السعودية وإيران على خارطة الممرات الاقتصادية العابرة للحدود

https://rasanah-iiis.org/?p=32518

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

تشير تجارب صعود الدول في التاريخ المعاصر إلى أن تعزيز وزن الدولة وتحويل قوتها ونقل مكانتها إلى مصاف الفواعل المؤثرة في مجريات الشؤون والقضايا لتصبح في قلب الممرات الاقتصادية العابرة للحدود وفي صدارة خارطة المشاريع اللوجستية العالمية، لم يأتِ مصادفة أو في لحظة تاريخية سانحة أو بتبنِّي مشاريع هدّامة لتدمير الدول وإهدار مواردها وتشتيت ثرواتها وتهجير سكانها لأجل تكريس الصعود وتكديس القوة ومد النفوذ لنقل هذه القوة في تراتبية القوى في سلم النظام الدولي، وإنما يأتي حصيلة رؤية وطنية وحضارية معاصرة تُعلي من معايير الحكم الرشيد في الداخل، وتسعى إلى تعزيز صورتها وتنويع علاقاتها الدولية وشركائها الإستراتيجيين والتوازن الإيجابي ودعم الدول الوطنية واحترام سيادتها في الخارج.

السعودية وإيران دولتان جارتان بحكم الجغرافيا، وقوتان إقليميتان بحكم الموارد والثروات المتاحة، لكن خَطَّت كلٌّ منهما منهجها وسطرت نموذجها في سبيل تعزيز المكانة وتكريس الدور والحصول على الريادة الإقليمية، فطرحت القيادة السعودية الملهمة رؤية وطنية حضارية معاصرة، انطلاقًا من إيمانها بالقيم الوطنية للدول، وإدراكها المقدرات المتاحة، ورغبتها في تحويلها إلى تأثير خارجي لتعزيز المكانة والدور.

في الداخل، أولت المملكة اهتمامها بالتنمية الشاملة عبر تحديث شامل لمؤسساتها كافة وتعزيز الشفافية وإخضاعها للرقابة والمساءلة وتحقيق العدالة ومحاربة الفساد وتنويع مصادر الدخل، والأبرز بناء المواطن باعتباره المحور الرئيسي للتنمية، وكذا تعزيز مشاعر المواطنة وتمكين المرأة للمشاركة في بناء الدولة المعاصرة وتحقيق حزمة إنجازات هائلة في القطاعات كافة، وحصدها المراكز المتقدمة في عديدٍ من المعايير والمؤشرات الدولية.

وفي الخارج أولت اهتمامًا بصنع السلام والاستقرار الإقليمي عبر تسوية الصراعات وتصفير المشكلات وتنويع العَلاقات والبدائل الإقليمية والدولية، ودعم الدول والجيوش الوطنية ووحدة الدول التُّرابية، ومناشدة المجتمع الدولي لمواجهة الجيوش الرديفة، شبه العسكرية، نظرًا إلى تنامي مخاطرها على أمن واستقرار الدول، مع تحمل المسؤولية في أداء دور مهم في استقرار الاقتصاد العالمي، وطرح مبادرات الوساطة للتخفيف من وطأة الصراعات الإقليمية والعالمية.

في المقابل، طرح النظام الإيراني، منذ بداية حكمه قبل أكثر من أربعين عامًا، رؤية مغايرة تمامًا لرؤى ونماذج الحكم المعاصرة وبناء الدول الحديثة المعنية بالمواطن والوطن لصالح ديمومة النظام، وذلك انطلاقًا من أفكار مذهبية ثورية، تعطي أهمية وأولوية الداخل لبقاء النظام ورجال الدين، لا للمواطن الذي شكّل أولوية في الرؤية السعودية، وفرض الأيديولوجيا على المجتمع، وكوَّن المؤسسات الثورية الموازية في مختلف القطاعات، ومكَّنها باعتبارها بديلًا للمؤسسات الوطنية، واقتطع جزءًا كبيرًا من ميزانية الدولة لصالح الدولة والمشاريع «الثورية» لا الوطنية، وبالتالي غابت العدالة والشفافية والرقابة وتكافؤ الفرص.

وفي الخارج، أولى النظام الإيراني أهمية لتمرير مخططاته الطائفية وفرض الهيمنة على حساب الدول الوطنية، وذلك بدعم الفاعلين في عديدٍ من الدول العربية بالمال والسلاح لتكوين جيوش رديفة على حساب قوت مواطنيها وبناء مؤسسات الدولة، منتهكة بذلك مبادئ عدم التدخل في شؤون الدول واحترام سيادتها ووحدتها الترابية وحسن الجوار.

الرؤية السعودية الطموحة شكّلت نموذجًا مُلهمًا في الحكم الرشيد والإدارة، وتجربة تنموية تُحتذى في الصعود الإيجابي للمكانة والدور على ضوء مقدرات الدولة ورؤية قيادتها، لذلك حازت المملكة ثقة عديدٍ من الفواعل الإقليمية والدولية بفضل رؤيتها وحكمة قيادتها التي جعلتها تمتلك مؤهلات الانخراط في الاقتصاد العالمي، وتحولت إلى وسيط دولي مقبول ومحايد، وإلى رقم مؤثر في استقرار الاقتصاد العالمي، وإلى لاعب رئيسي في القضايا السياسية الدولية، ما جعلها محطَّ إعجاب عديد من قوى العالم، لا سيّما القوى الكبرى، التي باتت تنظر إلى المملكة على أنها فاعل مهم ومؤثر في الشؤون الدولية، ما جعلها تتربع على رأس عديد من المشاريع والممرات التجارية واللوجستية العالمية، مثل الممر المقترح من دول آسيا الوسطى بريًّا وبحريًّا ليربط دول الخليج العربية بدول آسيا الوسطى عبر باكستان وأفغانستان، وكذا الممر الاقتصادي: الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي.

في المقابل، خلَّف النموذج المذهبي الثوري الإيراني في الإدارة والحكم دولة شديدة التأزُّم في الداخل، وتعاني تداعيات العزلة والحصار في الخارج بفعل سياساتها النووية والباليستية والتوسعية.

في الداخل، تحوَّلت إيران إلى دولة مُثقلة بالأزمات المعيشية والاقتصادية جراء تراجع أسعار الصرف وتدني مستويات الدخول وتفاقم معدلات التضخم والبطالة والجريمة والعنف الطائفي والهجرة، مع غياب معايير العدالة وتكافؤ الفرص، ما خلق أزمة شرعية بانتفاء الرضا الشعبي، إذ خرج المواطنون في احتجاجات شعبية حاشدة عدة مرات كشفت عن عدم استقرار في الداخل.

أما خارجيًّا، فتعاني إيران عزلة وعقوباتٍ على خلفية طموحاتها في فرض الهيمنة والحصول على أسلحة نووية وتطوير صواريخ باليستية، ودخولها صراعات إقليمية مع أقرب جيرانها، لذلك تراجعت مكانتها التنافسية بالنسبة للممرات الاقتصادية واللوجستية والترانزيت العالمي، لأنها لم تكن مؤهلة، لا من حيث البنية التحتية ولا المالية ولا استغلال الفرص الاستثمارية، بحكم سياساتها وأوضاعها المتردية، وبالتالي لم تكن محط إعجاب الدول الفاعلة في الممرات، رغم موقعها الجغرافي وموانيها ومواردها الهائلة وفرصها الاستثمارية الواعدة.

وبمراجعة وسائل الإعلام الإيرانية، حول الممر الهندي، تجد أن الكُتّاب الإيرانيين يؤيدون منطقية السرد السابق في المقارنة، بتأكيدهم تدني المصداقية السياسية لبلادهم وعدم تأهلها للانخراط في مشاريع الممرات الدولية، رغم عظم الموقع مقابل قدرة الدول الجارة -المقصود هنا المملكة- على ربط نفسها بالاقتصاد العالمي، فها هو ممر الشمال-الجنوب أحد أهم الممرات الاقتصادية المطروحة في العالم، لا يزال معطلًا نتيجة عدم وجود بنية تحتية مؤهلة وإجراءات منظمة للترانزيت، كما أن فرص إيران على طريق «الحزام والطريق» الصيني تتضاءل، فيما لم تكن إيران ضمن ممر تتعاون فيه الصين وتركيا (ممر زنغزور)، وأخيرًا الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي دون إيران، وذلك لعدم توافر الشروط الملائمة في إيران بحكم سياساتها المذكورة أعلاه، ما يُفقدها فرصًا استثمارية داخلية وخارجية هائلة كانت ستنقل الاقتصاد الإيراني إلى مصاف الاقتصادات المتقدمة بدلًا من تأزمه.

أخيرًا، كما يقول أحد الكتاب الإيرانيين، فإن الفرص لم تنتظر دولة ما مهما عظمت مقدراتها وتزاحمت ثرواتها، فإن لم تُستغل تلك الفرص برؤية وعزيمة ممزوجة ببرامج عمل جادة وبإصرار لا يلين، حتمًا ستتحول في يوم ما إلى تهديد، وهذه لربما فرصة لإيران في حد ذاتها لكي تدرك إعادة النظر في سياساتها الداخلية والخارجية، بما يعظم مكانتها ويربطها بالاقتصاد العالمي، لذلك هي مَن ستقرر على ضوء الواقع المعيش.

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية