الديمقراطية الغربية ليست الخيار الوحيد لتحقيق الحكم الرشيد

https://rasanah-iiis.org/?p=32227

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

تعرِّف المفوضية السامية لحقوق الإنسان والحكم الرشيد، الحُكم بأنه «كل عمليات الحكم والمؤسسات والعمليات والممارسات التي تُتخذ من خلالها القرارات بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك وتنظيمها».

وقد حدد مجلس حقوق الإنسان الخصائص التالية للحكم الرشيد، وهي: الشفافية والمسؤولية والمساءلة والمشاركة والاستجابة لاحتياجات الناس، فيما السؤال الذي نطرحه هو: هل يمكن التوصل إلى الحكم الرشيد من خلال النظام السياسي الديمقراطي الغربي، أم توجد أنظمة سياسية أخرى تميز النظام الديمقراطي يمكن أن توصلنا إليه كالنموذج الإسلامي أو الصيني أو الروسي؟

في الحقيقة زادت في الآونة الأخيرة أصوات النقد تجاه الديمقراطية الغربية باعتبارها نظامًا يمر بأزمة داخلية ويتراجع فيها كثير من القيم التي بُنيت عليها، وظهر عديد من الكتب والطروحات التي تنتقد الديمقراطية بوجهها الغربي، التي ينذر بأفولها الاحتيال عليها كنموذج مُعولَم يمكن الاقتداء به وتقليده من باقي دول العالم غير الغربية.

شاهدنا في العقود الأخيرة نُظُمًا سياسية دولية استطاعت أن تحقق من المؤشرات التنموية الإنسانية ما لم تحقق الدول ذات النُّظُم الديمقراطية، واستطاعت إدارة مجتمعاتها نحو الأمن والرفاه بكل جدارة، واستثمرت في الموارد البشرية والمعرفية للدولة بكفاءة عالية وبقدر كبير من الشفافية والنزاهة والفعالية لمحاربة الفساد وتفعيل القانون ومبدأ الرقابة والمحاسبة والمساءلة.

ومن ذلك عدة دول، ليست دولًا يمكن تصنيفها بأنها تتبع النموذج الديمقراطي الغربي، قفزت في المؤشرات الدولية إلى مراتب عالية تتجاوز الدول الغربية، كمؤشر الحكومة الإلكترونية ومؤشرات السعادة والأمن واستدامة الأعمال.

وعليه، يمكن القول بوضوح إن بعض الثقافات والحضارات تتبنَّى مفاهيم مختلفة قد تتعارض في بعض الأحيان مع ثقافات ومفاهيم شعوب أخرى، وقد تتقاطع معها أو تشاركها بشكل جزئي فقط، وفق الإرث والحضارة والظروف التاريخية التي مرت بها هذه المنطقة وشعوبها.

أردت لهذه المقدمة أن تكون مدخلًا للموضوع الأساسي في هذا المقال، وهو مفهوم الديمقراطية الغربي ومعناه ومنطلقاته وحدوده وتأثير الثقافة الغربية، التي انطلق منها هذا المفهوم، في الحكم على معناه وثوابته.

لقد بُني هذا النموذج على مفاهيم خاصة بالحضارة الغربية دون غيرها، وفي القرنين الأخيرين، بحكم الهيمنة الغربية وثقافة المنتصر على الحضارة العالمية بشكل أو آخر، فقد صارت المفاهيم المطبَّقة في الدول الغربية المعيار الأساسي في النظرة إلى الدول الأخرى وتقييمها، وبالتالي طبيعة العَلاقة معها في كثير من الأحيان، مع بعض الاستثناءات التي تتجاوز فيها الدول الغربية ثوابتها هذه من أجل تحقيق مصالح معينة.

وقبل أن نتعمق أكثر في المقال دعونا نتساءل عن الهدف الأسمى لتحقق النموذج الديمقراطي في إدارة البلاد: هل هو شيء يتجاوز تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص وتحقق الرفاه والرخاء للمجتمعات وتسهيل سُبُل العيش الكريم والعدالة الاجتماعية والحرية المنضبطة وحفظ حقوق الأفراد والتنمية المستدامة والاستثمار في رأس المال البشري؟

إذا كانت هذه هي غايات الديمقراطية، فهل يمكن الوصول إلى تحقيقها عبر نماذج حكم مختلفة تنطلق من الإرث الحضاري للشعوب والقيم والمفاهيم، وكذلك طبيعة العَلاقات الاجتماعية المتعارَف عليها بين هذه الشعوب؟

بعبارة أخرى، هل نموذج الديمقراطية الغربية هو الطريق الوحيد لتحقيق الغايات النهائية للديمقراطية؟ ألا يمكن تسمية هذه الغايات النبيلة في إدارة شؤون الدولة بـالحُكم الرشيد good governance وبالتالي تختار كل أمَّة الطريقة المناسبة لها للوصول إلى ذلك دون نظرة استعلائية أو دونية من أمَّة تجاه أخرى؟

إن تطبيق الديمقراطية الغربية خارج البيئة الأم ليس بالضرورة محققًا للغاية العليا لمفهوم الديمقراطية، التي تحدثنا عنها أعلاه، إذ توجد نماذج كثيرة في دول «العالم الثالث» طبَّقت النموذج الديمقراطي الغربي نظريًّا في اختيار نمط الحكم، لكنها لم تحقق الغايات، بل قاد ذلك النموذج في الحكم إلى الفساد والمحسوبية وإقصاء بعض مكونات المجتمع من ذوي الخبرات والقدرات العالية، لأن الاختيار انطلاقًا كان متأثرًا حتى النخاع بالثقافة المحلية، سواء التوجهات الفئوية أو المناطقية أو المذهبية والدينية أو القلبية والمجتمعية، وبالتالي حتى وإنْ كان النموذج ديمقراطيًّا في الشكل فإن المخرجات في المضمون كارثية ويمكن أن نقدم عديدًا من النماذج في دول آسيوية وإفريقية، بل وحتى في أمريكا اللاتينية المحسوبة على الغرب.

لهذا كله فإن قياس تقدُّم الدول وعدالتها من خلال عدسة الديمقراطية الغربية قياس خاطئ تمامًا، بل إن كثيرًا من الدول، التي ينظر إليها العالم الغربي على أنها دول «رجعية» أو «غير متقدمة حضاريًّا»، وفق المفهوم الغربي، قد تجاوزت كثيرًا من الدول الغربية في بعض العناصر كالاهتمام بالمواطن والمقيم وتقديم الخدمات ومحاربة الفساد والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وغير ذلك، ولعل ما عاشه العالم خلال فترة جائحة كورونا أكبر دليل على ذلك.

إننا نعيش في مرحلة تاريخية يجب أن نتجاوز فيها التسميات الكليشيهية الرنَّانة، التي صار كثيرون يرددونها دون فهم عميق لها، وننظر إلى الواقع على الأرض ونتخلص من التقليد الأعمى وتقمص شخصية لا تمثلنا حضاريًّا أو ثقافيًّا أو فكريًّا، كما أن زمن ثقافة المنتصر/المهيمن يجب تجاوزه تمامًا في واقع اليوم الذي يتجه نحو التعددية القطبية بضرورة العودة إلى الإرث الثقافي والحضاري التاريخي للشعوب كمرتكز مهم وانطلاقًا نحو المستقبل، والأهم من ذلك كله أن انهيار القيم والمفاهيم في المجتمعات الغربية، من ترويج للمثلية الجنسية وتفكيك للأسرة وغيرهما، تجعل كثيرًا من الشعوب والدول تفكر في مستقبل الحضارة الغربية المتجهة نحو الهاوية في ظل انحدار القيم والمفاهيم الفطرية.

ختامًا، يجب التوقف عن تقييم الدول وفق معايير خارجية مستعارة ليس لها أي أصل متجذر في الثقافات الأخرى، والتطلع نحو الوصول إلى الغايات العليا لتحقيق الحكم الرشيد بغض النظر عن السبل المؤدية إلى ذلك.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية