عُقِد مؤخرًا في عاصمة أوروبية مؤتمرٌ مغلق حول تطورات المشهد في الشرق الأوسط وسبل التعاطي معها، حضره شخصيات رفيعة من عدة دول من بينها إيران، وكانت الحوارات خلال الجلسات وفي الاستراحة التي تفصل بينها تدور حول تطور التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران ومآلاتها والخيارات المتاحة وأيضًا انعكاسات ذلك على المنطقة.
الشخصيات الحاضرة من الجانب الإيراني مقربة من الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، معظمهم في مناصب رفيعة في البلاد حاليًا أو سابقًا. تشتدُّ نبرة النقاشات وتنخفض، ثم يبرز من يحاول التهدئة عند الوصول إلى مرحلةٍ متقدمةٍ من الجدل وتبادل الاتهامات أو محاولة إثبات وجهة النظر هذه أو تفنيد الحجة تلك.
لن أخوض كثيرًا في تفاصيل ذلك المؤتمر وجلساته التي استمرت ليوم ونصف، لكنني خرجت على المستوى الشخصي بعدة خلاصات ونتائج في الشأن الإيراني أعتقد أنها مهمة، ألخصها في النقاط التالية:
أولًا: يشعر التيار الإيراني الموسوم بـ «الإصلاحي / المعتدل» بقلق كبير على مستقبله في إيران وهناك من قالها صراحة بأننا سنواجه صعوبات كبيرة جدًا في المستقبل المنظور بسبب تصاعد سيطرة التيار «الأصولي/ المتشدد» على مفاصل الدولة والبرلمان وقريبًا ربما الحكومة بأكملها. ويعتقد أن مصير روحاني وظريف سيكون مشابهًا لوضع الرئيس الأسبق محمد خاتمي، وربما مصير آية الله هاشمي رفسنجاني الذي مات في ظروف غامضة وأصابع الاتهام تُشير إلى التيار الآخر.
ثانيًا: أنَّ الحكومة الإيرانية الراهنة تعتقد يقينًا بأن الخروج من الأزمة التي تعيشها إيران مرهون بتحسين العلاقات مع دول الخليج العربي وبخاصة السعودية، وأن الحوار بين الرياض وطهران هو الطريق الأقصر والأكثر نجاعة وتأثيرًا للجانب الإيراني وأن السعودية تستطيع إنقاذ التيار الإصلاحي/ المعتدل في إيران من جانب، وتخفيف الضغوط الأمريكية من جانب آخر. بالطبع الموقف السعودي واضحٌ وجليٌّ في هذا الصدد والمطالب السعودية من الجانب الإيراني واضحة إذا ما أرادت بالفعل طهران تحسين علاقتها مع الرياض.
ثالثًا: أنَّ أتباع «التيار الإصلاحي/ المعتدل» ليسوا بالفعل مختلفين عن أساس الثورة وثوابتها كما يحاولون تقديم أنفسهم للغرب دائمًا وأنه عند مواجهتهم بالحقائق يتعرضون لحرجٍ ولعدم وجود إجابةٍ مقنعة أو تبريرٍ مقبول ويتحولون سريعًا إلى الصورة النمطية للنظام الثوري الإيراني والتيار الأصولي وكانت كثيرًا من زلات الألسن خلال بعض الجلسات قد وضعت بعضهم في مواقف محرجة ولاحظ الجميع تمعر وجوه الإيرانيين الآخرين بسبب إطلاق زميلهم لبعض العبارات المتشددة عند الغضب؛ وهذا يثبت الاعتقاد السائد لدى شعوب دول المنطقة بأن الصراعات الداخلية بين أجنحة الحكم في إيران لا تؤثر كثيرًا على السياسة الخارجية للبلاد.
رابعًا: أنَّ الحكومة الإيرانية التي يرأسها روحاني لا تزال بعيدة عن تفاصيل اتخاذ القرارات الإستراتيجية والمصيرية في البلاد حتى في ظل أصعب الظروف كالتي تعيشها إيران حاليًا، وأن مسؤولي وزارة الخارجية الإيرانية لا تصلهم الكثير من التفاصيل المرتبطة بتطورات علاقات إيران والعالم ولا سيَّما تفاصيل الوساطات التي حاولت تقريب وجهات النظر بين إيران والمنطقة والعالم. وأن وزارة خارجية الظل، التي يمثلها وزير الخارجية السابق علي أكبر ولايتي، المرتبطة مباشرة بالمرشد الأعلى علي خامنئي هي الأكثر اطلاعًا والأقرب لصناعة القرار من وزارة الخارجية التي يتسنمها ظريف.
خامسًا: أنَّ إشكالية النظرة الاستعلائية الإيرانية تجاه دول الجوار بشكل عام لا تزال تمثل معضلة حقيقية لإيران قبل غيرها، وأنَّ الشخصية السياسية في إيران تبدو غير قادرة على التخلص من الإرث التاريخي الإمبريالي الذي ظلت تحمله ويسيطر في كثير من الأحيان على الوعي واللاوعي الإيراني رغم استحالة تحققه في العالم الحديث ومفاهيم الدولة الوطنية القُطرية، وأيضًا عدم امتلاك إيران الراهنة لمقومات الدولة الرائدة أو تقديم النموذج الجذاب داخليًا وخارجيًا.
سادسًا وأخيرًا: أنَّ فريق إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أو المحسوبين عليه لا يزالون على تواصل كبير مع الحكومة الإيرانية وأن بعض المسؤولين السابقين في تلك الإدارة يلعبون دور قوى الضغط (lobbyists) ربما وبشكل تطوعي أيضًا لإقناع الحكومات والشركات الأوروبية بعدم التوقف عن التعامل مع إيران اقتصاديًا وتجاريًا وسياسيًا. في المقابل لم يستطع المشاركون الإيرانيون إخفاء افتقادهم لإدارة أوباما وحنينهم لتعاطيها الناعم مع طهران لعدة سنوات جعلت إيران تتمدد في المنطقة وتنشط ميليشياتها وخلاياها النائمة.
ختامًا: لا يزال الطريق طويلًا ووعرًا أمام النظام الإيراني لكسب ثقة دول المنطقة وإثبات حسن النوايا والعمل على تغيير سلوكه العدائي تجاه دول المنطقة والعالم. الأمر يحتاج من الجانب الإيراني إلى التفكير بشكل مختلف تمامًا، من خلال العمل على الأرض لكسب الثقة وبالتالي البدء في إقناع الآخرين بأن الأمر ليس خطة تكتيكية بل تغيرًا إستراتيجيًا وإن كان تدريجيًا. دول الخليج دائمًا جاهزة ومستعدة لتحسين العلاقات مع كل جيرانها ولكن التجارب السابقة مع إيران ما بعد الثورة تؤكد أنَّ الأمر يحتاج إلى التشكيك في كل النوايا وعدم تصديقها وأنها مخادعة حتى يثبت العكس، وهذا وإن كان في الغالب الأعم مربكًا في عالم العلاقات الدولية وبناء السياسات إلا أنه قد يكون منطقيًا عند الحديث عن الحالة الإيرانية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد