السياسات التجارية الأُحادية لواشنطن.. واستجابة أوروبا الاستراتيجية

https://rasanah-iiis.org/?p=37789

فرضت الولايات المتحدة، تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، رسومًا جمركية بنسبة 10% على معظم واردات الاتحاد الأوروبي، مع تهديد برفعها إلى 50% بحلول 9 يوليو 2025م في حال عدم التوصُّل إلى اتفاق. وتشمل الرسوم الحالية 25% على الصُلب والألمنيوم والسيارات الأوروبية، ضمن أجندة «أمريكا أولًا»، التي تهدُف إلى حماية الصناعات المحلِّية وتقليص العجز التجاري الأمريكي. في عام 2023م، بلغت التجارة في السِلَع بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة 851 مليار يورو، مع فائض لصالح الاتحاد الأوروبي بقيمة 157 مليار يورو، وهذه نقطة خلاف رئيسية بالنسبة لواشنطن.

في المقابل، يتبنَّى الاتحاد الأوروبي استراتيجية الهدوء والتريُّث، مفضِّلًا التفاوض على الردّ بالمثل الفوري. وتعكس سياسات ترامب نمطًا من استغلال الهيمنة الاقتصادية والجيوسياسية الأمريكية لانتزاع تنازلات. وعلى خلاف الصين التي ردّت بقوة، أو كندا التي واجهت الإجراءات الأمريكية بتضامن داخلي، لا يستطيع الاتحاد الأوروبي الدخول في مواجهة مباشرة؛ بسبب اعتبارات داخلية. إذ يحِدّ المشهد السياسي الأوروبي المتشظِّي من قُدرة أوروبا على تصعيد ردّها على واشنطن، لا سيّما مع دعْم بعض القادة الأوروبيين لترامب (مثل رئيس بولندا الجديد)، فضلًا عن اعتماد بروكسل على الدعم الأمريكي لأوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي. كما يختلف موقف الاتحاد الأوروبي عن بريطانيا، التي سارعت إلى إبرام اتفاق تجاري يرجِّح كفة واشنطن تجاريًا على حساب لندن بعد خروجها من الاتحاد. وعلى الرغم من أنَّ امتلاك الاتحاد الأوروبي فائضًا تجاريًا بقيمة 236 مليار دولار مع الولايات المتحدة في عام 2024م يمنحه ورقة ضغْط، لكن هذه الورقة ليست كافية للتغلُّب على «تفوق التصعيد» الأمريكي، الذي يشمل التلويح بوقف الدعم لأوكرانيا أو تقليص دور واشنطن داخل حلف الناتو.

لعِبَت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين دورًا محوريًا في تمديد مهلة التفاوض من 1 يونيو إلى 9 يوليو 2025م، بعد طلبٍ تقدَّمت به خلال اتّصال هاتفي مع ترامب. وجاء التمديد ليعكس رغبة الاتحاد في تسريع المفاوضات وحسمها، كما ورَدَ في منشور لها على منصَّة «إكس». وفي الوقت نفسه، أعلنت بروكسل أنَّها ستفرض رسومًا على سِلَع أمريكية بقيمة تقارب 100 مليار يورو (113 مليار دولار) إذا لم تُسفِر المفاوضات عن اتفاق؛ أي ما يغطِّي فقط ثُلث الـ379 مليار يورو من الواردات الأوروبية المتأثرة برسوم ترامب. ويُظهِر هذا الحذر الأوروبي تفضيل المسار الدبلوماسي على التصعيد المتبادل. وبهدوء، يستعدّ الاتحاد الأوروبي اقتصاديًا للتعامل مع تداعيات مُحتمَلة، عبر تقييم الأثر الجمركي وبناء تحالفات لتقليل الاعتماد على الأسواق الأمريكية.

وفي ظل السياسات الأمريكية المقلقة، تتّجِه الدول الحليفة الأقرب إلى واشنطن نحو تعزيز التعاون فيما بينها، لحماية مصالحها في ملفات التجارة والدبلوماسية والدفاع. وتشمل هذه الديناميكية الصاعدة دولًا مثل المملكة المتحدة وفرنسا وكندا واليابان، التي يصفها محلِّلو العلاقات الدولية بـ«القُوى الوسطى» تمييزًا لها عن القُوى العظمى مثل أمريكا والصين. ولعل التحدِّي الأبرز أمام أوروبا في بلورة ردّ موحَّد، يتجسَّد في تحقيق التماسك الداخلي بين الدول الأعضاء، خاصَّةً في ظل التباين السياسي بينها. لذلك، عقَدَ الاتحاد الأوروبي عدَّة اجتماعات موسَّعة، مثل تلك التي كانت في  أبريل 2025م في لوكسمبورغ؛ لتأكيد التزامه بالنهج الدبلوماسي مع الحفاظ على الجاهزية للردّ إذا فشلت المفاوضات. إنَّ هذا التماسك الأوروبي ضروريٌ لتفادي اتفاقات ثنائية قد تُضعِف قوَّة التفاوض الجماعي للاتحاد، وهي مخاوف تصاعدت بعد خروج بريطانيا من الاتحاد.

ووفق بيانات أوروبية، من المتوقَّع أن تؤدِّي الرسوم الأمريكية إلى انخفاض الناتج المحلِّي للاتحاد بنسبة 0.2%، وتراجُع الصادرات بين 1.1% و1.5%، وانكماش الميزان التجاري بنسبة 0.3% من الناتج المحلِّي. وتُعَدُّ قطاعات مثل السيارات والأدوية من الأكثر عُرضةً للتضرُّر، بما في ذلك خسائر وظيفية وتراجُع القُدرة التنافسية. ويسعى الاتحاد الأوروبي إلى احتواء هذه التأثيرات عبر المسار الدبلوماسي لتفادي حربٍ تجارية، وذلك في إطار سياسته القائمة على تجنُّب التصعيد المُتبادَل الفوري والاتكاء على الترُّيث والمفاوضات.

وتتضمَّن استراتيجية بروكسل محاور متعدِّدة؛ فهي تُجري تقييمات حول احتمالات صفقة تجارية تشمل زيادة واردات المعدّات والغاز الطبيعي من الولايات المتحدة، وهي خطوة بدأت فعليًا منذ انتخاب ترامب، في مسعى لتجنُّب رفْع الرسوم. كما تتماشى هذه الخطوة مع أولويات أوروبية، مثل تقليل الاعتماد على الغاز الروسي وتعزيز قُدرات الدفاع، وفي الوقت ذاته تخفيف العجز التجاري الأمريكي.

إضافةً إلى ذلك، يسعى الاتحاد الأوروبي لتقليل اعتماده على السوق الأمريكية، من خلال بناء شراكات مع دول متشابهة في التوجُّهات لإصلاح النظام التجاري العالمي، بما في ذلك بحث اتفاقيات «تعدُّدية مفتوحة» يمكن دمجها في إطار منظَّمة التجارة العالمية بعد إصلاحه. كما تقدَّمت أوروبا بمقترح حزمة تنموية داخل المنظَّمة، تشمل منْح الدول الأقل نموًا إعفاءً من الرسوم، وتكاملًا اقتصاديًا مع الدول الأفريقية، بهدف ترسيخ استقرار التجارة العالمية. وتأخُذ الاستراتيجية الأوروبية في الحسبان أبعادًا جيوسياسية، مثل كسْب الوقت لإعداد حزمة دعْم قوية لأوكرانيا، تحسُّبًا لاحتمال تراجُع ترامب عن المساعدات، وهو نهْجٌ طويل الأمد يوازن بين الحفاظ على الاستقرار الإقليمي وإدارة التوترات التجارية.

لكن نظرة اليمين الأمريكي المتشكِّكة تجاه الاتحاد الأوروبي قد تُعقِّد مسار التفاوض، حيث يرى بعض صُنّاع القرار في واشنطن أنَّ الاتحاد أقرب إلى خصم منه إلى شريك. لهذا، سيكون التاسع من يوليو 2025م موعدًا مفصليًا؛ فنجاح المفاوضات قد يؤدِّي إلى صفقة تشمل زيادة الصادرات الأمريكية إلى أوروبا وتخفيف حدَّة التوتُّر، بينما قد يؤدِّي الفشل إلى تصعيد في الرسوم وركود اقتصادي متبادل.

وستلعب قُدرة الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على وحدته الداخلية وحشْد تحالفات عالمية دورًا مهمًّا في علاقاته التجارية عبر الأطلسي، وفي المشهد التجاري العالمي. وفي حال تعثَّرت المفاوضات، فسيكون الرهان الأوروبي على الصمود أمام الضغوط الاقتصادية الآنية، مستفيدًا من نقاط ضعْف ترامب، بما يعكس إدراك بروكسل بأنَّها لا تمتلك أدوات القوَّة الخشنة الكافية لمجاراته، لكنّها تمتلك وزنًا اقتصاديًا ومرونة دبلوماسية كفيلة بتجاوز العاصفة. وبهذه المقاربة المتزنة طويلة النفس، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى احتواء السياسات التجارية الأُحادية لترامب، دون الوقوع في فخ التصعيد أو الخضوع، في اختبار جديد لمتانة وحدته وقُدرته على الصمود في وجه اضطرابات الاقتصاد العالمي.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير