيه المطلقة، فسواء كانت “الحركة الخضراء” والاحتجاج المدني للإيرانيين على نتائج انتخابات عام 2009م، أو مساندة نظام الأسد المستبد، أو استعمال العنف من أجل تحقيق العمق الاستراتيجي المرجوّ لخامنئي، فإن موقف الحرس الثوري في جميع الحالات واحد.
وبينما تسعى حكومة روحاني، في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي، إلى إنهاء العقوبات، وما نتج عنها من خسائر فادحة، من خلال إزالة حالة التوتر وجلب ثقة الغربيين، وزيادة الاستثمارات الأجنبية، وإنهاء الموضع المتأزّم للاقتصاد، إلا أنّ “حكومة الظل” تلقي بظلالها مرة أخرى على المشهد، وتستعرض قدراتها أمام الداخل الإيراني ودول المنطقة والقوى العالمية.
قبل بضعة شهور، قام الحرس الثوري، في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي، وبعد أقل من أسبوعين من انتخابات مجلسي الشورى والخبراء، بإجراء مناورات صاروخية، واستعرض أمام منافسيه في المنطقة، والحكومات الغربية صواريخه التي يبلغ مداها 2000 كيلومتر، فضلاً عن تدخّله العسكري – الاستخباراتي المباشر في الأزمة السورية جنباً إلى جنب مع نظام الأسد.
ويمثل “حسين همداني” مظهراً من مظاهر سياسة الحرس الثوري هذه، فهو قائد رفيع الدرجة، توجه إلى سوريا، بعد قمعه الوحشي للمعارضين المدنيين والحركة الخضراء في إيران، وقُتل هناك في سبيل الإبقاء على نظام الأسد، وتحقيق العمق الاستراتيجي المرجو لخامنئي، لذا يعد همداني مثالاً لا يحتاج إلى شرح على النظرة الاستخباراتية المهيمنة على الحرس الثوري في ما يخص السياسة الداخلية والدبلوماسية.
» دبلوماسية الصواريخ والرصاص
في حين لا يمكن إنكار دور القوة العسكرية المؤثر في مناسبات استعراض القوى العالمي، لكن منذ مدة طغت أهمية الحدود الاقتصادية والثقافية على أهمية الحدود الإقليمية، وساهمت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تسريع ذلك من خلال وجودها المؤثر والمفيد بين الرأي العام. كما وقعت ساحة السياسة الدولية وعالم الدبلوماسية أيضاً تحت تأثير الأدوات الثقافية والإعلامية، والقدرة على إقناع الرأي العام والتي تعتمد على شبكات الإعلام العالمي، بحيث أصبح الاعتماد على القوة الصلبة والقوة العسكرية والاستخباراتية تحت تأثير قدرة القوة الناعمة والقوة الثقافية والأسلوبية.
ومن هذا المنطلق، بات الاستمرار في دبلوماسية الصواريخ والرصاص والعسكر، دون الاهتمام بالرأي العام، سواء على المستوى الوطني أو ما وراء الحدود، أمراً مرفوضاً وأصعب أكثر من ذي قبل.
وفي زمن ما، بينما كان الدبلوماسيون شخصيات لها سوابق عسكرية، أو ينفذون حرفياً قرارات الحكام الظالمة، إلا أنهم أصبحوا منذ مدة ينتهجون توجهات تركز على عملية رسم السياسات، وبينما كانت القرارات، في زمن ما، تُتخذ في “أقبية” الحكومة بالتشاور مع العسكر، إلا أن هؤلاء الدبلوماسيون أصبحوا منذ مدة على ارتباط مباشر مع المحققين المتخصصين والخبراء الأكاديميين، وأصبحوا يتخذون القرارات، وينتهجون الأساليب بناء على ذلك، فضلاً عن أنّهم أصبحوا من بين النخبة من أصحاب التجربة، الذين حتى لا يظهرون ابتسامة أو يستخدمون كلمة إلا عن حكمة وبُعد نظر.
إنّ بُعد الفريق سليماني والأجهزة الأمنية المسيطرة على الحرس الثوري عن هذا الوصف والخصائص المذكورة، ذو مغزى ومحسوس بشكل كاف، فهؤلاء القادة المخلصون لولاية الفقيه لا يركضون خلف مغامراتهم ومشاريعهم السياسية – الأمنية في إيران والمنطقة فحسب، بل إنهم يهيمون في سماء السياسة والدبلوماسية، منطلقين من أيديولوجيتهم الخاصة، فهم يبررون الإنفاق المادي والبشري في سوريا من منطلق الإبقاء على “جبهة الممانعة” و”جبهة المقاومة” و”العمق الاستراتيجي” للنظام، ولا يولون اهتماماً لمنافستهم للسعودية في المنطقة المكلفة للغاية، ففي السابق اتخذوا من إعدام نمر النمر حجة لتعميق الخلاف مع الرياض، واليوم يتخذون من إسقاط الجنسية عن عيسى قاسم ذريعة لمغامرتهم في البحرين.
» الوضاعة الدبلوماسية في “الجمهورية الإسلامية”
إن التنسيق والتناغم بين الأجزاء المؤثرة واللاعبين الأساسيين في السياسة الخارجية، والاتحاد في اتخاذ القرارات، من خصائص الدبلوماسية وواجباتها العامة، لكن المنظومة الاستخباراتية المسيطرة على الحرس الثوري تتبع في هذا المجال استراتيجيتها وطريقها الذي تراه مناسباً، ضاربة بهذه الخصائص عرض الحائط.
الجدير بالاهتمام أنّ بيان سليماني قائد فيلق القدس تمت كتابته ونشره دون التنسيق مع خامنئي.
وإن نظرنا إلى الأمر من زاوية الخصائص المذكورة، ستتضح حينها، أكثر من ذي قبل، حالة التشرذم والتشتت الدبلوماسي التي تعاني منها “الجمهورية الإسلامية”، حيث يتصارع فيها اتجاهان مختلفان، وفي حالات خاصة، مثل ضرورة أن يتم الاتفاق النووي بالنظر إلى الوضع الاقتصادي المتأزم للدولة، يصبح الاتحاد أمراً إجبارياً لا مفرّ منه.
بلا شك، إن مساعي ظريف والجهاز الدبلوماسي لروحاني، من أجل كسب ثقة الأطراف الغربية، وتحسين العلاقات، وتقوية المبادلات التجارية – الاقتصادية مهددة بالتضرّر جراء الإجراءات الأمنية الغريبة للحرس الثوري وفيلق القدس وجراء التوجهات الأيديولوجية والنظرة المتشائمة لرأس هرم النظام السياسي تجاه الغرب، بحيث أُجبر ظريف خلال زيارته الأخيرة لفرنسا على توضيح المقصود من البيان الأخير للحرس الثوري، ومن المستبعد أن يُقنع جواب ظريف المستثمرين والسياسيين الغربيين حين قال: “إيران ليست مجتمعاً أحادي الرأي”.
إن وزير خارجية الحكومة المعتدلة هو في نهاية الأمر منفّذ للسياسات الكبرى للجمهورية “الإسلامية” في المناسبات الدولية، والمحاور المحددة له من قبل رأس هرم النظام للتعامل مع الدول الأخرى، لكن الفرق بين نظرة وتوجه وأسلوب حوار وتخصصية وتجربة ظريف وغيره من اللاعبين السياسيين الواقعيين الذين يفكرون بالمصلحة مثل روحاني من جهة، وقادة الحرس الثوري المغامرين من جهة أخرى ليس بقليل ، القادة الذين لم يسهموا في تآكل السياسة والاقتصاد الداخلي لإيران وحسب، بل إن إجراءاتهم المثيرة للجدل وغير المسؤولة أدت إلى الانحطاط بمستوى الدبلوماسية، وتعريضها للخطر الدائم، الأمر الذي لم يجلب للإيرانيين سوى استمرار التحديات الباهظة الثمن، والنزاعات الخطيرة المنهكة.
المصدر: راديو فردا