الخليج يعيد تشكيل الشرق الأوسط بعيدًا عن إيران وإسرائيل

https://rasanah-iiis.org/?p=37639

لم يكن اختيار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمملكة العربية السعودية كمحطته الأولى للإطلالة على العالم في أول زيارة خارجية بعد توليه مقاليد الرئاسة، بالأمر العادي، أو تخطيط غير مدبَّر، بل أتى ذلك وفقًا لارتقاء مكانة المملكة ودول الخليج في الميزان الدولي سياسيًا واقتصاديًا، وإدراك واشنطن لأهمية المملكة في دعم التطلعات الأمريكية في الحفاظ على مكانتها العالمية في وقت حرج تواجه فيه تحديات كبرى.

ليس هذا فحسب، بل تدرك واشنطن أن المملكة أصبحت الرافعة الأساسية لعودة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وأن أي مشروعٍ جديد في المنطقة لن يمر دون توافقه مع رؤيتها، التي صاغها ذات يوم الأمير محمد بن سلمان عندما أعلن عن نواياه بجعل منطقة الشرق الأوسط مكانًا أفضل، بل بشَّر بأوروبا الجديدة. ورؤية الأمير كانت تركن إلى إدراك الإمكانات الكبيرة لدول المنطقة، وتبنِّي سياسة واقعية وتشاركية مع الآخر. وقد تعززت هذه الرؤية بعدما استطاعت المملكة ودول الخليج تعزيز مكانتهم العالمية كقوى صاعدة مؤثرة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتحديث، وممرات النقل والمعادن النادرة، وسياسة إقليمية فاعلة، ودور وسيط فاعل بين القوى الكبرى، وهي القضايا الأساسية التي تتشكل منها التفاعلات الدولية الراهنة.

إنَّ زيارة ترامب تثبت أن رؤية المملكة الإقليمية هي الأكثر واقعية، وذلك بخلاف مشروعات أيديولوجية، تبنتها كلٌّ من إسرائيل وإيران، وجعلت المنطقة على مدار عقودٍ مركزًا للفوضى وعدم الاستقرار العالمي، وضاعت في سياق ذلك فرصة هائلة للتعاون والتنمية الإقليمية. فمن جانبها، أتت إسرائيل إلى المنطقة ككيانٍ مفتعل لديه مشروع استيطاني وتطلعٍ للهيمنة الإقليمية تحت ستارٍ ديني ورؤية «توراتية» وعقدة وجودية. وخاضت في سياق ذلك حروبًا متعددة مع جيرانها، وتجاهر بإبادة شعبٍ بأكمله وتهجيره من أرضه وتصفية قضيته. بل تُهدِّد بتوسيع حدودها وتغيير المشهد في الشرق الأوسط ككل، عبر العودة لسياسة الاحتلال، فاقتطعت مزيدًا من الأراضي السورية وترفض الانسحاب من لبنان، ويتطلع قادتها إلى مزيدٍ من الاستيلاء على الأراضي العربية، وينذر ذلك بأزمة وفوضى إقليمية غير مسبوقة، وذلك في خروجٍ كامل عن الشرعية والقواعد والقوانين الدولية.

كما تبنت إيران مشروعًا أيديولوجيًا للتغيير في الشرق الأوسط، وجرّت المنطقة إلى الفوضى والاضطرابات، بعدما ضربت الدولة الوطنية في العمق، عندما دعمت الجماعات ما دون الدولة وعمقت أزمة الاندماج الوطني عبر إثارة النزعة المذهبية. وكان هذا إيذانًا بتحلل النظام الإقليمي، بل هشاشة الدولة وفشلها في العديد من البلدان، كما جرى في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وتكبدت دول المنطقة كلفةً مادية ومعنوية دون عائد أو تبرير منطقي من راعية هذا المشروع وداعمته. وفي الأخير ثبت أنه مشروعٌ غير واقعي وانهار أمام أول مواجهة.

 لكن بينما كانت القوتان الإقليميتان لديهما نزعة عدوانية واضحة لتحريك الحدود أو تفكيكها بما يخدم مصالحهما، وما ترتب عليه ذلك من صراع وصدام وصلت ذروته بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023م، وبينما كانت تتداعى مكانة قوى إقليمية تاريخية كانت وازنة في المنطقة؛ كانت هناك قوى أخرى تسعى لتدشين مشروعٍ واعد وتسخِّر إمكانياتها لإعادة التموضع الإقليمي والدولي. وتبشر بمستقبلٍ يعيد قرار المنطقة لأيدي أبنائها، ألا وهي دول الخليج وتحديدًا المملكة. هذه القوى نجحت في أن تعيد ترتيب أولوياتها داخليًا، وفي سياق ذلك وضعت خططًا طموحة من أجل بناء شرعية راسخة قائمة على التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعلى أسسٍ من الرشادة والحوكمة والعلم.

وبالتوازي مع ذلك، سرَّعت المملكة ودول الخليج نهجها الخارجي بصورةٍ واقعية عبر المبادرة وتنويع الشراكات والاستقلالية والجمع بين أدوات القوة الصلبة والناعمة، وتسخير علاقات الخارج لخدمة الداخل. وفي سياق ذلك نجحت في تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية ومواجهة التهديدات الخارجية ذاتيًا، وقادها ذلك إلى أن تطرح مشروعها البديل أو الطريق الثالث من أجل الشرق الأوسط الجديد الذي تحدث عنه الأمير محمد بن سلمان قبل عدة سنوات، وهو المشروع القائم على تحفيز السلام والتعاون الإقليمي بدلًا عن الفوضى والصراع.

 في سياق هذه الرؤية، حاولت بعض دول الخليج التأثير على إسرائيل وإيران وجذبهما لهذا المسار بدلًا عن مسار الفوضى وشن الحروب، وذلك بالانضمام للاتفاقيات الإبراهيمية على أمل أن يسهم هذا المسار في تسوية الصراع التاريخي العربي- الإسرائيلي، ودمج إسرائيل. لكن حتى السابع من أكتوبر 2023م، ثبت أن إسرائيل تناور وتستغل روح التسامح الخليجية من أجل تصفية القضية المركزية وهي القضية الفلسطينية. وبعد هذا التاريخ تأكدت نوايا إسرائيل التعديلية في الإقليم ككل، وأنها لا ترغب بالسلام الإقليمي بقدر ما ترغب في متابعة أوهامها «التوراتية»، واستغلال الظرف الحرج لفرض مزيدٍ من التوسع والاستيطان والتهجير، وزيادة الفرقة بين دول المنطقة وإضعاف قرارها. وقد استطاعت إلى حدٍ كبير التأثير على القرار الأمريكي وحرفه عن خانة الحياد، أو الطرف الوسيط مما زاد من سطوتها وتماديها في تنفيذ خطواتها الرامية لإبقاء المنطقة في حالةٍ من الضعف والتصعيد.

وفي إطار النهج السعودي لتفكيك حالة الاشتباك في المنطقة، فتحت الباب أمام إيران عبر اتفاق بكين من أجل جرها من خندق المواجهة إلى طاولة التفاوض والدبلوماسية. وقد نجحت هذه المبادرة في بعض جوانبها، وفتحت لإيران فرصةً تاريخيةً من أجل إعادة تشكيل علاقاتها الإقليمية، وإنهاء حالة العزلة التي ترتبت على دخولها في عداءٍ ومواجهة مباشرة مع دول الخليج. وقد أربكت هذه الخطوة كثيرًا من الحسابات التي عولت على نزاعٍ أبدي مع إيران، يُبقي المنطقة في حالة التصادم الدائم.

وعندما عاد ترامب إلى البيت الأبيض، وفي محاولة لإعادة تعريف العلاقات الأمريكية بالمنطقة، فإنَّ جهوده الدبلوماسية من أجل وقف حرب غزة قد فشلت أمام إصرار اليمين الإسرائيلي «المتطرف» على القوة كأداة لا بديل عنها من أجل تحقيق أهداف إسرائيل الكبرى. ومن جهةٍ أخرى، لا تزال جهوده تجاه إيران من أجل تفكيك العداء التاريخي تحت الاختبار، حيث تجرى المفاوضات بشأن الملف النووي وقضايا أخرى بوساطة عمانية، إذ على ما يبدو أن الإملاءات الدينية المحرِّكة لمشروعي البلدين لا يزالان هما ما يقودان سياساتهما الإقليمية ولا يزالان متمسكان بمشروع الشرق الأوسط الخاص بهما.

وقد استطاعت السعودية الرامية إلى مستقبلٍ أفضل، يحقق الاستقرار والسلام انتهاز لحظة الحاجة الأمريكية إلى إعادة تقديم نفسها كقوةٍ مسيطرة لتُثبت أن دورها لم يتزعزع. وبالتالي، رأت المملكة في ذلك فرصةً للتعامل مع الشريك الأقوى والأكثر تأثيرًا، فعندما ألمح الرئيس الأمريكي إلى أنه سيزور المملكة في حال استثمرت بمبلغ 600 مليار دولار، كان رد ولي العهد سريعًا وحاسمًا، بأن المملكة لديها الاستعداد لأكثر من ذلك في حال كانت الولايات المتحدة مستعدة.

وقد كان اختيار ترامب السعودية وبعض دول الخليج كوجهاتٍ وحيدة في إطار زيارته للمنطقة، منطقيًا، فخُطط الرجل تحتاج وسيطًا فاعلًا في الأزمات والصراعات وشريكًا عالميًا في الثورة التكنولوجية الذكية، والمعادن النادرة وطرق النقل الدولية التي تعيد تشكيل النظام العالمي في مقبل السنوات. والسعودية ودول الخليج نجحت من خلال رؤية شاملة أن تتموضع كفاعلٍ مؤثِّر في هذه المجالات كافة. ومن ثم كانت هذه الزيارة التي استحوذت على اهتمام العالم وسُمع صداها في العديد من العواصم المؤثرة، إيذانًا واعترافًا بقوةٍ صاعدة ومؤثرة في الصراع الجيوسياسي العالمي، وفاعلٍ تسعى الأقطاب الدولية لكسب صداقتها، وقوةٍ مؤثرة على قرار القوى العالمية العظمى وتوجيه سياساتها، والأهم قوة إقليمية لا غنى عنها.

وبالطبع كانت إيران وإسرائيل هما الغائبتان الحاضرتان في هذه الزيارة. بل كانت إيران مدعوةً لإجراء مراجعة ذاتية لمشروعها، وإعادة توجيه بوصلة سياساتها، كما فعل جيرانها من دول الخليج، وذلك حتى تتبوأ المكانة الإقليمية التي تستحقها. وأن تكون شريكًا في الشرق الأوسط الذي يتشكل، وداعمًا لمسار الأمن والسلام الإقليمي، وألَّا تفوِّت الفرصة التي منحها لها «اتفاق بكين»، وألَّا تصر على رؤية المنطقة من منظور الأيديولوجيا والمصالح الضيقة، وتظل تتمسك بمشروعٍ إقليمي ثبتت عدم فاعليته، وبطموحٍ نووي لا طائل من ورائه. والأهم الاستفادة من وجود رئيسٍ أمريكي لديه قدرات فائقة على تجاوز المؤسسة والعوائق البيروقراطية، ومن استعدادٍ خليجي وسعودي تحديدًا، لمساعدة إيران في تجاوز أزمتها مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والمنطقة.

وكانت إسرائيل هي الأخرى مدعوةً من أجل التخلي عن حالة الجنون الراهن الذي يسيطر على قياداتها «اليمينية المتطرفة»، واستغلال الفرصة التاريخية التي سنحت من أجل تسويةٍ شاملة، وعلاقاتٍ إقليمية طبيعية مع دول المنطقة. لكن إسرائيل لا تزال تصرُّ على نهجها وإبادتها، وبالتالي كانت مهمشةً، بعدما رفض ترامب ضغوطًا من أجل أن تشمل زيارته للمنطقة، إسرائيل. بل كانت خاسرةً عندما أهمل ترامب مسار توسيع «اتفاقيات إبراهام»، والتراجع عن الضغط من أجل توسيع الاتفاقية لتشمل السعودية، بعدما كان البلدان قاب قوسين أو أدني من توقيع اتفاقٍ تاريخي لتطبيع العلاقات قبل السابع من أكتوبر.

 نجاح المملكة في إقناع الرئيس الأمريكي بضرورة رفع العقوبات عن سوريا، هو دليلٌ كامل الوضوح على بداية انطلاق مشروع الشرق الأوسط التنموي كما يراه الأمير محمد بن سلمان، فقد حقق بالسياسة ما لم تحققه العسكرة والفوضى. وهذا المشروع له امتداداته للنهوض بالتنمية في المنطقة كشرقٍ أوسطٍ جديد.

 أخيرًا، يمكن القول إنَّ دول الخليج لا تعيد تشكيل المشهد الإقليمي وحسب، بل والعالمي كذلك، وذلك من خلال الشراكات العالمية المتنوعة كالتعاون التكنولوجي المتقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، والتعاون في مجال المعادن النادرة، والشراكة في الممرات التجارية الدولية، والتعاون العسكري،  والتوسط لحل الأزمات والحروب، وتنسيق مواقف سياسية أكثر سلمية. وهذه المسارات ستحدد القوى الدولية والإقليمية الأكثر فاعلية في المستقبل، وسيرتسم معها هيكل القوة الإقليمي، وطبيعة النظام الدولي، وتدفقات مصالحه وعلاقاته. ولا شك أن هذا الجهد هو خطوةٌ على مسارٍ بدأته السعودية والخليج من أجل شرقٍ أوسطٍ جديد قائم على تحفيز السلام والتعاون، وذلك بدلًا عن مشروعي إيران وإسرائيل اللذين لا يزالان يعيشان في أوهامهما بشأن الهيمنة الإقليمية وإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق رؤاهما الضيقة والأنانية.

د. محمود حمدي أبو القاسم
د. محمود حمدي أبو القاسم
مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية