طالعتنا الصحف والمواقع الإيرانية، وبخاصة المقرَّبة مما يسمى التيار المعتدل في إيران، بعدد من المقالات والتقارير الصحافية التي تدعو الرئيس الإيراني إلى أن تكون السعودية أولى محطات رحلاته الخارجية، وضرورة الاستفادة من الدبلوماسية السعودية الناجحة لتخفيف التوترات في المنطقة، وبخاصة بعد اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية في طهران، خلال رحلته لحضور حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، وسوف نحاول في هذا المقال استعراضَ أهم مادتين نُشرتا بشكل شبه متزامن، وعبر منصات إعلامية مقرَّبة من «التيار المعتدل» في إيران.
فقد كتب حمد حسين ملائك، السفير الإيراني الأسبق لدى سويسرا والصين، مقالاً بعنوان «في خضم التوترات الإقليمية امتحِنوا الدبلوماسية مع السعودية ولو لمرة واحدة»، نشره موقع دبلوماسي إيراني مقرَّب من وزارة الخارجية الإيرانية، وقد جاء فيه: «أُريد أن أقترح على حكومة السيد بزشكيان التخلي عن النهج الكلاسيكي في السياسة الخارجية والتفكير في القضايا بنهج جديد. والاقتراح هو أن يُجرِيَ رئيس الجمهورية، الذي لم يُعلن بعد عن حكومته، (زيارة عمل) على الفور للسعودية، ويناقش مع قيادة ذلك البلد الوضع في المنطقة وما يجب القيام به. ويمكن القول بثقة إنه إذا اتُّبِعت الدبلوماسية الصحيحة وتوصّلنا إلى اتفاقيات مع السعودية من أجل السلام والاستقرار في المنطقة، فإن القوة والضغط السعودي على إسرائيل وأميركا أكبر وأكثر عملية من الدول الأخرى»، وأضاف الكاتب: «حتى الآن، طُلب من السعودية أن تؤقلم نفسها مع مواقفنا الأكثر رادیكالیة، وهو الأمر الذي لم يتحقَّق فحسب، بل أدَّى إلى نتيجة عكسية. ومن الممكن هذه المرة الضغط على السياسات الراديكالية لإسرائيل والولايات المتحدة من خلال التنسيق مع السعودية في أُفق التعاون في المنطقة برمتها».
أما الشخصية الثانية المهمة التي تحدَّثت عن هذا الموضوع، فالأكاديمي المعروف وأستاذ العلوم السياسية في جامعة شهيد بهشتي الدكتور علي بيغدلي، حيث قال في مقابلة أجرتها معه صحيفة «ستاره صبح»: «اقتراحي أن يختار الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان السعودية، ثم مصر، كأول وجهتين لزياراته الخارجية». وأضاف بيغدلي: «رسالة ملك السعودية إلى بزشكيان مهمة، وعلينا استغلال هذه الفرصة، وعلى بزشكيان السفر إلى الأردن أيضاً، فإيران تحتاج إلى صديق إقليمي، لا إلى عدو». وقبل هذه المقابلة، تحدَّث بيغدلي أيضاً في الفكرة ذاتها لصحيفة «آرمان ملي» الإيرانية، حيث قال في مقابلة تحدَّث فيها عن عملية اغتيال إسماعيل هنية في إيران دون غيرها والتوترات بالمنطقة والعالم، وفي صدد العلاقة مع السعودية قال: «مؤخراً، كتب العاهل السعودي رسالةً إلى السيد بزشكيان. ولو كنت مكان السيد محمد جواد ظريف مساعداً للرئيس للشؤون الاستراتيجية، لكنت قد أوصيت الرئيس بزشكيان بالقيام بأول زيارة خارجية له إلى السعودية، من أجل تلطيف الأجواء إلى حدٍ ما».
الحديث عن الوساطة السعودية لإيران مع العالم، وبخاصة مع أميركا فيما لو فاز ترمب بالانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، ليس فكرةً جديدةً تماماً، بل تم طرحها من قِبل عدد من الشخصيات الإيرانية قَبل هذه الأزمة، وبخاصة بعد كثرة الحديث عن احتمالية فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كما أن هناك من يعتقد أن الرياض قادرة على الوساطة لدى واشنطن لتخفيف العقوبات الاقتصادية على طهران، أو الحصول على استثناءات لبناء علاقات اقتصادية وتجارية واستثمارية مع إيران، دون تعرُّض الشركات السعودية للعقوبات الأميركية، مما يعودُ بالنفع على إيران؛ ليس في البُعد الاقتصادي فحسب، بل وفي تنامي ترميم العلاقات مع المحيط العربي، وبخاصة مع دول مثل مصر والأردن والبحرين.
في الآونة الأخيرة، وبعد مقتل رئيسي وعبداللهيان، وهما من أسهمَ من الجانب الإيراني في بدء خطوة الألف ميل نحوَ بناء علاقات طبيعية مع الرياض، هناك ثلاثة مؤشرات سعودية مهمة حدثت في مسار بناء الثقة بين الرياض وطهران في إطار الاتفاق بين البلدين، برعاية صينية، واستكمال ما بُدئ في عهد رئيسي.
المؤشر الأول: المشاركة في مراسم العزاء بعد مقتل الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته أمير عبداللهيان، اللذين لقيا حتفهما في تحطم طائرة مروحية بشهر مايو (أيار) الماضي.
والمؤشر الثاني: المشاركة السعودية في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب مسعود بزشكيان، ونقل رئيس الوفد الأمير منصور بن متعب آل سعود، عضو مجلس الوزراء السعودي، رسالةً خطية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، إلى الرئيس الإيراني الجديد.
أما المؤشر الأخير؛ فهو المكالمة الهاتفية التي أجراها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الإيراني، بعد حفل التنصيب، وناقشا فيها العلاقات الثنائية وسُبل تطويرها، إلى جانب التطورات الإقليمية والدولية.
هل هذه الدعوات نابعة من قناعة إيرانية، أو قناعة لدى بعض العقلانيين في إيران، بضرورة إعادة النظر في السياسة الخارجية تجاه دول الجوار والسعودية تحديداً، والاستفادة من المشروع التنموي والنهضوي السعودي الشامل، ومحاولة الاستعانة بالسعودية لتخفيف الضغوط على إيران؛ لمساعدتها في مسار تغيير النهج؟ أم أنها ردة فعل انفعالية ممن يعتقدون بأن هناك في الداخل الإيراني، وبخاصة من التيار المتشدد، من يرغب في إفساد نهج الحكومة المقبلة مبكراً، وخشيةً من سحب البساط من تحت أرجلهم من زاوية القُرب من المرشد والبُعد عنه، وأن التيار المعتدل سيُثبت لخامنئي أنه يستطيع انتشال البلاد من الأزمات الداخلية والخارجية التي تشكِّل خطراً على استمراريته في ظل تآكل شعبية النظام، وفقاً لشواهد المشاركة الشعبية المتدنية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية على حدٍ سواء؟
تبقى الأيام المقبلة محكاً حقيقياً لجدية هذه الأصوات من عدمها. لكن الواقع أن إيران تحتاج لمحيطها الإقليمي قَبل ترميم العلاقات مع الغرب، وتبقى مواقف النظام من الأزمات الإقليمية المرتبطة بالمشروع الإيراني وسلوك النظام، وبخاصة الموقف من المصالحة اليمنية المتعثرة، دلائل أساسية واختباراً حقيقياً لجدية النظام من عدمها.
في الجانب السعودي، من المؤكد أن القيادة السعودية ترحب بهذه الزيارة، وكذلك ستدعم إيران، إذا لمست جديةً حقيقية من الجانب الإيراني هذه المرة، بما تستطيع تقديمه لما يخدم مصلحة المنطقة ويُعزز مسار إيقاف الصراعات والعمل على توطيد العلاقات الثنائية، والعمل المشترك، لكن قد تكون هذه مجرد أمنيات تصطدم بشواهد كثيرة لا تدعم الوصولَ إلى هذا الحلم الوردي، ولو أرادت إيران أن تتغير وتصل إلى هذه المرحلة، فنعتقدُ أن الأزمة اليمنية ثم الحالة العراقية، خير بداية لبناء الثقة وفتح صفحة جديدة، استراتيجية وليست تكتيكية، بين الرياض وطهران.
المصدر: الشرق الأوسط
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد