في الرابع والعشرين من يوليو 2024م، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خِطابًا أمام الكونغرس الأمريكي، شبّه فيه أحداث السابع من أكتوبر 2023م، بهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، بل وادّعى أنها كانت أعظم تأثيرًا بعشرين مرة. وبعد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة في التاسع من سبتمبر 2025م، عاد نتنياهو ليربط بين الهجوم على قطر (الدولة التي تقوم بدور الوساطة) وبين اعتداءات سبتمبر، رغم الاختلاف التام في السياق. وقد وصفت وزارة الخارجية القطرية هذا التشبيه بأنه «مغلوط»، مُشيرةً إلى أنه لم تكُن هناك في عام 2001م أي جهود وساطة دولية تضم وفدًا تفاوضيًا من تنظيم «القاعدة»، على عكس الدوحة التي كانت محور جهود الوساطة لوقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة وإسرائيل وحركة «حماس».
ولم يكن تشبيه نتنياهو عابرًا كما صوّره بعضهم، فقد كان يُدرك أنه لا يستند إلى أي أساس منطقي. لكن السؤال الجوهري يظل قائمًا: لماذا أقدم شخص تولّى رئاسة الحكومة الإسرائيلية مرارًا، ويُدرك تمام الإدراك قواعد الوساطة والأعراف الدولية، على ترويج مقارنة زائفة كهذه؟
إن الدافع الأساس وراء هذا التشبيه المُضلل، يكمن في إدراك نتنياهو العميق للأثر النفسي، الذي تركته هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الوعي الجمعي الأمريكي والغربي. فباستذكاره لتلك الأحداث، سعى إلى نزع الصراع من جذوره السياسية وتحويله إلى صراع أيديولوجي، لتتشكّل الرواية الإسرائيلية وفق أهدافه، في عملية مدروسة ومخططة بعناية. وتنسجم هذه المقاربة مع الخطاب الغربي المعادي للإسلام؛ إذ تُظهر إسرائيل كأنها خط الدفاع الأول ضد الإرهاب العالمي، بهدف حشد أقصى دعم ممكن، وتبرير ممارساتها العدوانية، بما في ذلك انتهاك القوانين والأعراف الدولية، وارتكاب جرائم مروعة، وحملة إبادة ضد الفلسطينيين الأبرياء.
وفي 23 أبريل 2025م، استدعى نتنياهو مفهومي «المحرقة» (الهولوكوست) و«النازية» لتبرير الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، ولتعزيز الرواية الإسرائيلية القائمة منذ تأسيس الدولة على فكرة الضحية والمعاناة. وقال في خطابه: «إن الهجوم الإرهابي المروّع في السابع من أكتوبر لم يكن محرقة، لا لغياب النية في الإبادة، بل لغياب القدرة على تنفيذها. النية واحدة، فالنازيون سعوا لإبادة الشعب اليهودي بالكامل، ومجرمو (حماس) تلقوا التعليمات للقيام بالأمر ذاته».
من المهم كشف حقيقة هذه الرواية الإسرائيلية، التي تتغلغل في الخطاب الإسرائيلي، وتنتشر عبر وسائل الإعلام الغربية المختلفة؛ إذ يسعى المسؤولون الإسرائيليون إلى استغلال أي فرصة للتأثير في الرأي العام العالمي. فالحملة الإعلامية الإسرائيلية لا تقتصر على رسم خريطة السيطرة بالقوة العسكرية، بل تمتد إلى رسم خريطة في عقول البشر ووعيهم الجمعي، عبر تشويه المفاهيم وقلب الحقائق، بما يخدم ترسيخ الرواية الإسرائيلية بمختلف أبعادها البراغماتية.
وفي الوقت الراهن، يبدو التصعيد الخطير في الخطاب الإسرائيلي مُتعمدًا ومدروسًا، خصوصًا حين تحدث نتنياهو عن مشروع «إسرائيل الكبرى» الممتدة «من النيل إلى الفرات»، زاعمًا أنه حقٌ تاريخي لإسرائيل. هذا التصريح يُجسّد بوضوح جوهر الخطاب الإسرائيلي المتطرف ذي البعد الأيديولوجي، الذي يُغذي العنف والكراهية، ويرفض التنوع العرقي والديني في الشرق الأوسط. فالصراع لم يعُد مجرد صراع على الأرض، بل بات صراعًا لغويًا وسياسيًا وإعلاميًا، قائمًا على إدارة السرد وقلب المفاهيم والحقائق.
ومن جانبها، ترُكّز وسائل الإعلام التقليدية اليوم على تقديم الروايات الإسرائيلية بصيغها المتعددة، لتشتيت الانتباه عن الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، وعن الحملة الشاملة التي يشنها الجيش الإسرائيلي لإبادته. ولا يقتصر التحيّز على بث الرواية الإسرائيلية فحسب، بل تعدّاه إلى مُعاقبة الإعلاميين المحترفين الذين انتقدوا إسرائيل، عبر فصلهم أو إلغاء برامجهم. هذا الانحياز الإعلامي الدولي بات اليوم أكثر انكشافًا من أي وقت مضى، مما أثار انتقادات حتى داخل الأوساط الإسرائيلية نفسها، كما عبّر عنها الصحفي جدعون ليفي.
وهذا يفسر سبب تراجع ترتيب إسرائيل في مؤشر حرية الصحافة، الصادر عن منظمة «مراسلون بلا حدود»، إذ هبطت من المرتبة 101 إلى المرتبة 112، لاسيما بعد منعها وسائل الإعلام الأجنبية من تغطية الجرائم في غزة، وفرض قيود صارمة على الإعلام المحلي الخاضع منذ نشأته للرقابة العسكرية الإسرائيلية. وتقدّم «مجلة +972» مثالًا كاشفًا عن زيف حرية الإعلام في إسرائيل، وعن دور النخبة الإسرائيلية في ترسيخ صورة «الضحية».
وفي المقابل، لعبت وسائل الإعلام الجديدة دورًا حاسمًا في نقل الحقيقة إلى شعوب العالم، بعيدًا عن الرواية الإسرائيلية، وعن التغطية المتحيّزة لوسائل الإعلام الدولية. فقد نقل الصحفيون والنشطاء والأفراد العاديون، عبر منصّات التواصل الاجتماعي مختلف أوجه المأساة الإنسانية والانتهاكات الإسرائيلية في غزة. وأسهمت هذه المنصّات في فضح الرواية الإسرائيلية التي تتبنّاها وسائل الإعلام الدولية، لاسيّما بعد انضمام نشطاء ومشاهير وشخصيات من عالم الفن والرياضة إلى حملات التوعية وكشف الحقائق؛ مما ساهم في تسليط الضوء على الجرائم الإسرائيلية أمام الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي على نطاق واسع.
كما خصص عدد كبير من المؤثرين وصُنّاع المحتوى منصّاتهم للحديث عن القضية الفلسطينية، فلعبوا أدوارًا محوريةً في تعبئة الرأي العام، وشرح جذور القضية، وكشف زيف الرواية الإسرائيلية، وفضح الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي. ومن الأمثلة البارزة صانعة المحتوى الإسبانية «سيريا بوكر» التي نشرت عبر منصة «تيك توك» مقاطع مُتعددة تُوثق الجرائم الإسرائيلية. ولم تكتفِ وسائل الإعلام الجديدة بفضح الرواية الإسرائيلية، بل استخدمها النشطاء أيضًا لمساءلة المؤثرين الذين يُبررون الجرائم الإسرائيلية، وحملة الإبادة بحق الشعب الفلسطيني. هذا يُبرز الدور الحيوي الذي تلعبه وسائل الإعلام الجديدة في تغيير الرأي العام العالمي؛ إذ حوّلت الفضاء الرقمي إلى ساحة تنقل الحقيقة وتبُث معاناة الفلسطينيين إلى جماهير عريضة حول العالم.
لذلك، عمد رئيس الوزراء الإسرائيلي مؤخرًا إلى حثّ عدد من النشطاء الإعلاميين على دعم الرواية الإسرائيلية، ومواجهة التحول الحاصل في الرأي العام العالمي، ووصف منصات التواصل الاجتماعي (بما فيها تيك توك) بأنها أسلحةٌ عسكريةٌ يجب استخدامها في «المعركة الجديدة»، مؤكدًا أن «تيك توك هو السلاح الأهم»، يليه «إكس». وهذا يعكس بوضوح إدراك إسرائيل للدور المحوري الذي تلعبه وسائل الإعلام الجديدة في توجيه وتشكيل الرأي العام، رغم محاولاتها اليائسة للسيطرة على هذا الفضاء عبر جيوش إلكترونية تقودها «الوحدة 8200» المعروفة بـ «العقل الإلكتروني الإسرائيلي».
وعلى الرغم من التحول الملحوظ في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية وجرائم إسرائيل، لا تزال الرواية الإسرائيلية تُهيمن على الإعلام التقليدي العالمي، بفضل نفوذها المالي والأيديولوجي. وفي المقابل، تعكس وسائل الإعلام الجديدة صوت الشعوب وضمير العالم، وقد أثبتت أنها ميدان معركة حقيقي، تحاول إسرائيل عبثًا إخضاعه لروايتها كما فعلت مع الإعلام التقليدي.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد