شهدت الشهور الأخيرة منذ تقلد الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب منصبه في 20 يناير 2017 تغييرات واضحة في مواقف الولايات المتحدة من إيران، وذلك بالمقارنة مع السياسة التي اتبعها سلفه باراك أوباما. وتفيد تلك التغييرات بوجود اتجاه جديد تتبناه الإدارة الجديدة في ما يتعلق بالتعاطي الأميركي مع الملف الإيراني، وأهم تلك التغييرات أن هذا الملف أصبح على رأس أولويات هذه الإدارة، لا سيما بعد نجاح المملكة العربية السعودية في تدشين قمة الرياض التي كان أحد عناوينها الرئيسية مواجهة خطر إيران.
هنا يفرض السؤال نفسه: إذا كان ترمب وإدارته يوجهون انتقادات حادة إلى سياسة أوباما تجاه إيران، فأي استراتيجية تتبناها إدارة ترمب تجاه إيران؟ وهل ستكون هذه الاستراتيجية انقلابًا على إرث أوباما كما تشير تصريحات ووعود ترمب، وبالتالي إمكانية عودة العلاقات الأميركية الإيرانية إلى المربع الأول «العزلة والصراع»؟ أم أن إدارة ترمب ستتجه إلى حالة وسط بين استراتيجية بوش الابن واستراتيجية أوباما؟
في إطار الإجابة عن هذه التساؤلات، يمكن تناول العناصر الآتية:
أولًا: فشل رهانات أوباما وتصاعد خطر إيران
ظلت السياسة الأميركية لعقود منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 «تتعامل مع الملف الإيراني من منظور إدارة الصراع»[1]، وقد كان التغيير الرئيسي الذي أحدثته إدارة أوباما على مسار التفاعل مع الملف الإيراني هو أنها حولت التعاطي مع الملف من الإدارة باتجاه التصعيد والضغط إلى منطق الانخراط والتسوية، حتى تم الوصول إلى مرحلة التفاهم من خلال تكتيكات اعتمدت على الضغط المكثف بعد وصول أوباما إلى السلطة في 2008[2]، مع فتح قنوات سرية لإقناع إيران بالرضوخ للحوار. والواضح أن إدارة أوباما رأت أهمية تبني سياسة احتوائية يكون الرهان فيها على التفاهم بدلًا من الصراع كآلية للتغيير، في حين رأت إيران أن هذا المسار يُعد طوق نجاة للخروج من العزلة ومواجهة الأزمة الاقتصادية المتصاعدة من جراء العقوبات، ومعالجة الأوضاع الاجتماعية المتردية من فقر وبطالة وتآكل للشرعية[3]، لا سيما بعدما انتهت فاعلية استراتيجية كسب الوقت التي كانت تتبناها إيران في فترة كانت الولايات المتحدة متورطة في الصراعات والأزمات[4].
انتهى مسار الحوار والتفاهم مع قرب انقضاء ولاية أوباما الثانية إلى توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1 في لوزان، في 2 أبريل عام 2015، وقد كان نهج أوباما محل انتقاد من الجمهوريين الذين تمكن بالكاد من الحصول على موافقتهم في الكونغرس على هذا الاتفاق، كما كانت محل انتقاد من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، إذ نُظر إلى موقف إدارة أوباما على أنه بمثابة تحول خارج سياق العلاقة الاستراتيجية الممتدة مع الولايات المتحدة، لا سيما أن هذا الاتفاق قد تزامن معه انكشاف لمظلة الأمن الإقليمي واتساع نفوذ إيران، وبدت المنطقة وكأنها بصدد إعادة ترتيب للتوازنات في غير صالحهم[5].
كان رهان أوباما الأساسي ومعه مجموعة 5+1 من الاتفاق هو إدخال تغييرات جوهرية على سلوك إيران من بوابة التفاعل الإيجابي، وجرها بعيدًا عن الحالة المتشنجة التي توجه سياساتها تحت وقع العقوبات والضغوط والعزلة. لكن الواقع أن رهان أوباما جاء في وقت كانت إيران بمرجعيتها الدينية والسياسية وبأهدافها الثورية وطموحاتها التوسعية وعلاقاتها الاستراتيجية التي بنتها خلال عقود تقف على أطراف أناملها بين الخوف والرجاء، إذ تستشعر أن لحظة التمكين قد حانت، وأن فرصة تاريخية متاحة لمد نفوذها وتأكيد هيمنتها، في الوقت نفسه الذي تستشعر فيه أن وجودها ذاته أصبح مهددًا[6].
على هذا النحو كان إدراك إيران لذاتها في تلك المرحلة الفارقة التي تمر بها المنطقة متراوحًا بين وجود فرصة متاحة وتهديد قائم، ولهذا فإنها قدرت موقفها أنه على أي حال لا بديل عن أن تتمادى في توسيع نفوذها، ونشر قواتها العسكرية والدفع بالميليشيات المسلحة التابعة لها خارج أراضيها في سوريا واليمن ولبنان والبحرين والعراق، وذلك بوصف تلك الجبهات خطوطًا أمامية للدفاع عن إيران الدولة، أو أنها ساحات مفتوحة بعد «الربيع العربي» لتصدير الثورة، أو كلا الأمرين معًا.
بلا شك أسهم مسار التفاهم الإيراني مع الولايات المتحدة ومجموعة 5+1 في تخفيف حدة الضغوط الدولية على إيران، وانتهى إلى رفع العقوبات الاقتصادية عنها، والإفراج عن مئات المليارات من أرصدتها المجمدة في الخارج. وقد أتاح هذا الانفراج مجالًا كبيرًا للحركة أمام صانع القرار الإيراني، وكان بين خيارين:
الخيار الأول: أن يبنى خططه في المستقبل على أساس روح هذا الاتفاق وتفهماته غير المكتوبة وثيقة الصلة بالاتفاق النووي، وبالتالي يفتح أفقًا أوسع لتحرير سياساته من قيود المشروع التوسعي المصبوغ بنزعة طائفية، ويدمج نظامه الاقتصادي والسياسي في إطار اقتصاد السوق العالمية وتحت شرعية النظام الدولي بتوجهاته وتوازناته القائمة، فضلًا عن طمأنة جواره الإقليمي واحترام سيادة دوله واستقلالها.
الخيار الثاني: أن يجعل صانع القرار الإيراني الاتفاق تكئة لخدمة أهدافه التوسعية بعدما بدا له أن لديه هامشًا أكبر للحركة والمناورة، ويحاول فرض نفسه كقوة إقليمية لا يُستهان بها، مستغلا الظروف التي تمر بها المنطقة من فوضى وعدم استقرار، ومتحديًا للتوازنات الإقليمية والدولية والمصالح المتقاطعة في هذه المنطقة.
ونتيجة لأزمة شرعية يعاني منها النظام الإيراني، أهم مظاهرها تصاعد الحراك ضد النظام، وتردي أدائه، وتوغل مؤسساته الأمنية، وتراجع مؤشرات الرضا العام نتيجة البطالة والفقر والتهميش، وتردي أوضاع حقوق الإنسان وغياب قواعد المواطنة، فضلًا عن مخاوف النظام من أن يؤتي رهان الأميركيين على الاتفاق كقوة دفع للحراك في الداخل وآلية للتغيير ثماره.. نتيجة لكل هذا كان الخيار الثاني بتصدير مشكلة الداخل إلى الخارج هو الأقرب إلى صانع القرار في إيران، لأنه كان بمثابة طوق نجاة لإنقاذ النظام الذي يتداعى تحت سلطان ولاية الفقيه المطلقة، وهيمنة المؤسسات العسكرية المستبدة التي تختطف مقدرات الدولة وقراراتها السياسية والاقتصادية، الداخلية منها والخارجية.
أتاحت سياسة إيران بتصدير أزمتها الداخلية إلى الخارج فرصة لبسط نفوذها بصورة غير مسبوقة، فضلًا عن إيجاد خلل إقليمي كبير، وبناءً عليه أصبح المجال مفتوحًا أمام تغيير استراتيجي ضخم في خارطة التوازنات التي ظلت مستقرة في المنطقة منذ نهاية الحرب الباردة، وقد تزامن مع هذه النزعة التوسعية الإيرانية تراجع لدور وتأثير الولايات المتحدة، التي تبنت منذ قدوم أوباما مبدأ الانسحاب من بؤر الصراع وتبني مبدأ القيادة من الخلف، وهو تحول في مجمله خلق وضعًا إقليميا شديد التعقيد.
هذا الواقع هو الذي حدد طريقة تعاطي ترمب مع الملف الإيراني وحدد اتجاهاته، فخلال حملته الانتخابية شغل انتقاد الاتفاق النووي حيزًا كبيرًا من خطاباته، إذ عده أسوأ اتفاق وقعت عليه الولايات المتحدة، وتوعد إيران بإلغائه، وانتقد تحويل أوباما الأموال لإيران في ما يخص مسألة الإفراج عن المحتجزين، عادا إياها أموالًا ستوجه لدعم النشاطات الإرهابية الإيرانية، ومحذرًا إيران بشدة من تكرار عمليات التحرش بالسفن الأميركية في مياه الخليج، فضلًا عن تصريحاته شديدة الحدة تجاه إيران في أثناء قمة الرياض في الفترة بين 20-21 مايو 2017.
مثلت هذه التصريحات مؤشرًا على أن هناك سياسة جديدة قيد التنفيذ، فترمب تبنى منذ البداية مبدأ القيادة من الأمام والعودة للانخراط في الأزمات لتأكيد دور الولايات المتحدة واستعادة مكانتها على الساحة الدولية. وفي ما يخص إيران فقد حدد موقفه منها في أثناء حملته الانتخابية، إذ وجه انتقادات حادة إلى نهج إدارة أوباما، وصرح بأنه بصدد مراجعة بنود الاتفاق النووي وبممارسة ضغوط على إيران، وقد بدا أن الخطاب السياسي لترمب أقرب إلى خطاب المحافظين الجدد في عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، الذي كان يصنف إيران ضمن محور الشر ويعدها دولة راعية للإرهاب.
ثانيًا: العوامل المؤثرة على موقف إدارة ترمب من إيران
خلفت سياسة أوباما تجاه إيران وراءها إرثًا معقدًا ومتداخلًا، فالتحولات التي شهدتها المنطقة وما زالت تلقي بظلال كثيفة أمام صانع القرار الأميركي في ما يخص تحديد استراتيجية مغايرة لمعطيات الواقع المستجد في المنطقة، لا سيما في ما يتعلق بالملف الإيراني. ويُعد هذا التحول العاصف بثوابت ومرتكزات الأمن الإقليمي واحدًا من أهم العوامل التي أثرت على الموقف الأميركي الجديد بعد قدوم ترمب.
كما اتضح أمام صناع القرار الأميركي أن إيران استفادت من الاتفاق النووي ولم تلتزم بروحه، إذ إنها تمكنت من التخلص من العقوبات، وفتحت أبوابها للاستثمار أمام القوى الدولية المنافسة للولايات المتحدة، سواء الشركات الروسية أو الصينية أو الأوروبية، وهو الأمر الذي قد يتيح لها مع الوقت أوراق ضغط في مواجهة الولايات المتحدة في المستقبل، فضلًا عن توسيع نفوذها الإقليمي ومد علاقاتها مع حلفائها الذين يمثلون خطرًا على مصالح الولايات المتحدة، ولهذا فقد التقى توجه ترمب مع توجهات من داخل المؤسسات الأميركية بضرورة إعادة تقييم نتائج ما بعد الاتفاق النووي مع إيران وتداعيات ذلك على المصالح الأميركية، وتحديد سياسة جديدة للتعامل مع هذا الملف[7].
لا شك أن التحول الذي طرأ على الموقف الأميركي ارتبط بالتغييرات السياسية في الداخل الأميركي، وأهمها التغييرات التي طرأت عند قمة السلطة، إذ مثل نجاح ترمب انتقالًا للسلطة من يد الديمقراطيين إلى الجمهوريين، إن جاز قول ذلك، كون ترمب هو مرشح هذا الحزب والذي يصنف بحسب خلفيته الفكرية والثقافية وخياراته السياسية من التيار الأكثر تشددًا، لا سيما في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. والجمهوريون بدورهم لديهم موقف أكثر حدة من إيران، فضلًا عن رؤيتهم لدور الولايات المتحدة على الصعيد الدولي بصفة عامة.
وقد تزامن مع تغيير رأس السلطة نجاح الحزب الجمهوري في الاحتفاظ بغالبية مقاعد مجلسي النواب والشيوخ بعد فوزه بانتخابات الكونغرس التي جرت بالتزامن مع انتخابات الرئاسة الأميركية في نهاية عام 2016[8]. وكان صعود الجمهوريين مبنيا على رسم صورة ذهنية لدى الأميركيين حول إخفاقات السياسة الخارجية للرئيس أوباما في مجال السياسة الخارجية والتأثيرات المحتملة جراء ذلك على الأمن القومي الأميركي، فضلًا عن طرح رؤية مغايرة للسياسة الخارجية وللأمن القومي الأميركي ترتكز على ضرورة استعادة الولايات المتحدة لدورها على المستوى الدولي وتصعيد المواجهة وتبني مبدأ الضربات الاستباقية والاهتمام بمناطق النفوذ التقليدي ومواجهة الإرهاب، ولا شك أن هذه الرؤية المغايرة لمبادئ أوباما قد لعبت دورًا رئيسيا في تحديد بوصلة السياسات الأميركية تجاه إيران بعد قدوم ترمب[9].
ويُفهم التحول في الموقف الأميركي من إيران باتجاه التشدد في إطار البيئة المحيطة بالأزمة، وخصوصًا التغييرات التي طرأت على ميزان القوى الإقليمية في ظل تمدد الصراعات وانتشارها وطول أمدها، والذي تعود أسبابه إلى سياسات أوباما التي نأت بنفسها عن هذه التفاعلات، وأتاحت فرصة لإيران لتمديد نفوذها وتوسيع وجودها في عدد من دول المنطقة بما هدد الاستقرار والأمن الإقليمي، فضلًا عن الإضرار بمصالح الولايات المتحدة ذاتها.
كما أن الانسحاب الأميركي من المنطقة قد ترك فراغًا ملأته بعض القوى المنافسة على الصعيد الدولي وفي مقدمتها روسيا، وذلك بالتعاون مع إيران التي أصبحت لاعبًا رئيسيا في عدد من أزمات المنطقة، في مقدمتها الأزمة السورية واليمنية والعراقية واللبنانية، وهو وضع في مجمله لا يتماشى مع استراتيجية الإدارة الجديدة وتوجهاتها التي تسعى إلى العودة إلى الانخراط وتأكيد الدور والمكانة على الساحة الدولية، واستعادة المبادرة ولعب دور القيادة[10].
ولم تتوقف المخاوف الأميركية من تصاعد الدور الروسي فحسب، بل هناك مخاوف أخرى من تحول المنطقة لساحة تأثير للقوى الدولية والإقليمية، مثل الصين التي تطور علاقاتها مع إيران، والتي تجلت عسكريا في توقيع الجانبين عدة اتفاقيات للتعاون المشترك في المجال العسكري والدفاعي ومحاربة الإرهاب[11]، وكذلك القيام بمناورة وتدريب عسكري مشترك في مياه مضيق هرمز وبحر عمان[12]. وتجلت اقتصاديا في تطور حجم التبادل التجاري خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2017، إذ بلغ أكثر من 18 مليار دولار، مسجلًا بذلك ارتفاعًا بنسبة 30% بزيادة تقدر بـأربعة مليارات دولار مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي[13].
ويرتبط بما سبق محاولات بعض القوى الإقليمية تحت وقع التأثر بانكشاف مظلة الأمن الإقليمي وتراجع دور الولايات المتحدة للبحث عن بدائل لمعالجة إشكاليات وتحديات المرحلة. وهنا يلاحظ محاولة تركيا ملء الفراغ في منطقة الخليج عبر القاعدة العسكرية في قطر، والشراكة الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية، وتحسين العلاقات مع روسيا، بجانب محاولات القوى الإقليمية البحث عن بدائل لمعالجة هذا الفراغ بتطوير منظومات للأمن مثل التحالف العربي لدعم الشرعية، ومقترح القوى العربية المشتركة، والتحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، فضلًا عن المناورات والشراكات العسكرية والتحالفات الاستراتيجية الجماعية والثنائية.
لا شك أن هذه التحولات كانت تهدد مركز الولايات المتحدة وتحرمها مع الوقت من التأثير في تفاعلات المنطقة، بل انعكس فعليا على قدراتها على التأثير في تحديد بوصلة السياسات في المنطقة، وهو ما يعني إجمالًا إخفاقًا سياسيا كبيرًا. وقد كان اجتماع دول روسيا وتركيا وإيران في أستانة لأجل مناقشة سبل تسوية الأزمة السورية ومناقشة وقف إطلاق النار، مع تجاهل دعوة الولايات المتحدة، بل وإصرار إيران على عدم حضورها، جرحًا لمكانة الولايات المتحدة واستفزازًا لهيبتها.
كما أسهم في تحول الموقف الأميركي تجاه إيران ممارسة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة -وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية التي انتقلت إليها دفة القيادة على المستوى العربي في المرحلة الراهنة- ضغوطًا مؤثرة على الإدارة الجديدة بضرورة مراجعة سياسات وخطط الإدارة السابقة، والعودة إلى ثوابت العلاقة الاستراتيجية ومحددات الدور الأميركي في الإقليم، بحيث يحدث التعاون على أرضية مواجهة واحتواء الخطر الإيراني.
لا شك أن هذه العوامل قد ألقت بظلالها على سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران، بحيث عادت إلى مربع أكثر تعقيدًا من مربع الانفراج الذي شهدته العلاقة في عهد أوباما، وقد تجلى ذلك في تغييرات مُهمة شهدتها التفاعلات بين البلدين.
ثالثًا: ملامح التغيير في سياسة الولايات المتحدة بعد ترمب
رغم أن ترمب لم يمض على تقلد منصبه سوى شهور غير أن علاقة الولايات المتحدة بإيران شهدت تغييرات مهمة منذ قدومه، ويمكن أن نلقي الضوء على بعض ملامح سياسة الإدارة الجديدة من خلال تناول الموقف الأميركي من القضايا الآتية:
1- التهديد بمراجعة الاتفاق النووي:
رغم وعود ترمب الانتخابية بشأن إلغاء الاتفاق النووي، غير أنه بعد تقلده منصبه قد تلقى نصائح من جهات أميركية ودولية عديدة بعدم الإقدام على إلغاء الاتفاق النووي، لأنه رغم كل شيء يمثل ضمانة لعدم توجه إيران لمواصلة برنامجها النووي الذي لن يكون سلميا بأي حال هذه المرة[14]. ويبدو من الواضح أن الرئيس الأميركي قد استجاب للنصائح فأجل التفكير في إلغاء الاتفاق مع توجيه معاونيه لضرورة إعادة النظر في «خطة العمل المشتركة الشاملة»، وهي الوثيقة التي وضعت شروط الاتفاق النووي.
ولهذا مددت إدارة ترمب العمل بالاتفاق النووي والإعفاء من العقوبات المفروضة على مبيعات النفط الخام الإيرانية لمدة 120 يومًا إضافيا، مرتين في أبريل ويوليو 2017، وذلك وفقًا للالتزامات الأميركية بموجب الاتفاق النووي، التي تقضي بتصديق الرئيس الأميركي على التعامل الإيجابي لإيران مع الاتفاقية كل 90 يومًا.
ويلاحظ في هذا الصدد أن الاتفاق النووي أصبح على المحك ومحل نقاش واسع، لكن يجب الالتفات أيضًا إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة تجد صعوبات في مسألة إلغاء الاتفاق، فبدايةً الاتفاق ليس ثنائيا بين الولايات المتحدة وإيران، بل هو اتفاق دولي بين مجموعة 5+1 وإيران، وقد صدر بموجبه قرار من مجلس الأمن يحمل رقم 2231، وأصبح يرتب آثارًا قانونية، وفرض واقعًا معقدًا، وبالتالي فإن إلغاءه يواجه معارضة من الداخل والخارج، فضلًا عن أنه في حالة التراجع عنه قد يصعب إعادة بناء موقف دولي متوافق تمامًا مع الموقف الأميركي المستجد[15]، كما أن إلغاءه قد يؤدي إلى عودة إيران إلى تشغيل برنامجها النووي مرة أخرى، وهنا ستكون الولايات المتحدة أمام تحد حقيقي قد يكلفها التورط في مواجهة لها تداعياتها دوليا وإقليميا، وأخيرًا فإن بديل إلغاء الاتفاق لم يتبلور بعد، لا سيما أن الإدارة الجديدة لم يمر على تشكيلها سوى شهور قليلة[16].
2- الضغط بورقة العقوبات:
تدرك إدارة ترمب أنه لا يمكن العودة للعب دور في الشرق الأوسط واستعادة الاستقرار دون وضع حد لنفوذ ودور إيران[17]. وإذا كانت الإدارة الجديدة لم تشرع بعد في إلغاء الاتفاق النووي فإنها لم تعدم وسائل الضغط على إيران، لهذا اعتمدت الإدارة الأميركية سياسة العقوبات التي جاءت من خلال سلسلة من القوانين والقرارات في شهور فبراير ومايو ويوليو 2017، الصادرة عن مجلس النواب ومجلس الشيوخ ووزارة الخزانة الأميركية، وذلك بهدف إضعاف قدرات إيران والاحتفاظ بمزيد من أوراق الضغط عليها، لا سيما في ظل غياب ظروف ملائمة لإعادة النظر في الاتفاق النووي. وقد شملت هذه العقوبات ما يأتي:
أ- استهداف الأذرع العسكرية للنظام: إذ تبنى القانون الذي وافق عليه مجلسا النواب والشيوخ في يوليو تصنيف الحرس الثوري وفيلق القدس كمنظمات إرهابية، وذلك بوصف فيلق القدس أنه «الذراع الأصلية للحكومة الإيرانية في تنفيذ سياساتها في دعم الإرهاب والجماعات المتمردة»، كما حمل القانون الحرس الثوري «المسؤولية عن تنفيذ برنامج النشاطات المسببة لعدم الاستقرار، ودعم إجراءات الإرهاب الدولي وبرنامج الصواريخ البالستية الإيراني». ولا شك أن هذا التصنيف يمثل تحديًا رئيسيا أمام الحكومة الإيرانية التي ستجد اثنين من أهم مؤسساتها الرسمية على قائمة الإرهاب، مع ما يشكله ذلك من ارتباك في الداخل وفي علاقاتها مع العالم الخارجي[18].
والواضح أن سياسة العقوبات تجاه الحرس الثوري تجد إجماعًا داخل مراكز صنع القرار الأميركي بحيث إنها لم تعد توجهًا لدى الجمهوريين فحسب، إذ إن أعضاء من الديمقراطيين باتوا يرون ضرورة كبح جماح الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المرتبطة به، وهو ما يعني أن اتجاهًا جديدًا داخل أروقة صنع القرار يتشكل لمواجهة الأذرع العسكرية الرئيسية للنظام ودورها في الداخل والخارج[19].
ب- استهداف البرامج الصاروخية: يمثل البرنامج الصاروخي الإيراني هاجسًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، إذ إنه يغري إيران بالتمادي في تحديها للولايات المتحدة، كما يهدد مصالحها وحلفاءها في المنطقة، وقد باتت الولايات المتحدة تنظر إلى هذا البرنامج كجزء من استراتيجية إيرانية بعيدة المدة لا تنفصل عن السعي لامتلاك رؤوس نووية[20]، لهذا استهدفت العقوبات الأميركية الأفراد والكيانات الداعمة للبرنامج الصاروخي الإيراني داخل إيران، بل امتدت إلى أطراف خارج إيران، إذ فرضت وزارة الخارجية الأميركية في فبراير 2017 عقوبات ضد 30 فردًا ومؤسسة على صلة ببرامج عسكرية في إيران وكوريا الشمالية وسوريا، بسبب تورطهم في إرسال تكنولوجيا خاصة بالبرنامج الصاروخي الإيراني أو انتهاك القيود المفروضة على التصدير إلى إيران وكوريا الشمالية وسوريا[21].
ج- خنق الاقتصاد والتضييق على الاستثمارات الأجنبية: طالت أغلب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة منذ مطلع الثمانينات الصادرات النفطية، والتضييق على التعاملات التجارية مع إيران، وتجميد الأصول والحسابات المصرفية، وحظر التعامل مع شركات وشخصيات إيرانية، وقيود على الاستثمار والعملة الوطنية، وقطاع السيارات، وعقوبات طالت أي كيانات أجنبية تتعامل مع طهران، كما شملت العقوبات حظر بيع الأسلحة، وقد كان لهذه العقوبات أثرها في عزل إيران والضغط عليها، وإجبارها على الرضوخ لتسوية ملفها النووي.
لكن تحررت إيران من بعض تلك العقوبات بموجب الاتفاق النووي، وهو الأمر الذي سمح لها بفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، مع هذا يظل سلوك إيران في التعامل مع الملف الاقتصادي مريبًا، إذ إنها تحاول تعزيز شراكاتها مع قوى دولية رئيسية، وذلك من أجل كسب تأييدهم سياسيا، وتستشعر الولايات المتحدة أن نصيبها من ثمار هذا الاتفاق اقتصاديا محدودة، كما أن رهاناتها على دمج الاقتصاد الإيراني في السوق العالمية وأثره على إحداث تغيير في سلوك إيران ما زال محل شك. لهذا عادت الولايات المتحدة لفرض قيود وضغوط على الاقتصاد الإيراني عن طريق عقوبات تشمل الشركاء التجاريين الذين ينتهكون العقوبات الأميركية[22].
ولا شك أن العقوبات الأميركية على إيران تمثل حجر عثرة أمام استفادة إيران بصورة كاملة من رفع العقوبات الدولية على صادرات النفط، ومن إدماج اقتصادها في السوق العالمية، وفتح المجال أمام مزيد من الاستثمارات الأجنبية، فالقضايا المتعلقة بنقل وتداول الأموال لم تُحل، وأن التجار والمصدرين يواجهون كثيرًا من المشكلات، كما أن بعض الدول مثل الإمارات والدول الأوروبية والآسيوية يخافون من العقوبات ويغلقون الحسابات الإيرانية الواحد تلو الآخر، وبالتالي تتم التحويلات المالية الآن فقط من خلال البنوك الخاصة التي لها اتصال مع إيران[23]. كما أن هذه القرارات والأحكام الصادرة بالعقوبات ستمثل تحديًا أمام الشركات الأوروبية التي سارعت إلى عقد اتفاقيات التعاون مع إيران، في جميع المجالات الاقتصادية، وتشكل كذلك تحذيرًا بأن استثمارات تلك الشركات في إيران قد تكون في مهب الريح في أي وقت، ومن ثم فإنها تؤدي إلى حذر الوكلاء والدول من إجراء التعاقدات طويلة الأمد مع إيران.
إن الولايات المتحدة تستهدف من وراء العقوبات زعزعة الثقة والاطمئنان لدى الشركاء التجاريين المحتملين مع إيران، لهذا وعلى الرغم من أن هناك حاجة متزايدة للنفط والغاز الإيراني واحتياطاته الضخمة، ورغم الطاقة المتراكمة للاستثمار في هذا القطاع نتيجة عقود من العقوبات، فإن الوضع الراهن يجعل الشركات تفكر مترددة قبل أن تجازف برؤوس أموالها في السوق الإيرانية، وهذه هي الأوراق التي تضغط بها الإدارة الأميركية الجديدة على إيران[24].
د- إعادة التركيز على انتهاكات حقوق الإنسان: كانت إدارة أوباما قد تجاهلت هذا الملف كحافز على تشجيع النظام على المرونة في ما يتعلق بالمفاوضات حول الاتفاق النووي، لكن عادت إدارة ترمب لتعيد العمل بالعقوبات المتعلقة بالانتهاكات في هذا الملف، وهو المجال الذي يحفل سجل النظام الإيراني بوجود انتهاكات واسعة بشأنه، لا سيما في ما يتعلق بحقوق الأقليات، ومجالات حرية التعبير وحقوق المرأة والحقوق السياسية والمواطنة، وقد تضمن تقرير وزارة الخارجية نصف السنوي في 2017 إشارات حول العقوبات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في إيران في هذا الشأن[25].
3- الانخراط وإعادة الانتشار العسكري:
منذ قدوم ترمب عادت الولايات المتحدة إلى سياسة الانخراط العسكري بقوة بعدما أعادت تقييم انسحابها من المنطقة خلال فترة أوباما، وخلص التقييم إلى أن سياسات الإدارة السابقة سمحت لإيران بتوسيع نشاطها العسكري المهدد لمصالح الولايات المتحدة سواء في الخليج، وما يمثله ذلك من تأثير على حركة الملاحة البحرية وعلى تدفقات النفط وحركة التجارة، أو في ما يتعلق بتوسيع نفوذها الإقليمي بما يؤثر على توازنات القوى لغير صالح الولايات المتحدة. ولمواجهة ذلك قامت الولايات المتحدة بما يأتي:
أ- تكثيف النشاط العسكري في الخليج العربي: وحدث ذلك بكثافة بعد قدوم ترمب، سواء بالشراكة في مناورات مع حلفائها الخليجيين أو بالتعاون مع قوى دولية حليفة كفرنسا وبريطانيا، لا سيما أن تحرشات الزوارق الإيرانية بالقطع الحربية الأميركية المارة في الخليج قد وصلت إلى ذروتها، إذ رُصدت 30 عملية تحرش بالسفن المارة في مضيق هرمز من زوارق الصواريخ الإيرانية في عام 2016، واستمرت هذه العمليات في 2017[26]. ولا شك أن الولايات المتحدة تتابع نمو القدرات البحرية الإيرانية بقدر من الحذر. وقد سبق وأصدرت الاستخبارات البحرية الأميركية تقريرًا توقعت فيه أنه مع إلغاء العقوبات العسكرية في عام 2020 سوف تزيد القوات البحرية الإيرانية قوتها بمعدل ملحوظ، بعد السماح لها بشراء قطع حربية جديدة[27].
ب- تصعيد المواجهة مع إيران في مناطق الصراع: تجلى ذلك في سوريا، إذ أدى ارتفاع مستوى الانخراط الأميركي على الساحة السورية عبر الانتشار العسكري المباشر، أو تبني ودعم بعض الفاعلين كقوات سوريا الديمقراطية المنوط بها مواجهة تنظيم داعش في شرق سوريا، أو حتى الحضور السياسي والدبلوماسي والتأثير على مفاوضات تسوية الأزمة سواء في جنيف أو أستانة، أو التقارب الأميركي الروسي الذي بدأ من اتفاق ترمب وبوتين مؤخرًا في أثناء قمة العشرين بهامبورغ بألمانيا على تخفيض التوتر في بعض المناطق والشروع في وضع تصور لتسوية سياسية انعكست بوادرها على لقاء جنيف في يوليو 2017، إلى ظهور ملامح السياسات الأميركية الجديدة التي تستهدف تحجيم نفوذ إيران، ليس في سوريا وحسب ولكن في المنطقة ككل.
ولا شك في أن توجيه ضربة عسكرية إلى مطار الشعيرات في أبريل 2017، وضربة أخرى في منطقة الشحمي على طريق دمشق-بغداد الدولي إلى قوات مدعومة من إيران كانت متجهة نحو معبر التنف الحدودي في 18 مايو 2017، وكذلك تنفيذ طائرات أمريكية ضربة جوية على مواقع كتائب سيد الشهداء التابعة للحشد الشعبي قرب الحدود العراقية – السورية في 7 أغسطس 2017 جميعها يأتى في سياق الاستراتيجية الأميركية الجديدة في سوريا والعراق التي يبدو أنها بصدد إعادة تقييم وتحديد لدور إيران، وهى تعنى كذلك مواجهة عسكرية غير مباشرة فعلية من جانب الولايات المتحدة لا تنفصل عن المواجهات البحرية في مياه الخليج[28].
4- ترميم العلاقة مع الحلفاء التقليديين:
كان اختيار ترمب للمملكة العربية السعودية أول وجهة لزياراته الخارجية تأكيدًا لتحول كبير في سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران[29]، فالمملكة ومعها دول الخليج لم يكونوا راضين عن سياسة الإدارة الأميركية السابقة التي أتاحت لإيران فرصًا كبيرة للعب دور إقليمي خصمًا من حسابهم، لا سيما بعد توقيع الاتفاق النووي. وهذا التوجه الجديد عبر عنه وزير الخارجية الأميركي ووزير الخارجية السعودي بحديثهما عن مواجهة مشتركة لإيران وتنسيق في ما يتعلق بالاتفاق النووي[30].
وكان تشكيل تحالف أميركي-إسلامي موسع لمكافحة الإرهاب -لم تُدع فيه إيران- كفيلًا برسم خطوط المواجهة التي جعلت الولايات المتحدة بجانب حلفائها التقليديين في الخليج والمنطقة في مواجهة إيران بوصفها «تدرب الإرهابيين في جميع أنحاء المنطقة وتمدهم بالسلاح وتزعزع الاستقرار»، حسب تعبير الرئيس الأميركي في كلمته أمام القمة الأميركية-الإسلامية في الرياض منتصف مايو 2017. ولعل تلك التوجهات تُسهم في محاصرة إيران، وهذا ما عبر عنه الرئيس الأميركي بقوله: «ما دامت إيران ليست شريكًا في السلام فيجب أن تسعى جميع الشعوب لعزلها»[31].
وفي إطار المواجهة التي رُسمت ملامحها بعد زيارة ترمب للرياض، جاء عدد من صفقات التسليح الأميركية لكل من السعودية والإمارات لتعكس جهودًا جدية لتطوير قدراتها الدفاعية، كما قدمت الولايات المتحدة تعهدات بوضع أدوات مكافحة الإرهاب تحت تصرف الرياض التي تقود تحالفًا من 55 دولة لمواجهة الإرهاب واحتواء خطر إيران. وقد أشارت التقارير إلى أكبر صفقة، تقدرها الأرقام بـ300 مليار دولار، من بينها صفقة أسلحة تقدر بـ100 مليار دولار، تحصل المملكة بمقتضاها على نظام «ثاد» المضاد للصواريخ الباليستية وطائرات هليكوبتر ودبابات وقنابل موجهة وسفن قتالية جديدة كان الكونغرس قد أُخطر بها عام 2015 لشراء أربع سفن منها على الأقل بقيمة 11,5 مليار دولار[32].
رابعًا: إيران وتحولات السياسة الأميركية.. تفاعلات غير مرنة
يتنافس على سياسة إيران الخارجية، لا سيما العلاقات مع الولايات المتحدة، اتجاهان داخل تركيبة السلطة، أحدهما يروج للانفتاح الحذر مع الولايات المتحدة والغرب، والمضي قُدمًا في تطوير العلاقات والاستفادة من الفرص المتاحة، واتجاه آخر رافض لهذا التوجه ويرفع شعار العداء والمواجهة الذي تبنته إيران الثورة منذ قيامها.
الاتجاه الأول: لا يزال يعول على المكاسب المتوقعة بعد إبرام الاتفاق النووي، وما قد يصحبها من مكاسب اقتصادية قد تُسهم في تدفق الاستثمارات وتحقيق الانتعاش الاقتصادي، ومن ثم إنعاش الاقتصاد والانخراط في السياسة والاقتصاد العالميين، وذلك رغم سلوك ترمب العدائي تجاه إيران ورغم سياساته التي أعادت إلى الواجهة سيناريو العقوبات والضغط والعزلة[33].
والواقع أن نتائج الانتخابات عكست مزاجًا شعبيا نحو المضي قُدمًا في مسار تيار الإصلاحيين، الأكثر انفتاحًا ونأيًا عن التشدد والانغلاق على الداخل، وهو ما يعزز رهان الغرب على الاتفاق أداةً لتغيير إيران، لا على مستوى السياسات الخارجية وحسب، بل في الداخل أيضًا[34].
الاتجاه الثاني: هو الذي وجد في سياسة الولايات المتحدة وسلوك الرئيس الأميركي العدائي تجاه إيران حُجة للتشكيك في جدوى الحوار معها والتشكيك في جدوى الاتفاق النووي، وتهيمن على هذا الاتجاه القوى المتشددة والمؤسسات العسكرية التي لديها مصلحة في استمرار عملية التصعيد، بوصفه مبررًا لتحكمها في السياسات الداخلية والخارجية، وهي المؤسسات التي بيدها القرار السياسي فعليا. وقد ظهرت ردود فعل هذا التيار في أثناء الانتخابات من خلال انتقاد الأوضاع الداخلية بعد الاتفاق النووي، وعدم تحقق التقدم الملموس الذي بشر به الإصلاحيون[35].
وهذا الاتجاه يجعل مسألة العلاقة مع الولايات المتحدة مسألة عقدية لمصادرة حق الطرف الآخر وحق المجتمع في اختيار ما يراه مناسبًا لصالحه. في هذا الإطار على سبيل المثال صرح إمام جمعة مشهد، أحمد علم الهدى، قائلًا: «ذلك الشخص الذي يتحدث عن المصالحة مع أمريكا من أجل حل المشكلات، يعاني من مشكلة في معرفة الله والاعتقاد به وبيوم الميعاد وأن قدرته أعلى من كل القوى»[36]. واستغل هذا الاتجاه العملية الإرهابية التي استهدفت البرلمان ومرقد الخميني في يونيو 2017، لتعبئة الرأي العام ضد الولايات المتحدة، باعتبارها من تقف خلف هذه العمليات[37].
والحقيقة أن الخلاف ما هو إلا مجرد دعاية ودعاية مضادة من جانب تيارين يدافعان في النهاية عن نفس المبادئ، لأن الواقع يفيد بأن الجميع يعملون تحت مظلة سياسية واحدة، يمثلها الولي الفقيه الذي يحدد بدوره بوصلة السياسات والخيارات، لا سيما الاستراتيجية منها.
ويمكن ملاحظة انعكاس هذا الواقع الداخلي الإيراني المركب تجاه الولايات المتحدة على ردود فعل إيران رسميا على السياسات الأميركية تجاه إيران، وذلك على النحو الآتي:
1- الحفاظ على مكتسبات الاتفاق النووي:
رغم ما يبدو من نقاش داخلي حول الاتفاق النووي وآثاره، فإن أطراف الداخل الإيراني سواء من المتشددين أو الإصلاحيين لديهم رغبة في الحفاظ على الاتفاق ومكتسباته، لأن الاتفاق يضمن لإيران الخروج من العزلة، وينعش اقتصادها المأزوم، لهذا فإن الاتفاق يمثل مصلحة حيوية لإيران، فوفقًا لتقرير مؤتمر التجارة والتنمية بمنظمة الأمم المتحدة UNCTAD حول أوضاع الاستثمار العالمي، فقد سجلت إيران معدلات جذب استثمارات بقيمة 3 مليارات و372 مليون دولار في عام 2016، أي بمعدل نمو 64%، ولا شك أن هذا النمو من ثمار الاتفاق النووي، كما أن له مردوداته على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إيجابيا[38].
وفي السياق ذاته يشير التقرير الشهري الصادر من منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك إلى أن إنتاج إيران للنفط في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الميلادي الحالي وصل إلى 3.796 مليون برميل يوميا، مسجلًا ارتفاعًا بمعدل 55 ألف برميل، مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2016[39]، كما ارتفعت أعداد السياح الأوروبيين والأميركيين في إيران خلال هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة، ولهذا تتمسك إيران بالاتفاق[40].
2- بناء شراكة اقتصادية مع القوى الدولية الفاعلة:
تبنى المرشد علي خامنئي بوصفه قائد التيار المتشدد «اقتصاد المقاومة»، في مقابل الطرح الإصلاحي بالانفتاح على السوق العالمية. ومضمون طرح خامنئي يتمحور حول سياسات اقتصادية تنهض على «الاكتفاء الذاتي اقتصاديا»[41]. وهذا في حقيقته خيار يبدو مستحيلًا، بل يضع النظام نفسه في مأزق، وإذا كانت إيران لديها القدرة على ذلك فلماذا عانى اقتصادها من العقوبات والعزلة حتى بات على وشك الانهيار من قبل؟ ثم إن الاقتصاد الإيراني يعتمد على تصدير المنتجات النفطية بصورة أساسية، وهو القطاع الذي ركزت عليه العقوبات الأميركية بصورة رئيسية قبل توقيع الاتفاق النووي، وجاء بنتائج فعالة.
في حقيقته يبدو طرح المرشد الأعلى خطابًا سياسيا دعائيا موجهًا إلى الجماهير، في حين يشير الواقع إلى سعي إيران إلى جذب الاستثمارات الخارجية مع عدد من الشركاء الرئيسيين، في مقدمتهم روسيا والصين وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، وهي القوى الرئيسية المؤثرة على المستوى الدولي، وهم أيضًا أطراف الاتفاق النووي مع إيران بجانب الولايات المتحدة. وتهدف إيران من وراء ذلك إلى تثبيت مكتسباتها الاقتصادية، وتثبيت الاتفاق نفسه والإفلات من السياسات الأميركية، سواء بمراجعة الاتفاق أو بخنق الاقتصاد الإيراني وعزله.
3- تعزيز القدرات العسكرية والصاروخية:
عززت إيران سياساتها وقدراتها العسكرية وأجرت اختبار صواريخ باليستية وصواريخ كروز بحرية[42]، كما كشفت في 25 مايو 2017 عن مصنع تحت الأرض للصواريخ الباليستية كانت بنته في وقت سابق[43]. كما أطلقت إيران الصاروخ الباليستي «هرمز-2» المُصنع في إيران والقادر على تدمير الأهداف البحرية[44]. كذلك رصدت الولايات المتحدة خلال شهر مارس 2017 تجربتين لإطلاق صواريخ إيرانية باليستية قصيرة المدى، وذلك من قاعدة في جنوب شرق إيران[45]. كما أطلقت إيران 6 صواريخ أرض-أرض من نوع «ذو الفقار» متوسطة المدى من القواعد التابعة للحرس الثوري بمحافظات كرمانشاه وكردستان الغربية، ضد مقرات ومستودعات الأسلحة والمعدات الانتحارية والدعم اللوجستي لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» بمنطقة دير الزور على الحدود السورية-العراقية وضفة نهر الفرات، كما أطلقت بنجاح في 27 يوليو 2017 صاروخًا فضائيا يحمل قمرًا صناعيا إيرانيا محلي الصنع.
لا شك أن إيران تسارع من أجل تأكيد قوتها العسكرية، وتعزيز قدراتها في مواجهة التهديدات، لا سيما الأميركية، فهي تحاول إرسال رسالة مفادُها أنها قوة إقليمية لا يُستهان بها، وأن الحوار والتفاهم معها هو الضمانة لمصالح الولايات المتحدة، لكن تنظر الولايات المتحدة إلى هذا البرنامج الصاروخي بوصفه يمثل خطرًا محتملًا واستمراره على هذه الوتيرة يهدد مصالحها.
4- تعزيز النفوذ الإقليمي:
كان يفترض وفقًا للرهان الأميركي على الاتفاق النووي، أو وفقًا لما تسميه الإدارة الحالية «روح الاتفاق»، أن تكون إيران أكثر تفاهمًا لمصالح الولايات المتحدة، وبالتالي تغير من سلوكها وسياستها الخارجية، وتخفيف حدة تدخلها في شؤون دول المنطقة، وتخفيف المواجهات العسكرية على أكثر من صعيد.
لكن الواضح أن إيران قد أغراها سلوك إدارة أوباما وانسحابه من الانخراط المباشر في الصراعات التي شهدتها بعض دول المنطقة، وأغرتها الفوائض المادية التي تحصلت عليها، فعززت نفوذها في العراق، وشكلت ميليشيا الحشد الشعبي ليكون بمثابة جناح عسكري إقليمي ينفذ سياساتها في المنطقة، كما عززت من وجودها في سوريا بالشراكة مع روسيا، وعدت أن سوريا خط أمامي لجبهة المقاومة التي تمثلها[46]، بل سعت إلى تنفيذ مخطط يتيح لها نفوذًا إقليميا غير مسبوق، فعملت على خلق ممر بري يصل أراضيها بساحل البحر الأبيض المتوسط عبر العراق وسوريا[47].
هذا إلى جانب علاقاتها بحزب الله، واستغلالها المعركة في سوريا لتمرير أسلحة تكتيكية وصواريخ آلية في لبنان، فضلًا عن حفاظها على علاقاتها مع بعض المنظمات الفلسطينية، وقيامها بتقديم دعم لجماعة الحوثي في اليمن، وانتشارها العسكري في حوض البحر الأحمر وعلى السواحل الإفريقية الشرقية، وكلها جهود تمثل طموحًا توسعيا إيرانيا بلا أفق، وهو الأمر الذي يفرض بدوره مراجعات كبيرة للموقف الأميركي، ليس من الاتفاق النووي ولكن من دور إيران وطموحاتها المغلفة بعقيدة توسعية وعدائية.
5- التهديد باستهداف المصالح الأميركية في الخليج والمنطقة:
لا شك أن استمرار سيناريو العقوبات على إيران من جانب الولايات المتحدة يمثل مصدر إزعاج لإيران، وقد عبرت إيران عبر أكثر من مسؤول عن هذا الانزعاج، وعن أبعاد وتأثير تلك العقوبات على إيران[48]، وإزاء شن النظام حملة ضد الولايات المتحدة سواء لإظهار قوة النظام أمام المواطن الإيراني وعدم خشيته من العقوبات الأميركية، أو تهديدات مباشرة للإدارة الأميركية، ومن ضمنها إعاقة جهود الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب[49].
وفي هذا السياق أقدم البرلمان على إصدار عقوبات اقتصادية على 15 شركة أميركية، كإجراء رمزي، لأن هذه الشركات ليس لها تعاملات مع إيران، كما لا تستطيع إيران فرض عقوبات على الدول الأجنبية المتعاملة مع هذه الشركات مثلما تفعل الولايات المتحدة مع الدول والشركات التي تتعامل مع إيران بما يخالف القوانين الأميركية. وقد جمعت إيران قائمة أسماء هذه الشركات على أساس التعامل مع إسرائيل في تصنيع وتوريد الأسلحة وبناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية[50].
وكان من أبرز التهديدات استهداف مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وفي هذا السياق صرح المستشار الأعلى للقائد العام للقوات المسلحة، سید یحیی صفوي: «إذا أرادت أمريكا أن تبدأ الحرب ضد إيران، فإن جميع قواعد هذه الدولة العسكرية في المنطقة لن تكون آمنة، وإيران قادرة على تغطية حدودها حتى مدى 2000 كم بالصواريخ»[51].
حصيلة ردود فعل إيران تعطي انطباعات بأن إيران لا تكترث للضغوط الأميركية، ولا تبدي مرونة تجاه التعاطي الإيجابي معها، وقد يكون ذلك تكتيكًا إيرانيا كما جرت العادة في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة، لكنه على أي حال يعطي رسائل سلبية تؤثر على السياسة الأميركية الجديدة تجاه طهران.
خامسًا: ترمب واستراتيجية متعددة الأبعاد لمواجهة خطر إيران
تفعل الولايات أدوات مختلفة لممارسة ضغوط كثيفة على إيران خلال المرحلة الراهنة، ويبدو أن كل البدائل مطروحة في آن واحد، أو يجري تسويقها وتفعيلها بالتوازي، فالعقوبات تأخذ طريقها داخل مؤسسات صنع القرار بتوافق جمهوري ديمقراطي لم يكن على هذا النحو من قبل، والاتفاق النووي كرهان ما زال متاحًا بصورة مؤقتة، والخيار العسكري الذي ظل مستبعدًا عاد إلى الواجهة لكن بصورة غير مباشرة على ساحات جانبية في سوريا والعراق والخليج العربي. ويمكن أن نتناول هذه الخيارات وتأثيراتها على النحو الآتي:
ضغوط تكتيكية مكثفة:
ظلت العلاقات الأميركية تجاه إيران لفترة طويلة تركز بصورة كبيرة على تسوية الملف النووي بوصفه يحمل أولوية بالنسبة إلى سلة المصالح الأميركية في المنطقة، ورتب هذا خللًا ورثته الإدارة الحالية، لأن مصادر التهديد الإيرانية للمصالح الأميركية اتسعت لتشمل بعد توقيع الاتفاق الدور الإيراني في المنطقة والوجود العسكري لقواتها وميليشياتها في لبنان ودمشق وبغداد وصنعاء[52]، فضلًا عن توظيف مكتسباتها الاقتصادية في تطوير عقيدتها واستعداداتها العسكرية وعدم استبعاد العودة لتطوير قدراتها النووية، والأهم عدم تخليها عن آيديولوجيتها العدائية التوسعية.
لهذا بلورت الإدارة الحالية رؤية جديدة تعتمد حزمة من السياسات ذات شقين، الحزمة الأولى هي المحفزة على تعديل السلوك ويمثلها القرار الأميركي بالحفاظ على الاتفاق النووي واستمرار رفع العقوبات عن الصادرات النفطية، والحزمة الثانية هي العقوبات، وذلك من أجل الضغط على إيران لتعديل بوصلة سياساتها باتجاه خفض التصعيد والعودة للتفاهم.
ورغم أن البعض يرى أن هناك ازدواجية في التعامل الأميركي مع الملف الإيراني، فإن مظاهره تبدو في الالتزام بالاتفاق النووي ولا سيما التجديد لقرار رفع العقوبات على القطاع النفطي، في الوقت نفسه الذي تُفرض فيه عقوبات اقتصادية وملاحقات لأفراد سياسيين وعسكريين ومواجهات لدورها في سوريا والعراق من جهة ثانية. لكن في الواقع الولايات المتحدة تراهن على ذلك المسار لعدم تضييق الخناق على إيران بصورة كاملة، الأمر الذي يخرجها عن كل أطر التفاهم والتعاون، في الوقت نفسه الذي تمارس عليها ضغوطًا لدفعها لإعادة النظر في سياساتها وتقديم تنازلات جوهرية في القضايا الخلافية بما قد يسهم في احتوائها وترويضها.
مواجهة غير مستبعدة:
تعامُل الولايات المتحدة مع ملف العلاقات مع إيران من منظور «إدارة الأزمة» جعل مبدأ «عدم التصادم» خيارًا مؤجلًا. يؤكد ذلك أن العلاقات قد مرت بمنعطفات خطيرة ووصلت الخلافات في مراحل مختلفة إلى الذروة، لكن لم تقدم الولايات المتحدة على خيار المواجهة العسكرية. ويبدو أن هناك حرصًا أميركيا على توجيه التفاعلات حول الأزمة بعيدًا عن هذا الخيار، الذي يبدو كذلك أنه ظل مطروحًا في الخطاب السياسي كنوع من التهديد والضغط على إيران من أجل تعديل سياستها، وهذا ربما أغرى إيران وأعطاها قدرًا لا بأس به من الحركة.
ربما تنحى خيار المواجهة أمام خيارات أخرى أهمها العقوبات، نتيجة المخاوف الأميركية من الارتدادات المحتملة لأي تحركات مسلحة غير محسوبة، فالمصالح الأميركية في الدوائر الإقليمية حول إيران كثيفة ومتشابكة ومعقدة، وقدرة إيران على التأثير على تلك المصالح كبير، ومن ثم فبحسابات التكلفة السياسية يبقى خيار إدارة التفاعلات والضغط للوصول إلى نتائج مُرضية خيارًا كان لا غنى عنه عند التعامل مع إيران كملف ضمن ملفات عدة تؤثر على اتجاهات السياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. لكن كيف عاد هذا الخيار إلى الواجهة وبقوة بعد تولي ترمب؟
لا شك أن حالة من الشك هيمنت على الإدارات الأميركية المتعاقبة، بل والرأي العام الداخلي، تجاه سلوك إيران، وهو الأمر الذي انعكس بدوره على خيارات التعامل مع إيران لعقود، لكن جاءت إدارة أوباما لتعيد تقييم علاقة الولايات المتحدة مع إيران، ولتضع حدا للتناقضات الداخلية بشأن السياسة المقترحة تجاه إيران، إذ تحول مسار العلاقة من منطق إدارة الصراع عبر آلية الضغوط والعزلة، إلى إدارة الصراع عبر آلية التفاهم والانخراط المشروط، أو ما يعرف بسياسة «حافة الهاوية». وقد كان الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول 5+1 ثمرة هذه السياسة، وعُد بمثابة تخط للحواجز والخبرات التاريخية المؤثرة على سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران.
ومع أن السياسة الأميركية تجاه إيران في سياق هذه التحول الذي أحدثه أوباما قد اعتمدت على المغامرة أو المراهنة ويفترض أنها فتحت أفقًا أوسع للعلاقات، لكنها في الواقع قد قللت من الهامش المتاح للحركة على الجانبين، فقبل توقيع الاتفاق النووي كان لدى الطرفين مساحات كبيرة للمناورة، إذ كان سقف العلاقة محكومًا بقضية السلاح النووي وبرغبة الطرفين في عدم الوصول إلى صدام مسلح، وهو ما كان يفرض على الجانبين إدارة تفاعلاتهما بما يضمن عدم الوصول إلى نقطة اللاعودة.
أما بعد توقيع الاتفاق النووي فقد اتسعت مساحة الخلاف بين الطرفين لتتخطى الخلاف حول الملف النووي وتشمل ملفات حيوية لها انعكاساتها على المصالح الحيوية للولايات الأميركية في المنطقة، وعلى التوازنات الدولية القائمة. ولهذا أصبح خيار المواجهة المسلحة، الذي كان مستبعدًا في ظل القدرة على إدارة تفاعلات الأزمة، بديلًا مطروحًا بقوة، بل بدأت بوادره في صورة مواجهات غير مباشرة على الساحة السورية أو في مياه الخليج العربي.
خاتمة
يمكن القول بأن الملف الإيراني في أروقة مؤسسات صنع القرار الأميركية يمر بمرحلة إعادة تقييم، وسوف ترسم ملامح السياسة الأميركية تجاه إيران في المستقبل على ضوء الفرصة التاريخية المطروحة أمام إيران في ظل الاتفاق النووي، وردود الفعل الإيرانية تجاه التعامل مع هذه الفرصة، ورؤية الولايات المتحدة لدورها في المنطقة في المستقبل إذا ما أصرت إيران على نهجها العدائي وسياساتها التوسعية.
والواضح أن الإدارة الأميركية الحالية بصدد الإبقاء على فرصة التفاهم لمرحلة قادمة، وذلك يأتي في سياق الرهان على النفاذ إلى الداخل الإيراني الذي ظل حصنًا منيعًا منذ قيام الثورة، والذي يبدو متأهبًا للتغيير وطامحًا إليه، فضلًا عن الرهان على حاجة إيران المُلحة إلى جذب مزيد من الاستثمارات، لا سيما في قطاعي النفط والغاز اللذين يشكلان أكبر من نصف الموازنة العامة للدولة، وذلك لمعالجة الآثار الوخيمة على اقتصادها الوطني من جراء العزلة وسياسات الحصار التي فُرضت عليها بسبب برنامجها النووي لسنوات طويلة. لكن مع احتفاظ الولايات المتحدة بفرض مزيد من العقوبات والضغوط التي قد تسهم في إقناع إيران بتعديل سلوكها، لا سيما أن الإدارة الجديدة قد عادت للانخراط بقوة في ملفات المنطقة.
وإذا ما أصرت إيران على العمل خارج التفاهمات الأميركية وأخلت بروح الاتفاق النووي كما يقول الأميركيون، فإنها سوف تواجه تحديات كبيرة في ما يتعلق باحتمال العودة إلى مربع العزلة، وخنق اقتصادها الوطني، وتوجيه ضربات مؤلمة لمصالحها في المنطقة، وربما لو فكرت في أي رد فعل غير محسوب من قبيل استهداف المصالح الأميركية أو العودة إلى النشاط النووي فإنها قد تواجه بالخيار الذي ظل مستبعدًا طوال عقود، وهو الخيار العسكري. فليس من الوارد أن تترك الولايات المتحدة مصالحها عُرضة للتداعيات المحتملة لعلاقات إيران المتطورة مع روسيا استراتيجيا ومع الصين اقتصاديا. فرغم الخلافات الروسية الإيرانية وتضارب المصالح الذي قد يغير من طبيعة العلاقة في المستقبل، لكن يظل تنسيق المواقف لمواجهة الولايات المتحدة عنصرًا قابلًا للاستمرارية وله تداعياته الكبيرة على المصالح الأميركية. وفي اتجاه آخر تراوغ إيران للإفلات من التغيير الذي تنشده عبر الرهان على دفع الاقتصاد الإيراني لشراكة مع قوى السوق العالمية من خلال بناء شراكة اقتصادية استراتيجية مع الصين، وهذا يمثل بدائل قد تسهم في فشل السياسات الأميركية في احتواء خطر إيران.
في هذا الصدد قد نفهم قرارات الكونغرس بتوقيع عقوبات مشتركة على كل من روسيا وإيران، وذلك بالخلاف للموقف المعلن في أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة والتي كانت تطرح تشددًا أميركيا مع إيران وتحسين في العلاقات مع روسيا، كما قد نفهم التحذيرات من هيمنة صينية على الاقتصاد الإيراني في ظل غياب أميركي في هذا الصدد، والذي يُعد لب الرهان الأميركي على تغيير سلوك إيران.
وليس من المقنع كما يرى البعض أن هناك انقلابًا استراتيجيا في العقل الأميركي باتجاه التعاون مع إيران، فإيران بعقيدتها المعادية للولايات المتحدة، وبنظامها الذي يبني شرعيته على أساس هذا العداء، وبسعيها لامتلاك عناصر القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية تحت مظلة الثورة وطموحات التوسع، واستمرارها على هذا النهج، لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون حليفًا للولايات المتحدة أو شريكًا، والانفتاح الظاهر في السياسة الأميركية منذ فترة أوباما كان اختبارًا ثبت فشله، والإدارة الجديدة تعالج أوجه القصور في هذا التوجه ولا تستبعد اللجوء إلى أي خيارات أخرى.
وأخيرًا.. ليس من الوارد أن تسمح السياسة الأميركية حتى عند أقصى درجات انفتاحها وتسامحها بأن تتحول إيران إلى دولة أمة أو عاصمة قومية للشيعة في المنطقة، فهي عند أقصى تقدير يمكن السماح لها بأن تكون دولة ضمن القوى الإقليمية الأخرى، وموازنًا في المنطقة يخدم الأهداف الأميركية، كما كانت في مرحلة ما قبل الثورة، فإيران في العقل الاستراتيجي الأميركي حتمًا يجب أن تعود إلى حدودها كدولة غير ثورية وغير أممية.