السُّلطة ومنطق الانقلابات في إفريقيا

https://rasanah-iiis.org/?p=32191

بواسطةيوسف أقرقاش

«في إفريقيا، كل من يستيقظ باكرًا يستطيع أن يُقيم انقلابًا». كانت هذه العبارة أهمّ ما حفظتُه عن أستاذ مادة الاجتماعيات (التاريخ والجغرافيا)، عندما كنت أدرُس في السلك الثانوي التأهيلي. ورُبَّما كان تواتُر أحداث الانقلابات العسكرية في بعض الدول الإفريقية، وسهولة الكيفية التي تحدُث بها، السبب الذي جعلني أحفظ عن ظهر قلب العبارة السابقة حتى يومنا هذا، فهل بالفعل الانقلابات ظاهرة إفريقية خالصة؟

يفهم الغالبية من الناس، ومنهم حتى المهتمُّون بالشأن السياسي، من لفظ الانقلاب coup d’État «الاستيلاء على السلطة بالقوة»، وهو التحديد الذي نتعلَّمه داخل فصول الدراسة، ويتكرَّر على مسامعنا كلَّما طفا الصراع على السُّلطة إلى السطح، لكن هل يمكن للسلطة أن تتحقَّق دون صراع ودون اللجوء إلى القوة؟ أوليست القواعد التي يُحتكَم إليها في مجال التدبير السياسي هي دائمًا من صُنع السادة الأقوياء؟

إنَّنا نغفل في الواقع كثيرًا من حقيقة السُّلطة حين نقرِن هذه الأخيرة بالقانون والمؤسَّسة، أو حين نختزلها في مجموع قواعد الانتخاب والتصويت وما تسفر عنه صناديق الاقتراع، كما نغفل عن كثير من جوهرها، حين لا نستوعبها إلا باستحضار التراتبية اللازمة بين الممسِكين بزمامها، وفق ما يقتضيه سيْر المرفق العام. ولو شئنا أن نختزل السُّلطة في مثل هذه القواعد أو هذه التحديدات، فلن يتعدَّى تاريخ السُّلطة تاريخ نظرية العقد الاجتماعي، بينما نحن نعرف أنَّ السلطة أقدم من أيّ «عقد»، ورُبّما لم تكُن نظرية العقد الاجتماعي إلا تبريرًا لسُلطة قائمة الذات.

إذا كانت فكرة التعاقد لم تظهر في المجال السياسي إلا خلال القرن السابع عشر، فقبل ذلك بقليل لم يكن كُتّاب السياسة يجدُون حرجًا في الربط بين السُّلطة والقوة، ولم يكُن أحد يعيب على القادة السياسيين الاستيلاء على السلطة بالقوة، بل أُلِّف كثير من الكُتُب في «فن الحُكم»، وهي أشبه ما تكون بكرّاسات لتعليم القادة السياسيين السُبُل الكفيلة بالوصول إلى السُّلطة والحفاظ عليها. وكثيرًا ما كان يُشار إلى ذلك في مقدِّمة هذه الكتب، كما هو الحال بالنسبة لمضمون الإهداء، الذي استهلَّ به نيكولا ميكيافيلي N. Machiavel (1469-1527م) مؤلَّفه الشهير المُعنوَن بـ«الأمير»، وقد ردَّ على النصائح، التي ضمَّها هذا الكتاب، مُنتقِدًا المفكِّر الإيطالي جيوفاني بوتيرو G. Botero (1544-1617م) بكتاب آخر سمّاه «منطق الدولة raison d’État». وفي تعريفه هذا العنوان يقول: «الدولة إمارة مُستقواة على الشعوب، ومنطق الدولة هو معرفة الوسائل الخالصة لتأسيس وحفظ وتنمية هذه الإمارة»، وقد وَرَد ذلك في الفصل الأول من الكتاب الأول من هذا المؤلَّف.

في الواقع، لا يوجد اختلاف كبير بين الصورة، التي ينظر بها كلُّ من ميكيافيلي وبوتيرو إلى السُّلطة، فهي تأسيسٌ وحفظٌ، أي إنَّها وصولٌ إلى السُّلطة وبقاءٌ فيها، وإن كان الثاني يتميَّز من سابقَيه بكونه يضيف شرط التنمية إلى محدِّدات السلطة، وهو أمرٌ يرتبط أساسًا ببداية نزوع الحُكم نحو الاستقرار والمأْسسة وانفتاحه على الاقتصاد، غير أنَّ ما يهمّنا من تعريف صاحبنا هو الجزء الأول الذي يُشير فيه إلى تعريف الدولة (الإمارة آنذاك)، لأنَّه قد يساعدنا كثيرًا على فهم حقيقة السُّلطة ومعنى «الانقلاب» عليها، لكن قبل الخوض في تفاصيل هذا الأمر، لنعُدْ أولًا إلى التعريف الذي خصَّ به مصطلح منطق الدولة.

لقد كتب بوتيرو مؤلَّفه الشهير «منطق الدولة» لوجود سوء فهم كبير حول هذا المصطلح، على الرغم من أنَّه كان يجري على لسان الجميع في عصره، العامَّة منهم والخاصَّة، كما يصرِّح هو نفسه بذلك في مقدِّمة الكتاب. وحين يقول الرجل إنَّ «منطق الدولة هو معرفة الوسائل الخالصة لتأسيس وحفظ وتنمية هذه الإمارة»، فمعنى ذلك، في سياق عصر النهضة، أنَّ هذه المعرفة تقع على عاتق القادة السياسيين بالدرجة الأولى، فكيف يحافظ الأمراء على الإمارة/السُّلطة بموجب «منطق الدولة»؟

بالرجوع إلى ميكيافيلي، قد تكون الإجابة عن هذا السؤال سهلة، لأنَّ المفكِّر الحكيم، في نظره، «لا يدين أبدًا من يستعمل وسائل غير عادية لإعادة ملكية أو لتأسيس جمهورية»، وفق ما تُصرِّح به هلين فدرين Hélène Védrine (2019 – 1926م) في كتابها عن ميكيافيلي، الذي يحمل الاسم نفسه عنوانًا له. لكن حتى بوتيرو نفسه، الذي كتب «منطق الدولة» للردّ على كتاب «الأمير»، لا يفصل بين السُّلطة والحق في اللجوء إلى القوة، فما السُّلطة في حسبانه إلّا «استقواء على الشعوب»، وفق الجزء الأول من التعريف المُشار إليه سابقًا. وحين نقرِن هذا التحديد بما يستوجبه «منطق الدولة»، فالتحديد لا يستبعد اللجوء إلى الوسائل غير الشرعية للوصول إلى السُّلطة والحفاظ عليها.

غير أنَّ هذا الاقتران بين السُّلطة والحق في اللجوء إلى القوة لا يعني أنَّ السُّلطة حق مُطلَق، إذ لم يكُن أحد من القادة السياسيين حتى عصر النهضة يملك الحق في تشريع القوانين، لأنَّ هذا الحق حِكرٌ على الجماعة وحدها. إذًا، كيف يستقيم القول إنَّ السلطة «استقواء» لكنها في الآن نفسه تفتقر إلى الحق في التشريع؟ قد يكون، دون الإجابة عن هذا السؤال، من المتعذَّر فهم ما المقصود حقيقة بمصطلح «منطق الدولة» وباقي المفاهيم التي ابتُدِعت خلال عصر النهضة، ولعلَّ أهمَّها مفهوم «الانقلاب» coup d’État.

قبل أن يظهر مصطلح منطق الدولة، وُجدت قاعدة عامَّة تقضي بأنَّه من حق رجال السُّلطة وقف العمل بالقواعد المُؤطِّرة للمجال العام (قوانين الجماعة) حين تستدعي الضرورة ذلك، لأنَّ «الضرورة لا تعرف قانونًا» (necessitas non habet legem)، كما كان يُقال آنذاك. غير أنَّه بابتداع مبدأ منطق الدولة، صار أفق تأويل مفهوم الضرورة واسعًا، إذ لم يعُد يقتصر على ظروف الحرب وبعض الأزمات، التي يمكن أن تصيب الجماعة، بل اتّسع نطاقه ليشمل مصلحة الأمراء وأمنهم الشخصي. وحين يرتبط الأمر بأمن الأمير فمن الصعب جدًّا التمييز بين أمن القادة السياسيين وأمن البلد ككُل (وهي الصعوبة التي يقتضيها تحديد دلالة مصطلح الأمن القومي في عصرنا الحالي)، لذلك سيجِد المنظِّرون لمبدأ منطق الدولة صعوباتٍ جمَّة في تقنين الحالات التي تستدعي أو لا تستدعي العمل بهذا المبدأ، كما سيجِد أولو الأمر ألف مبرِّر للاهتداء إليه.

يقتضي إذًا مبدأ منطق الدولة، في عموميته، وقْف سريان القانون وفق ما تقتضيه مصلحة الجماعة أو أمن البلد ككُل، غير أنَّه لا يسمح باتّخاذ إجراءات ضّد الجماعة أو ضدّ أحد أعضائها دون وجه حق، وهو ما حاول بوتيرو أن يبيِّنه في الكتاب المُشار إليه سابقًا. بيْد أنَّه إذا كان هذا المبدأ لا يسمح بهامش كبير لتصرُّف القادة السياسيين، فإنَّ هؤلاء القادة سيجدون ضالّتهم في مبدأ آخر، وهو المبدأ الذي سُمِّي آنذاك بـ«الانقلاب» coup d’État، والذي حُدِّد باعتباره، كما أورد ذلك مشيل سينيلار Michel Senellart (أستاذ الفلسفة بالمدرسة العُليا للأساتذة بمدينة ليون الفرنسية) في كتابه «الميكيافيلية ودواعي المصلحة العُليا» (machiavélisme et raison d’État)، «تجاوزات للحق العام بسبب الخير العام»، وإن كان نادرًا ما يُلجَأ إلى هذا المبدأ خلال عصر النهضة، إلى درجة أنَّه شُبِّهت فيه الحاجة إليه بالحاجة إلى «نزْع ضرس أو علاج بالكَيّ». وإذا كان هذا هو المعنى الأصلي للفظ «الانقلاب»، فما علاقته بالانقلابات داخل الدولة الدستورية؟ وهل بالفعل ظاهرة الانقلابات حِكرًا على الدول الإفريقية وحدها؟

لقد كانت المبادئ الثلاثة السابقة شائعة على مستوى الجدل السياسي خلال عصر النهضة، غير أنَّ استحضارها في الفكر السياسي بدأ يقِلّ مع ظهور المؤلَّف الشهير لجون بودان J. Bodin (1529- 1596) الموسوم بـ«كُتُب الجمهورية الستة»، فما عَلاقة هذا الكتاب باختفاء مبادئ وقف سريان القانون؟

إذا تريَّثنا قليلًا في الإجابة عن هذا السؤال، وعُدنا من جديد إلى ميكيافيلي، فقد يكون من غير المُستساغ التقليل من أهمِّيته في نشأة الفكر السياسي الحديث، لكن قد نبالغ في الآن نفسه إنْ نحن نسبنا إليه فكرة نشوء «الدولة الحديثة»، أي النظام السياسي القائم على مبدأ وحدة السيادة، لأنَّه من المعلوم أنَّ بودان هو صاحب هذا المبدأ. وحين يتحدَّث صاحبنا عن السيادة فهو لا يقصد بها صورة الحُكم، أو الكيفية التي «يسير بها الأمير إلى رعايا»، لأنَّه من الممكن أن يُوكل هذا الأمر إلى أيّ جهة كانت، غير أنَّ سُلطة القرار السياسي لا يمكن أن تُفوَّض أو تُوكَل إلى أيّ جهة ما دام هذا الحق من اختصاص الهيئة السيادية (العاهل) وحدها. لذلك لا نستغرب أن يُحدِّد بودان السيادة في مؤلَّفه السابق الذكر، ضمن الفصل الثامن من الكتاب الأول، باعتبارها «القوة المُطلَقة والدائمة للجمهورية»، فماذا يقصد الرجل بهذا التحديد؟

لقد أشرنا من قبل إلى أنَّه ليس من حق أمراء عصر النهضة الانفراد بسُلطة تشريع القوانين، فهذا الحق من نصيب الجماعة، التي لا يمكن تجاهلها، حين يتعلَّق الأمر بوجودها ومصيرها، لكن في المقابل كان بإمكان هؤلاء الأمراء، بفضل مبادئ «الضرورة» و«منطق الدولة» و«الانقلاب»، وقف العمل بمبادئ الحق العام مؤقَّتًا، من أجل إتاحة الفرصة للممسِكين بالسُلطة لإجراء أمور مخالفة لقوانين الجماعة. بلغة معاصرة، يمكن القول إنَّ المبادئ السابقة بمثابة إعلان حالة الطوارئ (الاستثناء) état d’urgence، وإن كانت هذه الحالة آنذاك مؤقَّتة ولظروف خاصَّة، غير أنَّه بظهور مبدأ وحدة السيادة صار الاستثناء قاعدة، وصارت الظروف الخاصَّة ظروفًا دائمة.. وهكذا بات من حق الأمراء والملوك، خصوصًا بعد معاهدة ويستفاليا Westphalie (1648م)، الانفراد بالقرار السياسي، بشكل دائم، في كل ما يرتبط بالسيادة، خصوصًا ما اتّصل منها بأمور الحرب والسلام والضرائب والتشريع والعقاب. بتعبير آخر، إنَّ الانقلاب (باعتباره تجاوزات للحق العام بسبب الخير العام)، الذي كان بمثابة «نزْع ضرس أو علاج بالكيّ»، صار هو الوضع الطبيعي داخل الأنظمة الدوْلَتِية systèmes étatiques (الأنظمة السياسية القائمة على مبدأ وحدة السيادة).

وبعد أن اكتسب مبدأ وحدة السيادة شرعيته بفضل معاهدة ويستفاليا، بات من المتعذَّر على المرء أن يخطو خطوة إلى الوراء في المجال السياسي، ولم يعُد بوسع المفكِّرين والفلاسفة إلا تبرير هذا الوضع نظريًّا. من هُنا جاءت نظرية العقد الاجتماعي، التي جعلت من الدولة الدستورية انقلابًا دائمًا وأبديًّا، خصوصًا مع ابتداع مبدأ الأقلِّية والأغلبية، باعتباره القاعدة التي لا غِنى عنها حين يتعلَّق الأمر بالتشريع، بعد رسوخ فكرة الدساتير في التدبير السياسي.

وبهذا يمكن القول إنَّ انقلاب النيجر، وما سبقه أو ما سيتلوه من انقلابات، ليس في الواقع إلا صورًا متجدِّدة للانقلاب الأول، الذي بدأ بفكرة حالة الاستثناء (وقف سريان مبادئ الحق العام)، والذي ترسَّخ بشكل لا رجعة فيه مع مبدأ وحدة السيادة، الذي تُقِرُّه وتحفظه الدساتير الحديثة والمعاصرة. لذلك فالانقلابات ليست حِكرًا على الدول الإفريقية وحدها، وإنَّما هي قاعدة (بعد أن كانت استثناء) لا غِنى عنها في التدبير السياسي داخل الأنظمة الدوْلَتِية. وإذا وُجد اختلاف بين ما يحصل في إفريقيا وما يحصل خارجها، فالأمر لا يعدو أن يكون اختلافًا حول الكيفية، التي نُبرِّر بها دوام الاستثناء، وسواء امتطى هذا المبرِّر ظهر دبّابة أو خرج من صناديق الاقتراع، فالنتيجة واحدة: «لا بديل عن السُّلطة إلّا الفوضى»، كما يحلو للسياسيين أن يردِّدوا دون ملل، وإنْ كان لسان حالهم يقول: «إما نحن وإما الطوفان!».


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

يوسف أقرقاش
يوسف أقرقاش
باحث في الفلسفة السياسية