يبدو أن الحركة الاحتجاجية الحالية في إيران جاءت نتيجةً لرفض النظام الإيراني الأخذ في الحسبان التحولات الاجتماعية التي تشهدها البلاد منذ عام 1979م. وقد تُفضي هذه التحولات إلى نتائج مختلفة، مثل: استمرار الوضع الراهن، أو تولِّي حكومة عسكرية زمام الأمور، أو على المدى البعيد إنشاء نظام سياسيّ علمانيّ جديد.
تُعَدّ الحركة الثورية لخريف هذا العام 2022م مؤشرًا على السخط الكامن في نفوس الإيرانيين منذ عام 1979م، وعصارة للحركات الاحتجاجية السابقة (مثل تلك التي هبَّت سابقًا من أجل المساواة بين الجنسين، وحقوق الأقلِّيات، والتحرُّر السياسي، ومطالب بتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية)، إلا أن البُعد الثوري لحركة الاحتجاجات الحالية يُمكِّننا من مقارنتها -إلى حدٍّ ما- بالوضع الذي شهدته إيران في عامَي 1977 و1978م؛ حينها كان مفهوم الثورة يدور حول «التفكير في ما لا يمكن تصوُّره». الشاهد أنّ الدبلوماسيين الغربيين لم يتصوّروا احتمالية سقوط نظام بهلوي إلا قبل أربعة أشهُر فقط. ويمكن تفسير عدم قدرة المراقبين آنذاك على التوقُّع باكرًا لسقوط النظام الملكي الإيراني بثلاثة أخطاء في التحليل، نلخِّصها كالتالي:
أولًا: بالغت أجهزة المخابرات الأمريكية في تقدير قوة أجهزة أمن الدولة التابعة للشاه، التي تصدَّت للانتفاضة الإيرانية الشعبية. وهذا المشهد يتكرَّر هذه الأيام، إذ يجري تضخيم قوة «الجمهورية الإسلامية» إلى حدٍّ كبير. لكن ثمَّة اختلاف ملحوظ عمّا جرى في الماضي، فلم يأمر الشاه في عام 1978م بشنّ حملة مكثَّفة لقمع المتظاهرين، ولم يقبل بتشكيل مجلس عسكري في إيران. أما في احتجاجات 2022م فقد أصدرت أعلى سلطات الدولة الإيرانية أوامر بقتل المتظاهرين، نفَّذتها الأجهزة الأمنية المختلفة في كل أرجاء البلاد.
وفي هذا السياق يبرُز سؤال مهمّ، وهو: إذا طال أمَد المظاهرات، فهل سيستمرّ أفراد قوّات الأمن الإيرانية بتنفيذ أوامر قتل المتظاهرين دون تفكير، أم أنهم سيعارضون هذه الأوامر؟ بصورةٍ عامّة، يُشكِّل النهج الأمني للدولة الإيرانية نقطة قوةٍ ونقطة ضعفٍ أيضًا للنُّخبة السياسية والدينية، نقطة قوة لأنها وسيلة لضمان بقاء النظام السياسي، ونقطة ضعف لما ينطوي عليه القمع من تكاليف سياسية واقتصادية، وما يؤجِّج لمزيدٍ من السخط الشعبي والانتفاضات ضد الوضع السياسي والاقتصادي الراهن في البلاد.
ثانيًا: لم يكُن المراقبون الغربيون آنذاك قادرين على إيجاد حركات معارضة أو قادة سياسيين آخرين لتغيير النظام. قبل عام 1979م، كان بعض الأكاديميين الغربيين يعتبرون آية الله الخميني «غاندي إيران»، وكانوا يتوقعون أنه سينخرط في النشاط الديني والروحي في مدينتَي قُم والنجف، ولن يشارك في السياسة اليومية للنظام الثوري الجديد بعد سقوط الشاه. وفي عام 2022م يواجه المراقبون الغربيون نفس الصعوبة، وهي إيجاد أيّ بديل سياسي للنظام الحالي.
يركِّز الخطاب السائد على عدم وجود بدائل بين القوى السياسية الإيرانية المتمركزة داخل إيران، لا سيما أن نظام الخميني قضى على كل قوى المعارضة داخل البلاد بين عامَي 1979 و1982م. لكن يجدُر بنا هُنا الإشارة إلى الدور المحوري الذي يلعبه الإيرانيون في المهجر، إذ تستطيع القوى السياسية الإيرانية خارج إيران الاستفادة من المساحات السياسية والإعلامية المفتوحة، التي أتاحها الغرب لسرْد روايتهم عن الاحتجاجات الإيرانية الحالية.
ومع ذلك، تواجه القوى السياسية في المهجر أيضًا عقبة كبيرة، فهي لا تستطيع الاضطلاع بدور أكبر، والانتقال من مجرد نقل صورة الاحتجاجات للخارج إلى قيادة وتوجيه الاحتجاجات في الداخل. ومع ذلك يظل دورها في إيصال صوت المحتجين إلى الخارج مهمًّا جدًّا، ما دفع السلطات الإيرانية إلى تصعيد استهدافها لوسائل الإعلام الناطقة باللغة الفارسية الموجودة خارج إيران، إذ تعرَّضت كل من إذاعة «صوت أمريكا»، و«بي بي سي» الفارسية، وقناة «إيران إنترناشيونال»، التي تتّخِذ من لندن مقرًّا لها، للمضايقات والترهيب على يد النظام الإيراني.
أخيرًا، سبق أن أُعلِن عن سقوط نظام الشاه في عدة مناسبات بين عامَي 1953 و1978م. ويمكن أن ينطبق هذا الوضع على النظام الإيراني الحالي، لأنه أيضًا أُعلن عن سقوط نظام الخميني عدَّة مرات منذ عام 1982م. والآن تسود شكوك واسعة النطاق حول «بداية النهاية» للنظام السياسي في إيران. أما النظام الإيراني فيعوِّل على ربط ما يحدث في إيران مع نتائج الثورتين من سوريا وليبيا في عام 2011م، سعيًا منه لإثارة المخاوف، والتشكيك في إمكانية قيام دولة إيرانية ما بعد «الجمهورية الإسلامية».
الأمر غير المسبوق اليوم هو النقاش الدائر في الغرب حول تغيُّر النظام في إيران، وبالتحديد: هل سيكون هذا التغيُّر بالانتقال إلى دولة عسكرية أم علمانية؟ إنّ مجرَّد تداوُل هذا النقاش يدُلّ على حدَّة الاحتجاجات الحالية. لكن من السابق لأوانه تحديد السيناريو السائد مستقبلًا، ولعل بقاء الوضع السياسي والاقتصادي الراهن على حاله هو السناريو الأقوى على المدى القصير.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد