يظل الحديث عن مستقبل العلاقات الخليجية – الإيرانية بدون نظام ولاية الفقيه أو مع قيادة جماعية لمؤسسة الولي الفقيه مجرد حديث افتراضي واستشرافي إلى حد كبير، فلا يزال الولي الفقيه، آية الله علي خامنئي، على رأس السلطة والإرشاد في الدولة الإيرانية، كما أن التفكير في جماعية القيادة مسألة سابقة لأوانها كثيراً، وقد لا تتحقق في الأمد المنظور، بالنظر إلى تركيبة الدولة وتغلغل المحافظين في المفاصل والمؤسسات الحيوية، وهي المترصدة لأي اتجاه تغييري وتقوم بغربلة للمؤسسات على نحو يحول تماماً دون تغييرها رغماً عنها أو تركها لنتاج فرز انتخابي تلقائي.
ومع ذلك فإن الحديث عن مستقبل “الولي الفقيه” هو من الأحاديث التي ترددت في الآونة الأخيرة، خصوصاً بعدما جدد الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني طرحه القديم حول إحلال قيادة جماعية للجمهورية الإسلامية في حال خلو منصب المرشد. حين تساءل عن مستقبل ولاية الفقيه قائلاً: “لو توفي آية الله خامنئي غداً، هل هناك من يحظى بالخلفية الثورية والاجتهاد.. ليصبح خليفة له؟”، ولم يكن طرح رفسنجاني هذا جديداً مطلقاً، فقد كان هو نفسه قد طرحه في العام 1979 عندما تمت كتابة دستور الجمهورية الإسلامية.
إن السؤال الذي تطرحه هذه الورقة حول الاحتمالات والسيناريوهات المتوقعة للعلاقات الخليجية – الإيرانية إذا افترضنا نجاح التيار الداعي إلى جماعية القيادة في منصب ولاية الفقيه، ما توجهات السياسة الإيرانية في ظل القيادة الجماعية؟ وما أشكال وصور تغييرها واستمراريتها؟ وهل يعود ذلك بالإيجاب أم بالسلب على علاقات دول الخليج العربية وإيران؟ الإجابة على هذه التساؤلات تتطلب معرفة وضعية ولاية الفقيه الفرد، وكيف تختلف عن الولاية الجماعية، ودور الولي الفقيه في النظام، وأي من أدواره هذه له علاقة بالسياسة الخارجية وبالعلاقات مع دول الخليج؟
أولا: صلاحيات الولي الفقيه:
منح الدستور الإيراني للولي الفقيه (المرشد الأعلى) سلطات كبيرة على مؤسسات الدولة جميعها، فهناك نحو 11 صلاحية ووظيفة له فصلتها المادة 111 من الدستور، تتمثل في: (1) تعيين السياسات العامة، و(2) الإشراف على حسن إجراء السياسات العامة، و(3) إصدار الأمر بالاستفتاء العام، و(4) القيادة العامة للقوات المسلحة، و(5) إعلان الحرب والسلام والنفير العام، و(6) نصب وعزل وقبول استقالة كل من: فقهاء مجلس صيانة الدستور، وأعلى مسؤول فـي السلطة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ورئيس أركان القيادة المشتركة، والقائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية، والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي، و(7) حل الاختلافات وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث، و(8) حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية، و(9) إمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب، و(10) عزل رئيس الجمهورية ..، و(11) العفو أو التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم فـي إطار الموازين الإسلامية. (تصميم)
وكما يتضح من هذه الصلاحيات، فإنها تفوق صلاحيات رئيس الدولة في أي نظام سياسي، ويصعب أن يقوم بأدائها أي فرد منفرداً، كما يصعب أن يلم بها رجل دين، وهو أمر لمسه الخميني نفسه، حين بعث برسالة إلى علماء الدين قبل موته دعاهم فيها إلى تخفيف شروط المرجعية الواردة في الدستور في ما يتعلق باختيار المرشد الأعلى الجديد، والتي منها أن “يمتلك بصيرة سياسية واقتصادية واجتماعية نافذة”، مؤكداً أن هذه “لا يتمتع بها كبار السن وكبار علماء الدين البعيدين عادة من المشهد السياسي”. ولقد أضاف إلى هذا التعقيد الخاص بولاية الفقيه أنه مع المكانة الروحية والدينية لقائد الثورة حدثت عملية من الدمج بين المرجعية الدينية والمرجعية السياسية، وتداخلت الخيوط بين ما هو ديني وسياسي انتهى بالولي الفقيه إلى مقام القداسة، وأصبحت صلاحيات مطلقة. فقد جعل الخميني نفسه نائباً للإمام الغائب، له أن يشرع بحرية مطلقة تستمد شرعيتها من شرعية الإمام، واعتبر أن ولاية الفقيه هي الولاية نفسها التي أعطاها الله إلى النبي محمد والأئمة المعصومين، إذ يقول: (إن الرادّ على الفقيه الحاكم يعد رادّاً على الإمام، والرد على الإمام كالرد على الله، والردّ على الله يقع في حدود الشرك بالله)، ومعنى هذا إعطاء الولي الفقيه العصمة الكاملة.
لم تنحصر أخطاء الولي الفقيه في عدم تمكنه كفرد من الإنزال الصحيح للأحكام على الواقع بسبب في قراءته الأيديولوجية الجامدة للواقع، ولكن انتهت ممارساته بأن جعلت الشعب والمؤسسات يرتمون في أحضانه وتحت عباءته المقدسة ثقة باستلهامه الأحكام من الله، ومن ثم دخلت دولة الثورة في مشكلات هائلة خلال السنوات العشر الأولى بعد أن أصيبت بنكسات شديدة، دفعت إليها سيادة حالة من الوهم الجماعي بقداسة وعصمة الخميني، انتهت إلى أخطاء في حق الدولة والمجتمع والمؤسسات والجيش، واعتراف بالهزيمة على يد نظام صدام حسين البعثي. وانتهت مرحلة الخميني بأن طالت نظام ولاية الفقيه ما طالته من ثقوب نالت من هيبته وقداسته ومقامه الديني. وبالتأكيد أن المجتمع والدولة لم يكن بإمكانهما استيعاب نتائج الحرب مع العراق، وأنهما خضعا لكم هائل من الدعاية المؤسسة على فكر المؤامرة لاستيعاب واقع هزيمة قوة الخير (التي يمثلونها)، على يد قوة الشر المتمثلة في دولة البعث.
وفي عهد علي خامنئي لم تسلم ولاية الفقيه من الأخطاء، وعلى الرغم من أنه لم ينل ما ناله الخميني من قداسة ومكانة روحية، إلا أنه احتفظ بصلاحيات شبه مطلقة بمقتضى الدستور؛ وفي عهده دخلت الدولة في صراع ما بين الشريعة والعرف المتمثل بالمصالح والحاجات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فاستعمل مبدأ المصلحة لتمكين نفسه من الولاية المطلقة، وهو ما جاء على حساب ثوابت قومية ومذهبية، هكذا دخلت إيران في موجة جديدة طغت فيها مقتضيات الدولة على الثورة والمذهب، واضطرت فيها إلى إجراء مواءمات كثيرة سواء مع الجوار، أو في الصراع مع قوى الاستكبار الدولي، وتفاوضت مع الشيطان الأكبر، وكلها كانت ملامح على اتجاهات جديدة غلبت الواقع على الأيديولوجيا والمثال.
ثانيا: سيناريوهات تحولات القيادة:
هناك ثلاث صور يمكن أن يحدث بها التحول في القيادة ومنصب الولي الفقيه على النحو الآتي:
الصورة الأولى، أن يحدث التحول من خلال الآليات السلمية الطبيعية المتوافرة داخل النظام وعبر أجهزته وعلى نحو دستوري، فخلال الفترة المقبلة سوف تزداد الضغوط من أجل اختيار مرشح بديل لعلي خامنئي، سواء في ظل وجوده ومرضه أو في ظل رحيله، وهذا البديل أو السيناريو وإن كان مطروحاً على نحو ما اقترحه رفسنجاني، إلا أن احتمالات تحققه ضعيفة جداً، حيث إنه من الصعب أن تتنازل المؤسسات المحافظة التي يقف المرشد على رأس هرمها السياسي طواعية لتغيير يقضي على رأسها ويخضع أسرارها وأنشطتها وميزانياتها للمحاسبية والرقابة عبر مجلس جماعي، ولذلك فقد جوبه هذا الاقتراح برفض شديد من قبل أنصار خامنئي الذين هددوا رفسنجاني بالإقامة الجبرية ليلقى مصير آية الله حسين علي منتظري (خليفة الخميني مؤسس الجمهورية) الذي تم عزله ومات تحت الإقامة الجبرية.
وعلى الأرجح ألا يحدث هذا السيناريو لأنه سيدخل البلاد بمقتضاه في صراعات كثيرة، ولأن الصراع حوله يتجاوز الإيمان به أو بمبدأ عقيدي خلفه، وإنما ينطوي على صراعات مصالح هائلة. وضمن هذا السيناريو أيضاً يمكن تصور احتمال أن تقدم القوى المحافظة نفسها على تبني تعديلات دستورية من شأنها تقليص صلاحيات المرشد عبر إدخال تعديل على صلاحياته في الدستور يخفف العبء عنه، وذلك إذا وجدت أن هذا المنصب بالشكل الاعتيادي لم يعد مقبولاً وفق تطورات الواقع الإيراني، خصوصاً إذا جاء مرشد آخر أقل كفاءة دينية وسياسية من كل من الخميني وخامنئي، ومن ثم لا ينتهي إلى مقترح القيادة الجماعية، وإنما يجري توزيع سلطات القائد على أجهزة ومؤسسات أخرى، عبر إدخال تعديل طفيف في الدستور. ولكن لا يبدو أن هذا الاحتمال وارد في الأمد القصير.
الصورة الثانية، أن يأتي التغيير في نظام ولاية الفقيه من خلال تغيير عنيف وغير سلمي من داخل النظام، وليس من الخارج، بحيث تظل الأمور محكومة بالصراعات الداخلية، وهو ما يمكن أن يحدث لو تمكن الرئيس روحاني من فرض عملية تغيير فعلي وليس دستورياً في صلاحيات المرشد الجديد لعدم القدرة على التوافق مع سياساته، وهذا ما يمكن أن يحدث لو شعر بالعجز التام عن تطبيق برنامجه، وذلك من خلال التهديد باللجوء إلى الخيار الشعبي أو يدخل معه في صدام علني، وتصعيد إجراءاته المقاومة لسياسة المرشد، وهو ما يعني أن يدخل الطرفان في صدام كبير، وأن يستهدف الرئيس حسم مسألة احتاجت إلى الحسم طويلاً في إيران، وهي أن الحكومات المنتخبة والرئيس المنتخب مغللة يدها، بينما الأجهزة غير المنتخبة هي التي تتحكم بالقرار، وأنه من الناحية الفعلية يشكل أضعف حلقات النظام السياسي.
أما الصورة الثالثة فلا تعني سوى السيناريو الشعبي الاجتماعي، بأن تشهد إيران أحداثاً مماثلة لما شهدته دول عربية في الأعوام الأخيرة، وأن تكون إيران على موعد مع ثورة جديدة. وهذا الأمر ليس مستبعداً تماماً لإدارة أوباما وعلى خلفية السياسات الغربية التي تتوغل في داخل المجتمعات حتى يخضع لها الداخل تماماً، فتبدأ في إحداث ثقوب فيه، وفي هذا الإطار لا يتوقع أن تظل عملية التحول السياسي محكومة بمسار منضبط مرسوم في عقل القيادات الإيرانية، وإنما قد تخرج الأمور عن حد السيطرة، ولا تستطيع الحكومة التحكم بمسار التغيير، وينتهي حال الجمهورية الإسلامية بعد سنوات إلى حال أشبه بمصر عند ثورة 25 يناير، حيث يخرج الشباب لينشد التغيير، وتبدأ دورة الاضطراب في إيران، وفي ظل هذا السيناريو يمكن تصور تغييرات من مستويات مختلفة، فبحكم تجربة إيران مع الثورة الإسلامية، فإنها قد لا تنتهي إلى تخلي تام عن الثورة، وإنما ثورة تصحيحية، تقف عند نقطة وسط بين الحفاظ على النظام بحكم قوة الدولة التي ستظل لديها قدرات على الضبط السياسي والاجتماعي، وبين الدعوات للعودة لمرحلة النقاء الثوري.
ثالثا: جماعية القيادة والسياسة الإيرانية:
في ضوء التحولات الهائلة في المشهد الإيراني، من الحوار مع الغرب، والاتفاق النووي، والحاجة للانفتاح على الخارج، والاستجابة للتحولات المجتمعية في الداخل، فإن التفكير في التحول إلى نظام جماعية القيادة، يشكل التسلسل المنطقي للتطور الطبيعي للنظام، فبعد أن كان النظام متماسكاً خلف أيديولوجية محددة، جوهرها مناصرة المستضعفين ومواجهة الشيطان الأكبر وتصدير الثورة، سوف تتعارض أغلب هذه الشعارات مع الاحتياجات القادمة للنظام، التي تدفعه إلى التواؤم مع القانون الدولي، ومطابقة سلوكه مع عالم الدول، وهي فترة سوف يحتاج فيها للجمع بين التمسك بالأيديولوجيا والانفتاح على ضرورات التغيير، وإذا كانت مؤسسة الولي الفقيه قد تأسست على شعارات ثورية وأيديولوجية، فقد شهدت الفترة الأخيرة من ولاية خامنئي، تبايناً شديداً بين الشعارات والواقع. ولقد ارتبطت المؤسسة بالتشدد والدفاع عن الحالة الثورية، وهي حالة ليس من الممكن الإبقاء عليها في ضوء المتغيرات الجديدة.
في سياق ما سبق، يمكن رصد ستة تأثيرات محتملة في حال مأسسة المنصب وحلول قيادة جماعية محل ولاية الفقيه، على النحو الآتي:
1- تأثير نزع القداسة عن المنصب: من شأن القيادة الجماعية لمنصب الولي الفقيه إنهاء الرمزية والمكانة الروحية للزعيم المتفرد في مكانته، وتشتيت هذه المكانة وإنزالها المنزلة البشرية دون إحاطتها بهالة من القداسة على نحو ما جرى مع الخميني والخامنئي، وإنهاء اعتبار ولاية الفقيه امتداداً أو بديلاً للإمام الغائب، ومن ثم يتحول منصب الولي الفقيه تدريجياً من مقام ديني مقدس إلى مقام بشري عادي، ومن ثم لا تكتسب تصريحات أعضائه أو مواقفهم الهالة التي لها الآن، وسوف تتعرض لنقاش مجتمعي وانتقادات أوسع، خصوصاً إذا اختلف أعضاء القيادة حول إدارة السياسة الخارجية للبلاد، وعلى الأرجح سوف تتراجع مكانة ومنزلة مجلس القيادة في تحديد التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية، وسوف ينتهي ربط السياسة الخارجية بالجانب الديني وبالمحرمات أو المحللات، وسوف تخضع قرارات القيادة الجماعية وتوجهاتها الخارجية لمصالح الدولة الإيرانية أكثر، وليس للأيديولوجيا الدينية. ومن ثم يتبدد التأثير الروحي لمقام الإرشاد، وتتراجع طاقة العداء الأيديولوجي والمذهبي لدول الخليج من جانب هذه المؤسسة.
2- تأثير تعدد التمثيل داخل المنصب: على الرغم من أنه يصعب تصور سيطرة الإصلاحيين أو حتى تمثيلهم في القيادة الجماعية لولاية الفقيه إذا جرى إقرارها، إلا أنه على الأرجح ألا تكون هذه المؤسسة حكراً على المحافظين والمتشددين، فحتى إذا لم يمثل الإصلاحيون في القيادة الجماعية، فإن جماعية القيادة تعني تغييراً في آلية اتخاذ القرار داخل المؤسسة الأولى التي تقع تماماً في حضن المحافظين لتتحول إلى وضعية يتخذ فيها القرار بالشورى وليس بالخيار الفردي، ومن شأن ذلك أن يخلق آراء متنوعة داخل القيادة، وهو ما يعني اقتراب القرار في أعلى قمة هرم السلطة من مصالح الدولة وليس الثورة، ويعني ذلك النأي بالقرار عن الخضوع لمزاجية الاندفاع المذهبي لزعيم أو قائد يعتقد أنه الحارس الأول والأخير عن المذهب، مما يعني تخفيض التوتر في المحيط الإقليمي. وفي التحليل الأخير، فإنه سيجعل مكتب الإرشاد إحدى حلقات الصراع في دوائر الحكم مثل مجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وسينزله من مقامه القداسي الرفيع إلى مقام دنيوي قابل للمساءلة والجدل.
3- فك طلاسم النظام ودوائره الضيقة: فعلى الأجدر أن تؤدي جماعية القيادة إلى فك طلاسم النظام وآليات صناعة القرار في الدخل، والعلاقات بين الأجهزة، خصوصاً تلك الخاضعة لولاية الفقيه، فهناك الكثير من الأجهزة الأمنية والعسكرية والسياسية الموازية الخاضعة للفقيه، والتي تأتمر بأمره ولا يعرف الكثير عن نشاطها، وهذه الأجهزة تمارس سياسات وعمليات في الخارج، لم يكن يطلع عليها إلا الولي الفقيه، ومن شأن جماعية القيادة أن تقلص وتحد من دور هذه الأجهزة، وأن تبسط قبضة النظام عليها، وأن يجري تقليم أظافرها وإعادة طرح أدوارها للنقاش العلني، وبالنظر إلى اعتيادها العمل مع زعيم واحد أوحد، فإنها قد لا تتحلى بالقدر نفسه من المرونة في ظل القيادة الجماعية، وفي ذلك جانب إيجابي وآخر سلبي، فإحساسها بغياب الولي الفقيه الرمز الفرد، قد يجعلها تتجه إلى العمل الانفرادي، ومن ثم تتجه بسياساتها إلى مهادنة دول الخليج لفترة مقبلة، كما ستكون القيادة الجماعية أقل قدرة وجرأة على تبني سياسات عدوانية في الخارج.
4- إعادة الاعتبار لمنصب الرئيس: من شأن جماعية القيادة في منصب الولي الفقيه، أن تعيد الاعتبار لمنصب الرئاسة، ففي ظل حلول قيادة جماعية، سوف يبرز منصب رئيس الجمهورية، والذي سيكون باستطاعته التأثير في بعض أعضاء القيادة، ومن ثم لن تكون علاقته بالإرشاد علاقة التابع أو الأدنى درجة في السلم القيادي، وعلى الأرجح سوف يتقلص موقع ومكانة ولاية الفقيه لمصلحة منصب الرئيس الذي سيظهر دوره الفعلي في صنع السياسات وتنفيذها، ومن شأن ذلك أن يعيد ضبط بوصلة إيران على مصالح الدولة وليس الثورة وضبط بوصلة الدولة على مسطرة المصالح الوطنية، كما أنه سيضيف إلى المنصب الرئاسي، خصوصاً وأن هالة الولي الفقيه سوف تتبدد مع حلول قيادة جماعية، ولن تكون حركة الجماعة بسلاسة حركة الفرد في ظل وضع القيادة الفردية، وهو ما يعني ربط السياسة الإيرانية أكثر بمصالح الدولة وليس بالأيديولوجيا، وتخلصها رويداً رويداً من سيطرة المحافظين والرؤى الجامدة، ومن ثم تراجع أدوار الأجهزة الأمنية والعسكرية الموازية، ما يعني تراجع التهديد على دول الخليج من سياسات ونشاطات الحرس الثوري.
5- خلق ضغوط على دول الخليج، يمكن لجماعية القيادة أن تنتهي إلى تغليب سياسات براجماتية في قمة هرم السلطة على نحو يكرس الاتساق في وحدة القرار الإيراني بالاتفاق مع الرئيس يفوق التوافق السابق بين الولي الفقيه الفرد والمحافظين والمؤسسات المتشددة، وهو ما قد يحقق مزيداً من التقارب مع الغرب في ظل الرغبة في الانفتاح الاقتصادي، وهو أمر يتفق مع طبيعة التغير في احتياجات المجتمع الإيراني على مدى السنوات الماضية، ورغبته في تجاوز مشكلاته الداخلية. وقد تنتهي الآلية الجماعية إلى وضع أشبه بهيئة المكتب السياسي الأعلى لتكون آلية لصناعة واتخاذ القرارات التي تعمل على تكريس نهج براجماتي معتدل. وإذا حدث ذلك فإنه قد يساعد على تحسين العلاقات مع دول الخليج لو اشتمل بنهجه البراجماتي الجوار الإقليمي، وتخلى عن مفاهيم الولاية المذهبية على الشيعة بالإقليم، ما أدى إلى تدمير علاقات إيران الخليجية على مدى السنوات الماضية. أما الوجه الآخر لهذا التحول، فهو أن تتجه القيادة الجماعية إلى إحلال التقدم في علاقات إيران بالغرب بمزيد من التشدد في علاقاتها مع الخليج.
6- تفكيك المنظومة والأبنية المحافظة: بشكل عام، فإن المرشد الأعلى لم يكن مجرد شخص الولي الفقيه، وإنما يتحرك في ظل شبكة مندمجة من الأفكار والأبنية والمؤسسات، ومن شأن التغيير في طبيعة وشكل المنصب أن يؤدي إلى تغيير في مجمل الهيكل والبنيان السياسي والديني الذي يعمل تحت سقفه، مما يعني الاتجاه في فترة تالية إلى التفكير في مستقبل ووضعية مؤسسات مثل الحرس الثوري ومجلس تشخيص مصلحة النظام، ومجلس الخبراء، ومجلس صيانة الدستور، فليس من المستبعد أن يؤدي بدء الانفتاح الغربي على إيران، وحاجة إيران إلى الاستثمار وإلى تدارك الأعوام الثلاثين الماضية أي تغيير في نظام الولي الفقيه إلى تغيير في مجمل المؤسسات التي ارتبطت بدوائر علاقات ومصالح معه، وإذا حدث ذلك، فإنه يعني أن يتراجع الدور الإيراني التدخلي العنيف والمذهبي في شؤون دول مجلس التعاون الخليجي، وأن تتقوض تماماً شعارات تصدير الثورة، وغيرها من أيديولوجيات هدامة، وهو ما سينعكس بالإيجاب على الاستقرار السياسي في دول الخليج العربية.