تحميل الدراسة بصيغة PDF
العلمانيةُ ظاهرةٌ تاريخية، تسري في أحشاء المجتمعات، الغربية منها والشرقية على السواء، إلا أنها تكون فاعلة في مجتمع، وكامنة على الهامش في مجتمع آخر، حتى إذا ما أُتيحت فرصة فاعليتها عبر سياقات فكرية وفلسفية، وظروف اجتماعية، فتنتقل من الهامش إلى المركز، من الكمون إلى التصدُّر والمرجعية، حسب المسيري. فالعلمانية إذًا ليست كما يُروّج البعضُ أنّها نشأت كردّ فعل ضدّ ثيوقراطية الكنيسة، وتَمرَّد الغرب عليها بعد الثورة العلمية والصناعية، فهي أعمق من ذلك بكثير.
وعند دراسة الظاهرة العلمانية في بلدٍ معيَّن ينبغي أن نضع في عين الاعتبار زاويتين: الأولى العلاقة بين الدين والنِّظام السياسي في تلك الدولة، وهل بينهما فصل واستقلال، أمّ إنّ الدين متشابك ومتداخل في السياسة بدرجة يصعب معها التفكيك بينهما. الثانية النظر إلى المجتمع ككلّ، ومدى سريانه نحو الحداثة، أو تمسكه بهويته الوطنية والدينية والتاريخية.
في هذه الدراسة سنحاول أن ندرس الظاهرة العلمانية في إيران، ليس على شمولها، فهذا عملٌ أوسع بكثير ليس محلّه هنا، ولكن من زاوية تحولاتها الدينية والمجتمعية، ومدى تأثيرها على النِّظام السياسي.
ومن الدواعي المهمَّة لتلك الدراسة أنّنا نجدُ معظم المعنيين بالشأن الإيرانيّ ينظرون إلى نظرية “ولاية الفقيه” وتأثيراتها الهائلة على وضع الحوزة والدولة، ويتغافلون تمامًا عن الوجه الآخر لإيران، ومن ثمّ لا يُمكن الانتهاء إلى مخرجات شاملة دون فحص الآخر الإيرانيّ، والآخر المعنيّ هنا هو العلمانية الإيرانية.
بعد نجاح الثورة الإسلامية في العام 1979م، بدأت السلطات الإيرانية في فرض نمطها على المجتمع، واستعملت أدوات كثيرة لقولبة المجتمع بصبغة جديدة، مثل أسلمة العلوم والمعارف كطريقٍ لأسلمة المجتمع، وكانت تلك الأسلمة مدروسة وممنهجة، اتخذت شكل مشروعات كبرى في الإعلام والإذاعة والتليفزيون، والجامعات والمناهج التعليمية. وكان المقصد من وراء هذه العمليات الممنهجة هو تخليق هوية جديدة ودائمة للمجتمع، وربطه بنظرية ولاية الفقيه المطلقة، وترسيخ أفكار ومبادئ الثورة.
اعتقدَ قادةُ الثورة والنخبة الحاكمة الإيرانية [الدينية والسياسية] أنّ بإمكان تلك العمليات الممنهجة في أسلمة المجتمع أن تدوم وتستمرّ وتكفل مجتمعًا متناغمًا، ومتجانسًا، بهوية واحدة وهمومٍ واحدة. لكن مع خفوت الهاجس الثوري، ونجاح الثورة في القضاء على معارضيها، وجماعات النفوذ المناهضة لها، وانتهاء الحرب العراقية-الإيرانية، وسقوط الشيوعية بانهيار الاتِّحاد السوفييتي، وكذلك نشوء أجيال جديدة لم تشهد الزخم الثوري من مواليد الثمانينيات والتسعينيات وما بعدهما، علاوة على التطور التقني والمعلوماتيّ وقفزات التنمية التي شهدها العالَم نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، أدَّى كل ذلك إلى بداية تفكير العقل الإيرانيّ في الواقع المأزوم الذي وصلت إليه الدولة! فأولئك الأعداء -أعداء الداخل والخارج- الذين كانت تضخِّمهم أجهزة الدولة أحيانًا لحشد المجتمع واستثارة الفكر الثوري، صاروا غير موجودين، ومن ثمّ بدأ المجتمع في النظر إلى الأوضاع السياسية والاقتصادية بصورة مختلفة عن فترة ما بعد الثورة مباشرة، ولم يعد يُجدِي نفعًا معه صناعة عدوّ داخليّ أو خارجيّ، عدوّ لم يرَ الشعب الإيرانيّ منه ضررًا مباشرًا كذلك الضرر الذي يواجهه في الحياة اليومية بفعل الإخفاق السلطويّ، وانتشار جماعات المصالح وبؤر الفساد!
من هنا بدأت تراكميًّا مرحلة تلاشي مبادئ الثورة وتآكل الفكر الثوري والفقه الولائي، وهو ما يُمكن تسميته “تآكل الأطروحة الخمينية”[1]، وصعود مَوْجة علمانية ذات شقين، شق حوزوي نابع من الحوزة ومتأصّل فيها، وشقّ حداثي تغريبيّ متأثر بالثقافة والقيم الغربية -وقد ساهم النِّظام السياسيّ في صعود العلمانيتين بطريقٍ غير مباشر كما سيأتي- مما أقلق النخبة الحاكمة في إيران فبدأت العمل للحيلولة ضدّه على عدة مستويات.
ويجب هنا أن نلاحظ أنّ صعود العلمانية الإيرانية ربما يعتريه بعض الضبابية والتشويش، فالعلمانية الإيرانية ليست واحدة، فبالنسبة إلى النظام فإنّ كل من يُعارض طرح ولاية الفقيه فهو مُتّهم بالعلمانية والليبرالية، وهو اتهام خطير عند النخبة الدينية الحاكمة، تهمة كافية للتسقيط الدينيّ والسياسي[2]، وتشويه سمعة المناهضين لولاية الفقيه، سيما من طبقة رجال الدين. كذلك توجد علمانيَّة أخرى حقيقية بغض النظر عن تلك التي يسيِّسها النِّظام، سواء تلك التي هي أقرب للحوزة والدين والفقه أو العلمانية الشاملة التي لا تجد موطئ قدم ولا قبولًا لا عند النخبة الدينية الحاكمة ولا عند العلمانية الانتظارية الحركية. هاتان العلمانيتان الشاملة والجزئية[3]، شهدتا صعودًا بفعل الإخفاق السياسيّ والاقتصادي والطرح الدينيّ التقليدي للنخبة الحاكمة، وبفعل كوامن ديناميكية داخل جماعات العلمانية نفسها، متعلقة بالخطاب والطرح، والعصر الذي تعيشه.
هذا الصعود العلماني في المجتمع الإيرانيّ الذي يُمكن قياسه عبر مظاهره المتنامية في أحشاء المجتمع أقلق النخبة الدينية الحاكمة، كأنّ العقل الجمعي لتلك النخبة ينظُر بألمٍ إلى إخفاق المشروع الدينيّ والسياسي، ليس على مستوى الواقع بل على مستوى الأفكار والمثاليات، فمناهج الأسلمة الشاملة، والاشتباك المادي مع المناهضين لأطروحة ولاية الفقيه، واعتماد القراءة الخمينية كعقيدة من عقائد المذهب، كل ذلك لم يُجدِ نفعًا، إذ فوجئت النخبة الحاكمة بجيل جديدٍ يثور فكريًّا على هذا النمط من الحياة ويتمرد على القراءة الرسميَّة والسلطوية للدين.
في هذه الدراسة نسعى عبر عملية تفكيك معقدة ومركبة للبنية الثقافية الإيرانية، والنموذج الأخلاقي، وتحولات الحوزة الدينية، إلى إدراك حقيقة النموذج الكامن في بنية المجتمع الإيرانيّ ومدى استجابته للظهور، وإمكانية انتقاله من الهامش إلى المركز! كذلك نحاول أن نضع أيدينا على أدوات العلمنة الإيرانية، هل هي المعارضة السياسية، أم الحداثة، أم المؤسَّسة الدينية نفسها، أم المجتمع الإيرانيّ نفسه، أمّ اجتماع كلّ ما سبق في المساهمة في منتج علمانيّ إيرانيّ خالص؟
ونحاول الإجابة عن عدد من الأسئلة المهمَّة المتعلقة بمدى نجاح النِّظام -في عصر العولمة والحداثة- في فرض رؤيته وأطروحته على أجيال ما بعد الثورة، ومدى انتشار ورسوخ العلمانية الاجتماعية في أحشاء المجتمع والحوزة؟ وهل تصير العلمانية بديلًا لولاية الفقيه، وهل تملك العلمانية الإيرانية أدوات السُّلْطة اللازمة، أم إنّ النِّظام قادر على الاستمرار بذات النهج الثوري والآيديولوجي الذي اقترن بالثورة منذ أول يوم، وهل هناك أي دلائل لنية النِّظام أو قدرته على المرونة للتحول تجاه نموذج براغماتي شامل على أن يظلّ متبنيًا نظرية ولاية الفقيه نظريًّا فقط، ومن ثمّ الانفتاح على العالَم الخارجي سياسيًّا واقتصاديًّا، والكفّ عن تأسيس ميليشيات والتحرش بدول مجاورة، أو بعبارة أخرى هل يملك النِّظام الديناميكية الكافية للتعايش مع العلمانية أو تفعيلها عمليًّا مع استمرار ولاية الفقيه كهوية للدولة على المستوى النظري؟ وما حدود تأثير الظاهرة وحجمها على النِّظام السياسي؟ وهل تُشكّل خطرًا على النِّظام السياسي، أم إنها لا تزال منعزلة عن الجماهير، أو في طور التشكُّل والتكوُّن؟
♦ مدخل: جدلية المصطلح وغموض المفهوم
لا تعتني هذه الدراسة بجدلية المصطلح وإشكالاته بقدر ما تركز على المفهوم في إطاره الكبير، وكما يستخدمه الإيرانيّون، سواء ممن يصفون أنفسهم بالعلمانيين، أو ممن تصفهم السُّلْطة السياسية بالعلمانيين، أي إننا معنيون بالواقع لا بما ينبغي أن يكون عليه الواقع، وبعبارة أخرى نحن معنيون بالمنتج الحضاري وليس بالمصطلح المعجمي، بعبارة المسيري. لكن سنومئ في عجالة إلى تحرير مصطلح العلمانية عند من يصفون أنفسهم به، كي لا يبدو الأمر كأنه دراسة ظاهرة ضبابية سائلة لا حدود واضحة لها.
يُقسّم المفكر عبد الوهاب المسيري العلمانية إلى علمانية جزئية وعلمانية شاملة، ويجعل العلمانية الجزئية هي الفصل بين الدين والسياسة، في حين يوسِّع من العلمانية الشاملة ليجعلها سيادة القانون الطبيعي/المادي على كلّ من الطبيعة والإنسان. ومن ثمّ فالفارق بين العلمانية الجزئية والشاملة أنّ الجزئية لا تدور في إطار القانون الطبيعي وحده، إذْ إنّها تترك مجالًا للقانون الإنسانيّ والأخلاقيّ والدينيّ، ومن ثمّ تسمح بقدر من الثنائية، وهذا -في نظره- يتضح في أنّ العلمانية الجزئية تطالب بفصل الدين عن الدولة وحسب، ولكنها تلزم الصمت بخصوص مفهوم القيم المطلقة والحياة الخاصَّة والمرجعية النهائية للقرارات السياسية والاقتصادية[4]. والعلمانية الجزئية عند المسيري لا تتعارض مع التديُّن العامّ للدولة والأفراد، وبإمكانهما -العلمانية والتدين- التعايش معًا. وبعبارة المسيري: “هو -أي التعايش- أمرٌ ممكنٌ بالفعل، إذا كان المعنى هو مجرَّد تمايز بعض جوانب المجال السياسي والاقتصادي عن المجال الديني، وإبعاد رجال الدين والكهنوت عن مؤسَّسة صنع القرار السياسي”[5].
والبعض الآخر يعرّف العلمانية بأنّها محض الفصل بين الدين والسياسة، التي هي العلمانية الجزئية عند المسيري، ولم يفرِّق هذا الفريق بين علمانية جزئية وأخرى شاملة على غرار ما فعله المسيري، بل هي علمانية واحدة، أمّا ما يُسمّيه المسيري بالعلمانية الشاملة فهو في شقّ كبير منه يعني الحداثة عند هذا الفريق.
في حين أنّ الفيلسوف الإيرانيّ عبد الكريم سروش يفضّل تعريف العلمانية بـ”استقلال السياسة عن الدين”، بدلًا من “فصل السياسة عن الدين”، ويقرِّر سروش: “ليست السياسة وحدها هي المستقلة بطبيعتها عن الدين، فالفلسفة والفنّ والعلوم وكثير من الشؤون الإنسانية والمنظومات الاجتماعية هي كذلك أيضًا، لهذا يجب أن يُفهم الانفصال بمعنى الاستقلال، وأن علمنة البشر هي ثمرة اكتشافهم هذا المعنى”[6].
فيقترب سروش من تعريف وجيه كوثراني للعلمانية: “إنّ العلمانية تعني أول ما تعنيه في حياتنا السياسية والمدنية -وقبل دلالاتها الأخرى التي هي موضوع نقاش وآراء واتجاهات- تعني: منع الاستقواء السياسي بالدين، وهذا أمر لا يمسّ الدين وإنما يمس المستقوين بالدين في الشأن السياسيّ والمدني والشخصي”[7]. والعلمانية في رؤية كوثراني: “ليست ضدّ الدين، لكنها ضدّ استثمار الدين في السياسة والحزبية، بل إنها ليست ضدّ رجل الدين، بل ضدّ استثمار هذا الأخير صفته الدينية في السياسة”[8].
إذًا فبين سروش والمسيري والكوثراني اتفاق على أنّ العلمانية هي فصل أو استقلال الدينيّ عن السياسيّ وأنّها لا تُعارِض الدين، لأنّ معارضة الدين ليست من مهامّها ولا من دوائر عملها، فيمكنهما التعايش بناء على هذا المذهب.
أولًا: أصالة العلمانية الإيرانية.. البذور والجذور
يُمكن القول إن فصل الدين عن الدولة عند الشيعة هو الأصل منذ غياب الإمام المعصوم، وإنّ تسييس الدين وعقدنة السياسة دخيلٌ على هُويَّة الدولة والمذهب، والمجتمع الإيرانيّ، إبان ثورة 1979م. فالأصلُ عند عمومِ الشيعة[9] هو عدم المشاركة السياسيَّة أو تولِّي شؤون الدولة والحكم حتى ظهور الإمام المعصوم، لأنّ هذه الأمور الخاصَّة بالفقه السياسيّ من مهامّ الإمامِ المعصوم لا من مهامّ الناس العاديين ولا الفقهاء، لأنّ من شرط الحاكم/الإمامِ عند الشيعةِ أن يكون معصومًا، عالَمًا للغيب[10]، وهذا لا يتوافر في غير الإمام الغائب، وقد فصّلنا القول في نظرية فقه الانتظار، والانتظاريين في موضعٍ آخر[11].
ويُمكن تلخيص جذور المشهد العلمانيّ في إيران من خلال النقاط التالية:
1- الحوزة التقليدية وفقه الانتظار: قبل نشوء الحوزة الشيعية بشكلها الراهن وهموها المعاصرة، كان رجال الدين الشيعة وفقهاؤهم انتظاريين، يحرِّمون العمل السياسيّ أو بالأحرى التصدر للسياسة والحكم حتى ظهور المعصوم، لأنّ السياسة ليست من مهامهم بل من مهامّ المعصوم الذي سيملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا. وفي فترات تاريخية كثيرة شهدت الدولة الإسلامية فوضى عارمة وخلافات وحروبًا وفراغًا سلطويًّا، وكان بإمكان النخبة الشيعية أن تنقضّ على الحُكْم والدولة والسُّلْطة في ظلّ غياب حكومة مركزية قوية، لكن هذا لم يحدث، حتى عندما حكمَ البويهيون/الزيدية، أو الفاطميون/الإسماعيلية، لم يُحاول الاثنا عشرية الاقتراب من سُدَّة السُّلْطة، ورفض ذلك كبار علمائهم كالمفيد والمرتضى والطوسيّ وغيرهم. ربما كان هذا الموقف الرافض للسُّلْطة بسبب استحضار العقل الجمعي الشيعي ما تَعرَّض له تاريخيًّا من مظالم وما حدث للحسين في كربلاء، وربما بسبب تخوُّفه من مدى استجابة الأغلبية السنية لحكم أقليَّة في زمنٍ كان منطق العشيرة والقبيلة والمذهب فيه هو السائد، وربما بسبب ما تعرض له الثوريون الشيعة الإسماعيليون والزيديون من فشل وإخفاق في ذلك الوقت، ولكن وبغض النظر عن ذلك فإنّ المؤكّد أنّ خيار نبذ السياسة والابتعاد عن سدة السُّلْطة كان خيارًا استراتيجيًّا، مبنيًّا على أُسس فقهية وأصولية في المذهب. بل ذهب فقهاء الشيعة إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أجازوا التعاون مع السُّلْطة السنية، بل مع أيّ سلطة جائرة على الإطلاق، سواء كانت سُنية أو غير سنية، حتى تعاون بعض فقهائهم مع المغول[12]! من ثمّ فإنّ مسألة الدولة عند فقهاء الشيعة كانت خارجة تمامًا عن درسهم الفقهي، وحيِّز اهتمامهم، لذا فإنّ مسألة فصل الدينيّ عن السياسيّ كانت معتَمَدًا حوزويًّا حتى قبل تَكوُّن العلمانية في مظاهرها الحديثة.
واستمرّ هذا الوضع حتى بعد تشكُّل الحوزة بصورتها الراهنة كمؤسَّسة دينية ترعى شؤون الشيعة في العالَم. نعم، ربما ظهرت أصواتٌ تطالبُ بولايةِ الفقيه جزئيًّا أو كليًّا كل فترة، بيد أنّ تلك الأصوات ظلّت على هامش الدرس الفقهي المعتمد، أي إنّ تديين السياسة ومذهبتها [ولوج الدين في لُبّ الدولة] كان في الهامش لا في المركز.
لذا نجد أنّ المراجع المعتمدين ممن أسهموا في تأسيس الحوزة بشكلها الراهن مثل الشيخ مرتضى الأنصاري[13] وغيره فنَّدوا نظرية ولاية الفقيه ورفضوها، حتى جاء الخمينيّ ونقلها من الهامش إلى اللبّ، فتسَيَّس الدين، وتعقدنت السياسة.
إذًا نخلص من ذلك إلى أنّ العلمانية بمعنى “فصل الدين عن الدولة” أو “استقلال الدين عن الدولة” كانت موجودة ومترسخة إلى حدّ كبير -وإن لم تكُن بنفس صورتها الغربية الراهنة- في الفقه الشيعي، لكنّها كانت بمثابة الحلقة الأولى في سلسلة الحلقات المتتالية للعلمانية الشيعية.
2- ما بعد الصفويين: ظلّ استدماج الدين بالسياسة على الهامش طَوال تاريخ إيران الحديث منذ عهد الصفويين 1501م. فمنذُ استيلاء الصفويين على بلاد فارس وحتى سقوط الشاه سنة 1979م، كانت هناك علاقات بين الفقيه والسلطان، لكن لم تصل هذه العلاقة إلى ما هي عليه في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية، فكما يقول لامبتون: “لم يتصدَّ مفكِّرون شيعة ليفعلوا بالنظرية الشيعية ما فعله الغزالي والماورديّ بالسنية”[14]. وطَوال التاريخ الشيعي غابت الروح السياسية والطموح نحو السُّلْطة[15]، وحسب كولن تيرنر فقد “كان اعتزال الحكام في مطلق الأحوال فضيلة، بيد أنّه لا يُمكن تأويله كتعبير عن المعارضة”[16].
في المقابل لا يُمكن أن نغفل عن التوظيف السياسي لرجال الدين أو بعضهم منذ صعود الصفويين للحكم، وذلك لأسبابٍ منها أنّ الصفويين أرادوا شرعنة حكمهم الجديد، عبر فقهاء من الشيعة، ولمشاركة الدولة في عملية قمع التسنن وتحويل فارس من السنية للشيعية، وتخليق أجواء التشهير المذهبيّ بالخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل[17]، الذي فُرض بالقوة اعتمادًا على “عصابات من مؤمني الإمامية المتحمسين، وتنشئة مثل هؤلاء المتحمسين بطبيعة الحال كان في حاجة ماسَّة إلى رجال دين وفقهاء متعاونين مع السُّلْطة السياسية”[18].
3- الثورة الدستورية والعلمانية المؤمنة: في حقيقة الأمر يمكن اعتبار الثورة الدستورية هي البداية الحقيقية لنشأة تيَّار العلمانية المؤمنة التي يمثلها التيَّار الحركيّ الانتظاريّ قبال التيَّار الراديكالي/المحافظ. ولا تزال نفس أفكار التيَّارين تسيطر على البيئة الإيرانية اليوم والشيعية عمومًا، وما التيَّار المحافظ والإصلاحيّ في إيران اليوم، إلاّ انعكاس لهذا الخلاف القائم منذ الدستورية حتى الآن. فكما أنّ الدستوريين تَشكَّلوا من مجموعات من رجال دين متعصرنين وليبراليين وعلمانيين، وتشكل فريق المستبدة[19] من رجال دينٍ محافظين وآخرين من رجالات الدولة والنفوذ والتجارة، فإنّ هذه التقسيمة هي السائدة اليوم إلى حدّ كبير في إيران.
قبل الثورة الدستورية لم يتبلور تيَّار ديني حركي إصلاحي/ليبرالي، بل كان السائد هو المدرسة التقليدية قبال الآخر العلماني القومي والتغريبي، في حين أنّ التقليدية الحركية الراديكالية التي مثلها الخمنيّ في ما بعد لم يكُن لها أيّ وجود وإن كانت مُمثَّلة في عدد من رجال الدين المحافظين، مثل الشيخ فضل الله نوري[20]. لكن حدث في الثورة الدستورية توافق أو تحالف بين رجال الدين المستنيرين/الإصلاحيين والعلمانيين، ويُقال إن جمال الدين الأفغاني هو من تولّى عقد هذه التحالفات بين الفريقين لمواجهة السُّلْطة السياسية المستبدة في ذلك الوقت[21]، والمتحالفة مع المحافظين التقليديين.
لكن بعد فشل الثورة الدستورية شهدت الحركة العلمانية المعارِضة في إيران خفوتًا بسبب تحالف التقليدية الدينية أو جناح كبير منها مع الشاه، متكتلة ضدّ العلمانيين والإصلاحيين، ولم يخل هذا التكتل من استعمال خطاب دينيّ تكفيريّ وتوظيفيّ ضدّ الإصلاحيين بمختلف أطيافهم.
وعلى كلّ حال كانت الثورة الدستورية صراعا بين الحداثة والتقليد، بين العصرنة والركود، وأخذت منحًى فلسفيًّا وفكريًّا، انسحب إلى داخل المذهب الشيعي، ودخل رجال الدين التقليديين على خطّ المواجهة ما بين رافض للدستورية ومؤيد لها. ومن هنا انبثقت العلمانية المؤمنة، التي دعا إليها الإصلاحيون من رجال الدين، مطالبين بحكم القانون والدستور، وناقشوا نظرية الانتظار وعدم المشاركة السياسية.
فالعلمانية المؤمنة هي تيَّار وسيط بين خطّ الانتظار المطلق، وخطّ ولاية الفقيه، فتدعو إلى تقييد سلطات الحاكم، والفصل بين السلطات، وتقنين مرجعية الشعب في الاختيار والعزل. وهذا الخطّ هو المتمثل اليوم في الإصلاحية الشيعية العربية منها والإيرانية على السواء، ويُمكن تمثيله إيرانيًّا بأمثال محسن كديفر وآية الله الصانعي، وغيرهما، إذ يلتزمون التقليد الفقهي مستخدمين مصادره وأساليبه للتوصل إلى نتائج ليبرالية، وهذا يرجع إلى مركزية الفقه في الحوزة الشيعية والدولة الإيرانية[22].
ويوجد تيَّار العلمانيَّة المستوردة أو الحداثية، الذي لا ينطلق من الوعاء الفقهيّ، بل يعتمدُ أدوات الليبرالية من البداية، ويُقِرّ بالعلمانية منهجًا اجتماعيًّا وعاملًا من عوامل الاستقرار ورسم العلاقة بين الدين والدولة، ويمكن تمثيل هذا التيَّار بعبد الكريم سروش وشبستري وملكيان، وهذا الفريق له عناية واسعة بالفلسفة الحديثة، وهو ما يُميِّزه من التقليديين -الانتظاريين منهم والحركيين- ومن تيَّار العلمانية المؤمنة كذلك.
إذًا يمكن القول إنّ كديفر والصانعي “جناح حسين منتظري” وهذه المدرسة عمومًا تلتزم التقليد الفقهي وإن عُدّت حسب النِّظام الإيرانيّ من التيَّارات العلمانية، إلاّ أنها في واقع الأمر قبال الاتجاه العلماني الحداثي، الذي يمثله سروش وملكيان وغيرهم ممن نقضوا مركزية الفقه في الدولة والحوزة، وتمردوا على تقاليد الاجتهاد الشيعية، ونبذوا كلّ مقدَّس، ولم ينطلقوا من وعاء المقدَّس. لكنه قبالٌ على مستوى المنهج والأدوات لا على مستوى المخرجات إلى حدّ كبير.
4- رضا شاه والعلمانية الوطنية: ظلّ رجالُ الدين بعيدين عن الحكم وإدارة الدولة في إيران، بصورة شبه كاملة، منذ عهد الصفويين وحتى الثورة الإيرانية في العام 1979م، في التزام تامٍّ للتراثَ الشيعي الانتظاريّ. وباعتبار السياسة في غياب المعصوم ليست داخلة في دوائر عملهم، ومناطات مهامّهم، وإن لم يكُن هذا النهج على نفس المستوى في كلّ العصور، إذ شهد صعودًا وهبوطًا باعتبار السُّلْطة السياسية ومدى حاجتها إلى توظيف الدين واستخدام رجاله، كما حدث في عهد الصفويين مثلًا، ومراحل من عهد القاجاريين، لكن تبقى الفكرة الرئيسية وهي انتظار المعصوم، وعدم المطالبة بتشكيل دولة شيعية تحكمُ باسم المذهب، هي السائدة في الدرس الفقهي والحوزوي. حتى أعلن رضا خان نفسه شاهًا جديدًا، فبدأ حكم البهلويين، وحاولوا وضع البلاد على طريق الحداثة، واتبعوا سياسة تحويل الدولة والمجتمع إلى “العلمانية الوطنية”[23]، ربما تأثُّرًا بسابقة أتاتورك في تركيا، أو لأنّ الشاه أراد أن يخلع عباءة التوظيف الدينيّ التي استُعملت بكثافة في فترات من عهد القاجاريين. فجعل الشاه بينه وبين رجال الدين مسافة، واصطدمت العمليات التحديثية بمقاومةٍ بعض رجال الدين[24]، بخاصَّة قراره بمنع ارتداء الحجاب[25].
واستطاع الشاه أن يُعيد إحياء الفارسيَّة كقوميَّة ولغة وثقافة، وأن يربط عموم الإيرانيّين بها، ولا تزال نبرة الحنين إلى عهد الشاه تكتنف قطاعًا واسعًا من الجمهور الإيرانيّ. وفي هذا السياق: لا يُمكن تجاهل تلك المظاهرات التي تخرج كل فترة في عهد الثورة الإسلامية ورجال الدين لتردد شعارات موالية لنظام الشاه [رضا – رضا بهلوي]، وأخرى موالية لعلمانيته الوطنية/القوميَّة [لا غزة ولا لبنان أجعل حياتي لإيران][26].
الخلاصة أنّ العلمانية الوطنية في عهد الشاه كانت تحت رعايته، بل مشروعًا من مشروعاته الاستراتيجية، بخلاف العلمانية في عهد الخمينيّ التي هي جزء من المعارضة، والعلمانية في عهد القاجاريين التي هي أيضًا جزء من المعارضة وتزعمت الثورة الدستورية. وهذه اللمحة التفت إليها تشارلز تيللي Charles Tilly فوصف هذا الشكل من القوميَّة على أنّه “قوميَّة تقودها الدولة”، أو قوميَّة تبنيها الدولة، وهي جهاز يمكّن الدولة من استخدام القوميَّة كأداة ترسيخ حكمها للمجتمع، وهو شكل مُصمم لتأمين حكم نخبة ما[27]. لكن يجب أن نلحظ هنا أنّ العلمانية التي رعاها الشاه هي العلمانية القوميَّة التي “صُممت لتأمين حكم النخبة”، ولم تكُن علمانية سياسية تطالب بإصلاحات دستورية، إذ كانت هذه الأخيرة في سدة المعارضة مع رجال الدين، وكانت متحالفة وقتئذ معهم ضدّ استبداد الشاه، حتى نشبت الثورة في العام 1979م، وشارك فيها جلّ التيَّارات العلمانية والإسلامية، ثمّ بدأ الخلاف ينشب بينها، بعد سقوط الشاه.
ثانيًا: العلمانية في عهد الخميني وما بعد الثورة
قد لا نكون مبالغين إذا قلنا إنّ العلمانية لا تزال هي الأصل في إيران الإسلاميَّة وإنّ الثورة لم تقم لإخضاع السياسة للدين وللمذهب ولولاية الفقيه، بقدر ما كان لها مطالب تراكمية في عهد الشاه، تلك المطالب لم تتحقق على أيدي النخبة الدينية الحاكمة التي وعدت بتحقيقها كعدالة توزيع الثروات، والحريات العامَّة، ونحو ذلك، كذلك لم تكُن الثورة ذات صبغة دينية خالصة من أول يوم، فقد شارك فيها كل فئات المجتمع الإيرانيّ، ثمّ حُرمت كافة الفئات من حقوقها بعد الثورة لصالح جناحٍ من الإسلاميين الذي قفز على الثورة والدولة واحتكر الحكم وتفرّد بصناعة الأُسس التي قامت عليها الدولة بصيغتها الراهنة. هذا الفريق لم يشتبك مع العلمانيين والليبراليين والشيوعيين فحسب، بل اشتبك في معارك ضدّ قطاعات من الإسلاميين أنفسهم، ممن سُمّوا باليسار الإسلامي، وكذلك مع كثير من المراجع الذين أبدوا تَحفُّظهم على الانتهاكات والخروج على مطالب الثورة، وتخوفوا من استبدال ديكتاتورٍ بآخر!
وحتى بعد تمامية تفرُّد الخمينيّ ورفاقه بحكم إيران وإمساكهم بزمام الدولة والسُّلْطة فإنّ المجتمع الإيرانيّ لا يزال علمانيًّا على الأقل في قاعدة عريضة منه، فالحوزةُ لا تزالُ انتظارية في شقّها الأكبر. والدستوريون على اختلاف مشاربهم يُعارضون فكرة ولاية الفقيه. والإصلاحيون يُحاولون الإصلاح من الداخل، ولهم جهود ملموسة في محاولة تعديل الدستور، وتقييد صلاحيات الوليّ الفقيه، والدعوة إلى تشكيل مجلس فقهاء، وتوسيع دوائر الشورى. والعلمانية منبوذة فحسب في أروقة الحُكم ومنعت من المشاركة السياسية، لكنّها متغلغلة في المجتمع. لكن تلك العلمانية [على اختلاف ألوانها] حُرّمت بحكم القانون والدستور اللذين نصّا على إسلامية الدولة ومن ثمّ إسلامية القوانين والتشريعات “بل وجعفرية تلك القوانين”، وزَجّ رجال الدين في المناصب التنفيذية، من تمثيلٍ سياسيّ يُعبّر عن همومها ومشكلاتها. وأدَّى هذا إلى ضمورٍ في النخبوية العلمانية الفاعلة على الأرض، فبقيت العلمانيَّة الإيرانية على مستوى القواعد أكثر منها على مستوى النخبة والمثقفين الذين لا يملكون قوة إبداء رأيهم على الرأي العامّ، خوفًا من الملاحقات الأمنية والمضايقات من الحرس الثوري والمحاكم الدينية والثورية، والميليشيات التابعة للدولة كحزب الله وغيره، بل وربما إلى الاغتيال الدموي كما حدث في تسعينيات القرن العشرين، وربما لجأت رموز عديدة من تلك النخبة إلى الهجرة والتدريس في الجامعات الغربية. لكنْ ظلّت القواعد الشبابية والنسائية مناهضة لنظرية ولاية الفقيه وحكم رجال الدين، فركنت هذه القواعد إلى الإصلاحيين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية لأنهم الأقرب إلى طروحاتهم وهمومهم، وإن لم يكونوا في جسمهم العريض علمانيين بالمعني الفلسفي للمصطلح.
وتنقسمُ العلمانية الدينية في إيران إلى قسمين:
الأول علمانية الحوزة التقليدية: ويمثلها جناح عريض في الحوزة الدينية لا يزال متشبثًا بنظرية “فقه الانتظار” ويعتبرها أصل المذهب وخصيصة من خصائص فقهه السياسيّ، وهي نظرية تقليدية محافظة غير حركية، بمعنى أنها تدعو إلى عدم الاشتباك السياسي لأنّ السياسة ليست من مهامها ولا دوائر عملها على طول الخطّ، حتى ظهور المعصوم[28]. وتقف هذه العلمانية عند فصل الدينيّ عن السياسيّ، ولا تتعدى هذا المفهوم إلى قبول العلمانية الشاملة بمنتجاتها الحداثية، وهذه العلمانية نسمّيها علمانية تجوُّزًا، إذ هي في الأصل تقليدية دينية انتظارية، لا تؤمن بالحركية ولا بالعمل السياسي والثوري، ولا تؤمن بولاية الفقيه في نفس الوقت، أي تتبنى الموقف السلبيّ تمامًا.
والثاني العلمانية المؤمنة: وهي علمانية حركية إصلاحية، ترجع بجذورها إلى الميرزا النائيني والقادة الدينيين للثورة الدستورية، وهي التي تشتبك سياسيًّا وتطالب بتأسيس دولة مدنية، وإطلاق الحريات وتداول السلطات، ومنح الأمَّة حقّ الولاية على نفسها، كحلٍّ مؤقَّت إلى حين ظهور المعصوم، حتى لا تتعرض الأمَّة للاستبداد والمظلومية، وهذه النظرية بدأت في التبلور الحقيقي منذ الثورة الدستورية 1905م ولا تزال قويَّة حتى الآن، وهي الأكثر شعبية ورواجًا في المجتمعات الشيعية، لكنّها تتعرض لصدمات متتالية من النخبة الدينية الحاكمة في إيران.
ونخلص مِمَّا سبق إلى أنّه يمكن القول إنّ العلمانية الإيرانية استوعبت المجتمع بكُلّيته من خلال عدَّة مستويات:
– فعلى مستوى المؤسَّسة الدينية الشيعية: فهي تدعو إلى البُعد عن السياسة والدولة وشؤون الحكم حتى ظهور المعصوم، إذ إن السياسة وكل ما يخصّ الدولة وإجراء الحدود هي من مهامّ المعصوم لا من مهامّ الفقهاء. وكان هذا هو الخطّ العامّ للتشيع، والميراث الحوزويّ القائم المرتكز على الفقه والفلسفة والعرفان، ونلحظُ أنّ كل الجماعات الشيعية سواء الأصولية وروافدها أو الأخبارية وتشظياتها كانت متفقة على نفس الموقف من الدولة وشؤون الحكم. نعم، ربّما خُرق هذا الإجماع الشيعي في فترات من التاريخ الإيرانيّ -والتاريخ الشيعي عمومًا- بسبب توظيف الدولة للدين ولرجاله، لكنّ ظلّ الموقف العامّ ثابتًا لم يتزحزح على مستوى التنظير الفلسفي والدرس الفقهي.
– وعلى مستوى المجتمع: فإنّ المجتمع لم يكُن يؤمن بأسلمة السياسة وعقدنتها، ولم يؤمن بالإسلام السياسيّ الذي انفجر في الإقليم بعد ظهور جماعات الإسلام السياسي السنّي، والاحتراب بينها وبين أنظمة ما بعد 1952م، في مصر وسوريا والعراق، هذا الظهور لجماعات الإسلام السياسي السني وما استتبعه من تنظيرات وكُتُب وترويج كان له أثر لا شكّ على مدارس شيعية سعت لنسخ التجربة أو الاستفادة منها. لكن ظلّت إيران حتى 1979م علمانية محضة على مستوى القيادة، والثقافة المجتمعية، فكان فصل بين الدين والدولة، بل ربما مناهضة للدين من الشاه في بعض الأوقات، وعلى مستوى المجتمع فكانت هناك دور سينيمائية، ولم تُلزَم النساء بالحجاب أو الشادور، وكان هناك فنّ إيرانيّ ملحوظ، وحياة متنامية ومتسارعة على النمط الغربي، أي ازداد نفوذ العلمانية الشاملة.
– وعلى مستوى الدولة: ورأس الحكم كان البهلويون -ومن قبلهم القاجاريون- علمانيين قوميين، لا يستحضرون الدين إلا توظيفًا واستغلالًا لتمرير شيء أو إضفاء شرعية. وبعد الثورة كان النِّظام السياسيّ الذي يتبنى ولاية الفقيه، مساهمًا في ازدياد وتيرة العلمنة، فكان خطاب النِّظام، ومزايدة يمينه المتطرف على الآخر، وممارساته على الأرض تغذي الاتجاه نحو العلمانية الشاملة، وازدياد قناعات الناس بوجوب فصل الدين عن الدولة.
ثالثًا: الاشتباك مع العلمانية.. أسلمة الدولة والمجتمع
نشبت الثورة الإسلامية بالاصطفاف بين العلمانيين والإسلاميين، ولم تكُن الثورة في بادئ الأمر ثورة إسلاميَّة، لكن سرعان ما تحولت إلى ثورة إسلامية، وأُقصِيَت الجماعات العلمانية والشيوعية وجميع المناهضين لأسلمة الثورة. ونجح الخمينيّ ورفاقه في إقصاء الليبراليين والعلمانيين، والإسلاميين كذلك من غير المؤيدين لمقاربته بشكل كامل.
وبدأت بعد الثورة مباشرة مرحلة إقصاء وتعقب شامل للعلمانيين واليساريين ومناهضي ولاية الفقيه بشكل عام، وتوازى ذلك مع ما سُمي بالثورة الثقافية التي هدفت إلى تخليص الجامعات من مناهضي الثورة، ومناهضي أسلمتها عمومًا، ونتج عن ذلك اعتقال آلاف الأكاديميين وتعقبهم، وإغلاق الجامعات لمدَّة ثلاث سنوات.
بهذا الفعل حاولت الثورة أن تبرز هويّتها، وتفرضها فرضا على المجتمع. كان البون بعيدًا بين الجانبين، جانب الفقهاء الحركيين -والتقليديين في ذات الوقت- وجانب الليبراليين والعلمانيين بمختلف توجهاتهم، وكان الخلاف عميقًا جدًّا بين الطرفين بسبب الاختلافات التأسيسية والفلسفية بينهما. وبعبارة رفسنجاني: “جاءني الشيخ محمد مجتهد الشبستري وتحدث معي لأكثر من ساعة عن حقيقة اختلافنا [يقصد: خط الإمام] مع التيَّار الليبرالي -الذي يمثله بني صدر ونهضة آزادي وغيرهما- وقلت له: إنّ المسألة تدور حول الإسلام الفقاهتي[29]، هؤلاء لا يقبلون هذا الفقه، ونحن لا نجد أمامنا سوى تطبيق هذا الفقه مع سعي أكثر واجتهاد متحرك”[30].
وهذا الحوار بين أحد أقطاب[31] “الإسلام الفقاهتي” وأحد رموز الإصلاحيين يُشير إلى عمق الخلاف الفلسفي والتأسيسي بين الطرفين، وأنّ النِّظام من أول يوم يرى أن مشاركة الآخر في العملية السياسية وإدارة الدولة غير وارد وغير ممكن في الأساس، ومن ثمّ لجأ إلى المغالبة والتفرد بإدارة الدولة، ولذلك نلحظُ أن رموز العلمانية الإيرانية “مثل الثلاثي: سروش وشبستري وملكيان” ركزوا على هدم المنظومة الفقهية بوصفها عملًا بشريًّا غير مقدَّس[32]، وطالب أحمد قبال تلميذ حسين منتظري إلى تأسيس منظومة فقهية واستنباطية جديدة غير المنظومة القائمة.
كذلك يؤكّد موقف الخمينيّ المبكر من صديقه آية الله طالقاني [1911-1979م] هذا الاتجاه، فكان طالقاني من رموز العلمانية المؤمنة وحامل لواء خطّ التيَّار الدستوري، وكان المنافس الأكبر للخمينيّ على زعامة الثورة، ودافع عن اليساريين الإسلاميين، والانتخابات المحلية. واشتهر بنقده للاستبداد الدينيّ في خطبه وحواراته، ودفاعه عن حقوق الأقلِّيَّات[33]، مِمَّا جعله في مواجهة غير مباشرة مع مشروع الخمينيّ وطرحه.
نعودُ فنقول: ارتأت السُّلْطة السياسيَّة أنّ تطبيق أحكام “الإسلام الفقاهتي” يستوجب سيطرتها على شؤون الثقافة بشكل مطلق، وتعمل -بعبارة سروش- على صياغة ثقافة دينية في فضاء المجتمع الإسلامي، وعلى ضوء ذلك فالحكومة لها الحقّ في وضع أيّ خطّ أحمر تراه صلاحًا في مجال العقائد والأفكار، وأعمال الناس، وفي صورة اللزوم تستطيع استخدام العنف من أجل تحقيق هذا الهدف[34].
يُمكن الزعم أنّ نظرية ولاية الفقيه بكل بساطة تحمل في جنباتها الولاية على الشؤون الثقافية، فإذا كانت ولاية الوليّ الفقيه تمتدّ لكلّ شيء من شؤون الدين والدنيا فمن الطبيعي أن تمتدّ للثقافة كنواة رئيسية لتشكّل هوية الدولة على مستوى الفرد ومستوى الجماعة، بل إنّ ولاية الفقيه لا تستقر إلا إذا تضمنت الولاية الثقافية، لأنها بمثابة الدعامة الرئيسية لها.
وحسب عبد الكريم سروش فإنّ هذه النظرية -نظرية تولّي الحكومة للثقافة- “تنتهي بالتنظير لأعمال العنف، وتجويز استعمال آليات القهر، فلا ينبغي للحكومة أن تتولى صناعة الثقافة الاجتماعية، لأن وضع الثقافة بعهدة الحكومة يعني التضحية بالديمقراطية على مسلخ القدرة، فجعل مسؤولية تثقيف الناس بيد الحكومة يعني شنق الثقافة والقضاء عليها”[35].
وبالفعل فقد استند النِّظام لترسيخ نفسه وتفتيت العلمانية الإيرانية إلى استراتيجيتين لا تبتعدان كثيرًا عن قراءة سروش:
الاستراتيجية الأولى: الثورة الثقافية.. الأسلمة الشاملة: فمنذ قيام الجمهورية الإسلامية دعا رجال الدين وجماعة من أساتذة الجامعات لأسلمة الحياة العلمية في إيران ولتطبيق أفكارهم أنشؤوا “المجلس الأعلى للثورة الثقافية”، وكانت أهداف هذا المجلس “تطهير هيئة التدريس وإعادة كتابة مناهج التدريس في العلوم الاجتماعية، وفي الوقت نفسه أدمجوا مناهج إسلامية جديدة ومعاهد علمية جديدة في الحياة الفكرية. وعُهد إلى هذه المعاهد وضع برنامج أكاديمي مشترك: دراسات دينية تقليدية زائد مقررات حديثة عادية”[36].
لكن هذه الاستراتيجية لم تُثبت جدواها على المدى البعيد، فقد أخفقت تمامًا في قولبة الشباب الإيرانيّ في نمط واحد من التديُّن.
وقد أقرّت النخبة الدينية الحاكمة بهذا الإخفاق، فيقول آية الله مكارم الشيرازيّ[37]: “عليكم عبر الدراسة الدقيقة، تحديد الأماكن في الكتب المترجمة التي تروج للثقافة المعادية للدين والعلمانية وحذفها من الكتب. شئنا أم أبينا، فإن تأسيس الجامعات في بلادنا قد أخذ من الغرب، وقد سعى الأعداء دائما لفصل المجالات الدينية عن غير الدينية. بناء على ذلك، فإن هناك هدفًا علميًّا وسياسيًّا لإنشاء الجامعات، وفي نفس الوقت وجود الجامعة لا مفر منه، لأن العلم شيء ضروري في جميع الظروف، ومِن ثَمَّ، لا يمكن أبدًا إلغاء الجامعة، لكن يجب تصحيح مشكلاتها. هناك حقيقة أخرى هي أن الغرب حاول أن يكون لثقافته مكان في الدروس الجامعية، وأن ينقلوها إلى الطلاب، وبخاصَّة في العلوم الإنسانية التي تعتمد في جزء منها على الترجمة، وشئنا أم أبينا فهي تتضمن هذه القضايا، على سبيل المثال، قبل الثورة، تم تدريس كتاب في الجامعة يسمى “علم الاجتماع”، ولم يكُن فيه حتى كلمة واحدة عن الله أو عن الدين. لذا فأهم الوظائف المهمَّة لمؤسَّسة تمثيل المرشد في الجامعات هي بحث ودراسة الكتب المترجمة، ويمكن مع البحث الدقيق، تقديم الأجزاء في الكتب المترجمة التي تروِّج ضدّ الدين ولصالح العلمانية، وحذفها من الكتب، لأنّ مستقبل البلاد في أيدي أولئك الذين يتخرجون في الحوزة والجامعة، وإذا كانوا في وئام ووحدة فلن يكون لديهم ازدواجية”[38].
وكانت تقارير أشارت قبل ذلك إلى قلق كبار رجال الاستخبارات والحرس الثوري من تحولات المشهد الثقافي والأخلاقي في إيران، وطالبوا بإحداث “تغييرات جذرية بدءًا بالجامعات”[39].
ولكن هذا الإخفاق الذي اعترى الاستراتيجية الأولى جعل النِّظام يبحث عن بديلٍ آخر، تالٍ أو موازٍ لسياسة الأسلمة، تمثل في اللجوء إلى القهر والقوَّة، كما لحظه سروش.
الاستراتيجية الثانية: إجراءات انتقامية من الليبراليين والعلمانيين: فقد سعى النِّظام الإيرانيّ منذ نجاح الثورة الإسلامية حتى اليوم إلى إقصاء وتحجيم وتعقب العلمانيين والليبراليين عبر سلسلة إجراءات انتقامية، تهدف إلى منع تشكل كيان صلب، أو جماعات هرمية تؤسس لنواة معارضة للنظام. ومن هذه الإجراءات:
1- دسترة الإقصاء السياسي والاجتماعي: ووَفْقًا للدستور الإيرانيّ فإنّ المذهب الرسميّ للبلاد هو المذهب الجعفري، وإنّ النظرية المعتمدة في الحكم هي “ولاية الفقيه”، ومن ثمّ فإنّ أي فرد أو جماعة لا تنتمي للمذهب الجعفري، فلا يحقّ لها المشاركة السياسية أو تولي المناصب التنفيذية العليا في الدولة. ولو انتمى الفرد -أو الجماعة- إلى المذهب الجعفري لكنه لا يعتمد ولاية الفقيه كقراءة رسميَّة لنظام الحكم، فلا يحقّ له كذلك أن يتولى مناصب تنفيذية مهمَّة في الدولة. كذلك يمنع القانون تشكل أي كيانات أو أحزاب تخالف هذا الدستور، مِمَّا يعني أن الجماعات العلمانية لا يُمكن أن تبلور أفكارها وتعمل على نشرها وترويجها عبر أحزاب وجماعات رسميَّة معترف بها من السُّلْطة السياسية، وحتى عندما أفتى آية الله حسين منتظري -أحد أركان النِّظام المنشقين عنه- في العام 1997م، بإنشاء أحزاب سياسية في إيران برر ذلك بأنّها “طريقة عصرية للنهي عن المنكر”[40]، ورغم أنّ فتوى منتظري تُعتبر خطوة إلى الأمام مقارنة بتقليدية النخبة الحاكمة إلا أنها ترسيخ لفكرة أنّ الأحزاب محصورة في جماعات الإسلام السياسي وخاصَّة بهم، أما من لا يؤمن بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرى أنّ مهمَّة الأحزاب أكبر من هذه الفريضة الدينية وأنّ وجودها في ذاته حقّ سياسيّ وإنسانيّ، فلا يحقّ له تشكيل أحزاب. وينبغي اللحظ هنا أنّ حسين منتظريّ معدود من الإصلاحيين الدينيين، ممن يستعملون القواعد الفقهية ويعتمدون الدرس الحوزوي المعتمد للخروج بنتائج عصرية وحداثية، بيد أنّه كان محافظًا فقهيًّا إلى حدّ كبير، وإصلاحيًّا على المستوى السياسيّ، لكن تلامذته قطعوا شوطًا أوسع نحو الحداثة والعلمنة، وإن لم يصلوا بعد إلى مرحلة المتمردين على الحوزة والدرس الفقهي المعتمد كسروش وملكيان وشبستري.
على أي حال: هذا الانسداد السياسي أمام العلمانيين أدَّى بهم إلى فضاء الإنترنت، وساحات التظاهرات، والتغلغل بين فئات الطلاب والنساء، مِمَّا أقلق كثيرًا النخبة الدينية الحاكمة.
2- استهداف الرموز العلمانية: في أوج التنافس بين المحافظين والإصلاحيين في إيران سيما في فترة التسعينيات من القرن العشرين، لجأ المحافظون الراديكاليون إلى استهداف شخصيات علمانية محسوبة على الإصلاحيين، ووصل الأمر إلى محاولة اغتيال بعضهم[41]، مِمَّا كان لها وقع خطير على الحياة السياسية الإيرانية، وكان بمثابة رسالة إلى المجموعات العلمانية كافة بأنّهم تحت الاستهداف إذا ما تمادوا في “الضلال” و”عداء الإسلام المحمدي” و”النفاق” و”العمالة للغرب”/ حسب المصطلحات التي تروجها السلطات ضدّهم.
وحسب المفكّر علي حرب فإنّ التيَّار المحافظ “الذي تمثله سلطة المرشد الأعلى بطبيعة الحال” يقف ضدّ أيّ محاولة للتجديد الفكري سواء أتى من الداخل أو من الخارج، بل إنّ أصحاب هذا التيَّار يتهمون محاولات التجديد من الداخل بأنّها تتمّ بوحي أو بتأثير من الخارج الثقافي الغربي بشكل خاص، مثل ما واجهه سروش فكريًّا وخاتمي سياسيًّا، ذلك أنّ تيَّار المحافظة يعارض محاولات التجديد الفكري في قضايا الدين، بقدر ما يقف ضدّ إرادة الإصلاح والتغيير السياسي، كما تشهد السجالات والصراعات التي تنفجر بين الفريقين بين الحين والآخر، لكي تترجَم عنفًا رمزيًّا أو ماديًّا على شكل اتهامات ومحاكمات أو إدانات واغتيالات[42].
3- التشويه.. إسقاط القدسية: هذا المبدأ لجأت إليه السُّلْطة الإيرانية في أوقات كثيرة لتصفية الخصوم سياسيًّا ودينيًّا ومعنويًّا، وتشويه صورتهم أمام الرأي العامّ الإيرانيّ. هذا المبدأ استعملته السُّلْطة مع رجال الدين الإصلاحيين المناهضين لطروحاتها، ومع المعارضة السياسية العلمانية على السواء. فقد اتهمت السُّلْطة آية الله شريعتمداري بالخيانة، واتهمت آية الله منتظري بأنه عميل للأمريكان والسعوديَّة، واتهمت انتفاضة 2009م بأنها تتلقى دعمًا وتمويلًا أمريكيًّا، واتهمت متظاهري ديسمبر 2017م بأنهم عملاء للخارج، وكذلك طورد الرموز الكبار أو شُكّك في أعلميتهم، مِمَّا اضطرهم -جميعًا أو بعضهم- إلى الهجرة خارج إيران، ومَنْ مَكَثَ غَيْر مُهاجرٍ يخشى التسقيط والتشويه، ونبذ المقلدين، وبطش السُّلْطة.
4- اتساع دائرة المقدَّس.. إسباغ القداسة على المسؤولين: يُحاول العلمانيون الإيرانيّون نفي المقدَّس، كي لا يُبدأ البحث والدراسة من مسلَّمات قَبْلية تؤثِّر على النتائج والمخرجات النهائية، وهذا قريب من منهج الشكّ الموصّل إلى الحقيقة العلمية. بَيْد أنّ الواقع الإيرانيّ الحوزوي والسياسيّ لم يعتمد المقدَّسات المذهبية والدينية فحسب، بل سعى لتوسيع دائرة المقدَّس، فصار المرشد الأعلى مقدَّسًا لا يُمكن انتقاده، وصار المسؤول التنفيذي مقدَّسًا لا يُمكن تجاوزه، وصارت النظريات الفقهية الاجتهادية أمرًا مقدَّسًا لا يُمكن المساس بها، ولو في نطاق البحث العلمي المحترم، وهكذا. وبعبارة سروش: “وتمّ إدغام حرمة الحاكمين بحرمة الدين، وعليه فإنّ نقد الحاكمين يُعتبر نقدًا للدين، ومن هذا المنطلق منعوا حركة الانتقاد ومساءلة أصحاب السُّلْطة باسم الدين وباسم الإسلام”[43].
5- ثنائية الإسلام المحمدي-الإسلام العلماني: لم تتوانَ السُّلْطة السياسية في تشويه الإصلاحيين الإيرانيّين بوصفهم يحملون مشروعات علمانية، حتى أولئك الإسلاميون منهم لكنهم يعتنقون طرحًا مغايرًا لولاية الفقيه فإنّهم عادة ما يُوصمون بأصحاب “الإسلام العلماني”، الذين يُحاربون “الإسلام المحمدي الأصيل”.
لم تنحصر عمليات التشويه الإيرانيّ في الداخل، بل امتدت لتشمل دول مجاورة والهجوم على نموذجها العلماني. أي ما يُمكن تسميته استراتيجية محاربة العلمانية والاشتباك معها خارج الحدود الإيرانية لا سيما في دول الجوار الإيرانيّ خوفًا من تأسيس نموذج مُلهِم يُحرِج الحكومة في الداخل. ولا تُنسى في هذا السياق تصريحات مستشار المرشد الأعلى علي أكبر ولايتي بخصوص الانتخابات البرلمانية العراقية العام 2018م: “إن الصحوة الإسلامية لن تسمح للشيوعيين والليبراليين بالعودة إلى الحكم”[44]. وحتى بعد توضيح الخارجية الإيرانية أنّ تصريحات الرجل محرَّفة، فقد أكَّدت من حيث لا تدري تصريحاته بصورة أخرى، فجاء في بيانها: “كان يقصد أن الشعب العراقي لن يسمح لليبراليين والعلمانيين وليس إيران هي التي لن تسمح”[45]. ويقول ولايتي في تصريحات مماثلة ومؤكِّدة لمنهج النخبة الدينية الإيرانية الحاكمة، بعد ثورات الربيع العربي ونشوب الثورة السورية: “إن النموذج التركي -الإسلام العلماني- هو نسخة من الليبرالية الغربية الديمقراطية وغير مقبول بالنسبة إلى البلدان التي تمر بصحوة إسلامية”[46].
6- نزع الأعلمية عن مراجع العلمانية الحركية: كذلك لجأت السُّلْطة السياسية إلى نزع الأعلمية عن مراجع دينيين مناهضين لها، بسبب علمانيتهم ومن ثمّ دعوتهم إلى مناهضة ولاية الفقيه، والرجوع بالحوزة إلى إرثها وميراثها الفقهي والحوزوي المعتمد، وعلى منهج الكبار ممن رسخوا الحوزة بكيانها الراهن كالشيخ مرتضى الأنصاري، وغيره. ولم ينحصر نزع الأعلمية عن المراجع المحسوبة على العلمانية الحوزوية الانتظارية فحسب بل شملت مراجع آخرين محسوبين على الخطّ العلمانيّ، كسروش وكديفر والصانعي ومنتظري وغيرهم.
هذه السياسات العامَّة التي اتبعتها السلطات ضيقت الخناق على أيّ عمل لمنظَّمات المجتمع المدني، والنشطاء الاجتماعيين والسياسيين. ومن ثمّ خُنقت العلمانية على مستوى النخبة الثقافية والسياسية والتي انسحبت بطبيعة الحال إلى القواعد والحواضن الشعبية. وهنا نجد أنّ النِّظامَ لم يُفرّق في تطبيق استراتيجيته بين علمانية دينية “مؤمنة” وعلمانية حداثية تؤمن بالقيم الغربية وتناهض القيم الإسلامية والدينية عمومًا، أو بين علمانية تنطلق من الوعاء الدينيّ والدرس الفقهي الحوزوي المعتمد لتُنتِج مخرجات ليبرالية، أو علمانية تنطلق من البداية من مفردات ليبرالية وتناصب “الإسلام الفقاهتي” العداء، بل وَجّه ضرباته إلى الجميع، واشتبك مع الفئات كافة في اليمين واليسار.
هنا ملاحظة مهمَّة ينبغي التنبه إليها في استراتيجية اشتباك النِّظام مع الجماعة العلمانية، هي أنّ النِّظام لم يُعطِ أولوية للمواجهة الفكرية، فهو بدا عاجزًا عن مواجهة التنظير العلماني فكريًّا وفلسفيًّا، لذا حاول النِّظام على يد ممثليه من النخبة الدينية تأسيس درس فلسفيّ صُلب يواجه الدرس الفلسفيّ للجماعة العلمانية القويَّة[47]، إذ إن الدرس الفلسفي لخطّ الإمام يبدو حتى الآن هشًّا أمام فلاسفة العلمانية. لذا لجأ إلى حجب المجتمع وتقوقعه عمَّا يجري حوله في العالَم، وصار هذا خيارًا صعبًا أقرب للمستحيل في ظلّ الطفرات التكنولوجية وعصر العولمة، ولجأ كذلك إلى الحل الأمنيّ بغية الترهيب والتخويف. ومن ثمّ فالنِّظام يُدرك أنّ أيّ تراخٍ في هذه الاستراتيجية قد يؤدي إلى تغيير جذري يصل إلى النِّظام نفسه. وإذا أمعنا النظر عن أسباب فشل النخبة الدينية في الاشتباك فلسفيًّا مع الجماعات العلمانية سنجد أنّ هذا الإخفاق يرجع إلى عدة عوامل، أهمها: عدم دراية رجال الدين التقليديين بالفلسفة المعاصرة والحديثة دراية متمكنة، بل إنّ الفيلسوف الإيرانيّ مرتضى مطهري -يعدّ أهمّ فلاسفة نظام ما بعد الثورة على الإطلاق- الذي اشتبك مع الثقافة الغربية يُتّهم بأنه غير ملمّ بتفاصيل الفلسفة الغربية[48]، بالإضافة إلى أنّ مُنظّري العلمانية المعاصرة في إيران ليسوا هواة، بل معظم رموزهم كانوا إسلاميين سابقين، ومتمرسين على الحِجاج الإسلامي-العلماني، بل إن بعضهم كانوا رجال دين ودرسوا في الحوزة الدرس الفقهي التقليدي، ثمّ تحولوا تدريجيًّا تجاه الحداثة والدرس الفلسفي الغربيّ، فجمعوا بين الثقافتين الإسلامية والغربية، مِمَّا كان له ثقل علمي ومنهجي في عملية الاشتباك الفكري بين الجانبين، أدَّى إلى بروز التيَّار العلماني وتفوقه. أيضًا فإنّ العلمانية الإيرانية ما بعد الثورة الإسلامية هي علمانية علمية فلسفية، أي علمانية بالمعنى الفني والفلسفي، بخلاف بعض العلمانيات العربية المجاورة لإيران التي لا تعتني بالدرس الفلسفي والتنظيري بقدر ما تعتني بمواجهة المجتمعات العربية مشتبكة مع هويتها وثقافتها وتاريخها، وهو ما لم تفعله العلمانية الإيرانية إلا على هامشها الفكري، إذ صَبّت كل جهودها على عمليات الإصلاح السياسي والاجتماعي.
يُمكن القول أيضًا إنّ العلمانية الإيرانية في شقّها الأكبر هي علمانية قيمية، أو علمانية جزئية بتقسيم عبد الوهاب المسيري، لأنّ النِّظام الإيرانيّ هو نظامٌ قيميّ، وذلك أجبر المعارضة الإيرانية أن تكون قيمية هي الأخرى، فانتشبت المعركة حول القيم، ومركزية سؤال الأخلاق، وليس معنى هذا أن الجماعة العلمانية الإيرانية لا تقرّ قيم الحداثة الغربية، ففيها جناح عريض يعتمد الحداثة الغربية، ولكن المقصود هو دائرة الاشتباك مع النِّظام، فدوائر الاشتباك هي التي تحدد الأولويات.
رابعًا: البيئة الحاضنة.. بين العلمانيتين المؤمنة والمستوردة
تَمثَّل الخلاف العلماني-الإسلامي في الحالة الإيرانية ما بعد الثورة الإسلامية في نقاط ومرتكزات مغايرة لتلك الاختلافات المعروفة بين العلمانيين والإسلاميين في المنطقة العربية والإسلامية، ربما لأنّ أجواء الفضاء الإيرانيّ مختلفة إلى حدّ كبير عن غيرها من الدول الإقليمية، ومن ثمّ لم تملك العلمانية الإيرانية الرفاهية الفكرية والفائض الضروراتي لتُوجّه نضالها ضدّ قضايا تبدو هامشية للمجتمع على غرار بعض العلمانيات في المنطقة. فالعلمانية الإيرانية -في عهد ما بعد الثورة- نشأت نتيجة صراع فكريّ وحضاري داخلي نابع من إشكاليات البيئة الإيرانية. كذلك فإنّ البيئة الدينية والثقافية الإيرانية صبغت العلمانية الإيرانية بهمومها ومعضلاتها الثقافية.
أيضًا فإنّ العلمانية الإيرانية ما بعد الثورة كانت مُثقَلة بهموم الإصلاح الثوري والسياسي، وسؤال الانتقال من فلسفة الثورة إلى فلسفة الدولة. كذلك فإنّ معظمَ رُوَّاد ورموز العلمانية الإيرانية منذ عام 1979م حتى اليوم هم من خلفيات وجذور دينية وحوزوية، وانسحب هذا على طروحاتهم المعمقة تجاه إصلاح الدولة والمؤسَّسة الدينية، أي الفكر الدينيّ والسياسي. وربما هذا كان سببا كافيًا لخفوت العلمانية الغربية المحضة، التي لا تستند إلى أيِّ أصول دينية، أو قواعد وتأسيسات مركزية من قبيل الدرس الفقهي والفلسفي، مِمَّا جعلها هشَّة قبال فلاسفة الوليّ الفقيه، وقبال المجتمع الإيرانيّ سيما في مرحلة ما بعد الثورة مباشرة، ومن ثمّ أمسك زمام العلمانيَّة الرموز المتمردة على الدولة والحوزة، فهم أدرى بشعاب المؤسَّسة الدينية، وأدرى بمعضلات الدولة بوصفهم كانوا أو معظمهم من أركان نظام ما بعد الثورة.
هنا تبدو العلمانية الغربية المحضة المنفصلة مع القيم المحلية والأخلاق الدينية ضعيفة أمام النِّظام بمفردها. أجل، فهي موجودة في أنحاء المجتمع، بيد أنّها تبدو منفصلة عنه، وحلولها لا تتناسب مع هوية المجتمع وطموحاته، لذا فإنّ القطاع الأكبر من الجماهير لا يزال يلتفّ حول رموز العلمانية المؤمنة، لأنّهم لم يصطدموا اصطدامًا اعتباطيًا مع الدين، بل أكَّدوا دومًا اشتباكهم مع الفهم الديني، ومع المنظومة الفقهية باعتبارها فهما بشريًّا، ومع عَرَضِيَّات الدين لا مع ذاتياته[49]. كذلك من أسباب هذا الالتفاف والاطمئنان لرموز العلمانية المؤمنة أكثر من العلمانية الغربية، أنّ رموز العلمانية المؤمنة خرجت طروحاتهم من رحم التجربة الإيرانية، بالإضافة إلى عمق التدين في المجتمع الإيرانيّ حتى عند العلمانيين، فالعلمانيون الإيرانيّون في معظمهم يؤمنون بفقه الانتظار ويدعون إلى فصل الدين عن السياسة ونبذ ولاية الفقيه، لكنهم في ذات الوقت يؤمنون بالمعتقدات الشيعية الجامعة.
لكن السؤال المهم هنا: هل أفادت العلمانية التجربة الإيرانية؟ وهل أضافت إلى النموذج الدينيّ [نموذج ولاية الفقيه] جديدًا؟ يمكن القول إنّ تجاذبات العلمانيين مع الإسلاميين أفرزت ثراء فلسفيًا، وافتراضات إضافية في منظومة الفقه السياسيّ الشيعي. كذلك فإنّ هذه القراءات الإصلاحية ومحاولة عصرنة الدين وإدماجه مع الرافد الحداثي أدّت بدرجة كبيرة إلى تآكل صُلْبية نظرية “ولاية الفقيه”، بمعنى أنّه قد حدث تأثير وتأثر، فالنخبة الدينية الحاكمة في إيران صارت تتسامح مع بعض المقولات العلمانية بخلاف الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، إذ لم تكتفِ في ذلك الوقت بالمواجهة الفكرية واستعملت القوة الباطشة للردّ على رموز العلمانيين والإصلاحيين، ولا تزال تستعمل جزءًا من القوة في مواجهة هؤلاء، لكن ليس بالقدر نفسه، فيبدو جليًّا أنّ تفلسف العلمانيين وديمومتهم في التنظير واجتذابهم فئات شبابية ونسائية متنوعة أدَّى بالنِّظام في نهاية الأمر إلى إعادة التفكير في أطروحاته. وازداد القائمون على صناعة القرار قناعة أنّه لا يُمكن إبقاء ثقافة الصوت الواحد أو النظرية الواحدة وإلغاء ما سواها. لكن قد يُستدرك على ذلك بأنّ النِّظام ومن باب التكتيك لا المبادئ ترك مساحات من أجل الامتصاص والتهدئة، وهذا وإن كان فيه جزء من حقيقة الأمر فإنّ المجتمع الإيرانيّ بالفعل لم يعُد مُشكَّلًا على نمط واحد، ولم يعُد النِّظام قادرًا على قولبة المجتمع في قالب فكري وفلسفي واحد سيما مع تنوع النسيج الإيرانيّ وتعدد ثقافاته ومذاهبه، ومع الصعود التكنولوجي والعولمي في العقود الأخيرة.
هذا كلّه ربما يؤدي في نهاية المطاف إلى تطوير نموذج علمانيّ إسلامي، أو ما يُسميه تشارلز كوزمان “الإسلام الليبرالي”، فيتنازل النِّظام عن أحاديته لصالح احتواء العلمانيين. وقد يؤدِّي هذا التدافع الفكري إلى تجميد ولاية الفقيه وبقائها نظريًّا فقط في حين يخطو الواقع العملي خطوات بعيدة تجاه الطروحات الإصلاحية الحداثية، على غرار نموذج الدولة الصينية الشيوعية اسمًا، والرأسمالية واقعًا[50]، لكن مع اختلاف بطبيعة الحال في خريطة إدارة الدولة والدستور والحريات وعددٍ من الملفات. يعزِّز هذه القراءة التصريحات المتتالية للمسؤولين الأمريكان بأنّ العقوبات على إيران تهدف إلى تغيير سلوك النِّظام لا إلى تغيير النِّظام نفسه[51].
خامسًا: مظاهر الصعود العلماني
لا يُمكن التحقُّق من معدَّلات العلمنة في مجتمع ما، إلاّ بتناول مظاهر العلمنة الواضحة في المجتمع ومؤشّراتها الظاهرة، ومن ثمّ يمكن معرفة مدى علمانية المجتمع من مؤشّرات تلك المظاهر، وإلا فهو مجتمع إيمانيّ، بعبارة المسيري[52].
1- الحجابُ.. فلسفةُ الجسد
من ناحية التنظير الفلسفي فإنّ مسألة الحجاب من المعارك المتجذرة بين التيَّارات العلمانية والإسلامية في إيران، وقد اتخذ تيَّار العلمانية المؤمنة نهجًا قريبًا من العلمانية الغربية، وتسامح مع المرأة بشكلٍ عامّ، وطالبَ بحقوقها ومساواتها مع الرجل، وغضّ الطرف عن مسألة الحجاب بشكلٍ خاصّ بوصفها ليست من صلب الدين ولا من مركزياته[53]. والعلمانية إمّا تُنكِر الفهم التقليدي الفقهيّ الصادر من المرجعيات الدينية بخصوص مسألة الحجاب، وإمّا تحكم بتاريخيتها وتبرهن على موقفها بتفرقة الشريعة بين الإماء والحرائر، والمفترض أنّ القيم الأخلاقية لا تتجزأ. وفريقٌ آخر يتسامح مع الحجاب، بيد أنّه ينكر مركزيته بين المنظومة العَقَدِيّة والفروعية.
وكان المفكر الإيرانيّ علي شريعتي أكثر جرأة بالنسبة إلى رجال عصره، عندما دافع عن حقوق غير المحجبات، الأمر الذي ناقشه بشدة التيَّار التقليدي ووصفوه بأنّه متأثر بالغرب وأنه “جاهل ولا ديني”[54].
وتطور الخطّ العلمانيّ الإيرانيّ، فنجد اليوم أنّ سروش قد خطا خطواتٍ أكثر جرأة نحو التحرُّر من التقليدية الدينية. فيرى أنّ حجاب المرأة اختلط مفاهيميًّا، وتداخل فيه الدينيّ مع العرفي، بالإضافة إلى قَبْليات معرفية ومجتمعية لرجال الدين!
ويناقش سروش قول مطهري بضرورة الحجاب لصيانة عفة المرأة، وصيانة العفاف المجتمعيّ بشكل عام، فيقول: “وهنا يأتي السؤال: ألا يوجب ظهور نساء أهل الذمة والإماء الذين كانوا يشكلون عددا كبيرًا في المجتمع آنذاك نوعًا من الإخلال بهذا العفاف الاجتماعي؟ بلى، فالعفة من المفاهيم الأخلاقية التي تعني أن تكون المرأة امرأة والرجل رجلًا، ولا تختصّ بالمرأة، أمّا أنه كيف نتمكن من حفظ العفة عبر القانون فهذا يرجع إلى الطرق المعتمدة في كل زمان والمتناسبة معه ومع العرف السائد فيه، وقد اتبع الإسلام هذا العرف، فلا بد عند ملاحظة حكم الشارع بالنسبة إلى النساء الأحرار أو الإماء أو نساء أهل الكتاب من الرجوع إلى روح مراد الشارع ومعرفة لبّه”[55].
ونلاحظُ أنّ تيَّار العلمانية المؤمنة المتمركز حول الفقه والحوزة، وأدوات الاجتهاد التقليدية، يحاول أن يكون وسطًا بين تشدد رجال الدين الرسميّين والتقليديين، وبين العلمانيين الحداثيين. فنجد أن آية الله حسين منتظري يفتي بجواز مصافحة المرأة الأجنبية “مع عدم قصد الشهوة وعدم حصولها”[56]. ويحاول أن يرسم مقاربات أقل تشددًا بخصوص الحجاب والتعامل مع غير المحجبات، فهو وإن اعتمد القول القائل بوجوب الحجاب، فإنّه قال بعدم قطعية تفاصيله، أي إنّ الحجاب قطعيّ، لكنّ تفاصيله غير قطعية[57]، وهذا النهج في الحقيقة يفتح الباب واسعًا للنسبية في التعاطي مع الحجاب، حول حجمه ومواضعه، وتعريفه في الأساس. هذا الاجتهاد المنتظريّ وُوجه بردود ومناقشات وتعنيفات من المحسوبين على النِّظام الإيرانيّ، إذ رأوا فيه خطرًا فقهيًّا لأنه ينطلق من الوعاء الحوزوي والدرس الفقهي الشيعي المعتمد، وهذا ما حاولوا التشكيك فيه، واتهموه بأنه اعتمد آليات الاجتهاد عند العامَّة “أهل السنَّة”، وأنه خالف الإجماع الشيعي. كذلك نجد تلامذة منتظري مثل أحمد قابل اتخذوا منحًى أكثر جرأة وتجديدًا، إذ طالبوا بصناعة فقهية جديدة، وإعادة النظر في المنظومة الفقهية القائمة، ومن ثمّ نزعم أنّ خطّ منتظريّ -ممثَّلًا في بعض تلامذته- التقى خطّ سروش وملكيان في نهاية الأمر[58].
ومن ناحيةِ الواقع العمليّ والذي يدلّ على تأثر الشعب الإيرانيّ سيما فئتي الشباب والنساء برواد العلمانية، فقد شهدت إيران في الشهور الأخيرة سجالات حول مسـألة الحجاب، فكثير من المسؤولين أبدوا غضبهم بسبب طريقة لبس النساء للحجاب، وفي نفس الوقت طالب بعض رجال الدين المحسوبين على النِّظام عدم إلزام السياح الأجانب بالحجاب، تنشيطًا للسياحة الإيرانية، فالسجال هذه المرة تقليدي-تقليدي، أو محافظ-محافظ، لا بين محافظ-إصلاحي.
وحسب حجة الإسلام محسن غرويان، المحسوب على التيَّار الأصولي، فـ”لا إجبار على السياح من وجهة نظر الشرع والفقه في تنفيذ المعايير الدينية الخاصَّة بنا، بإمكانهم اختيار الحجاب ومن الناحية المذهبية لا يوجد إجبار عليهم”. وأوضح غرويان في رد الفعل على ما يطرحه البعض في إيران مؤخرًا من أن قانون الحجاب الإجباري ينبغي إلغاؤه على السياح الذين يأتون إلى إيران في المناطق الحرة، قائلًا: “من وجهة نظري لو تحول هذا الأمر إلى قضية ثقافية يستطيع المواطنون تقبلها، ستكون قابلة للإجراء، ومثلما نذهب نحن إلى الدول الأخرى ونتعامل حسب قوانيننا، ينبغي السماح للسياح أيضًا بالتعامل في بلادنا حسب قوانينهم”[59].
وفي السياق نفسه صرح المدَّعي العام الإيرانيّ محمد جعفر منتظري[60] بأن التعامل القضائيّ في الموضوعات الثقافية والحجاب لا يفيد، وأنه ينبغي انتهاج طرق سلمية، لافتًا إلى أنه يدعم أي مشروع فعال بشأن مواجهة الحجاب السيء. وأضاف منتظري أن لدى المسيئات للحجاب ثقافات عائلية تظهر الحجاب السيئ ولكنهن لا يعتبرنه سيئًا. وأردف أن بعض المسيئات للحجاب لا يؤمن بالإسلام بل هن علمانيات أو يتبعن ديانات أخرى، ولكن عددًا قليلًا منهن يفعلن ذلك بقصد الإساءة لقيم الدين وأحكام الإسلام. وأوضح أنه إذا أرادت القوات الأمنية اعتقال كافة المسيئات للحجاب[61]، فإنها ستخلق أجواء واسعة ضدّ النِّظام والإسلام، مبينًا أن المقصر الحقيقي في الإساءة للحجاب هو التربية والتعليم، ورجال الدين، والتعليم العالي، والجامعات وأن الجميع مقصرين في ذلك الشأن. وبيّن أنّ لجنة الأمر بالمعروف والحرس الثوري والقوات الأمنية تتخذ حاليًّا الإجراءات التي من شأنها أن تمنع ظاهرة الإساءة للحجاب، ولكن عليهم إدراك أن التعامل بقسوة مع الإساءة للحجاب لن يفيد[62].
وجاءت تصريحات محمد جعفر منتظري بعد شهور من تحدي النساء للسُّلْطة دون جدوى، إذ إن السُّلْطة قد اعتقدت أنّ اعتقال بعض النساء وملاحقة أخريات كفيل بإنهاء المسألة.
وجاءت تصريحات أخرى مسالمة وتدعو للسماح للنساء بالتظاهر ضدّ الحجاب، من رئيسة لجنة المرأة البرلمانية بروانه سلحشوري، فحسب قولها: “مثلما تحول الحجاب إلى قانون في الدولة، فيجب أن تصبح طريقة الاعتراض عليه قانونية وفي إطار القانون، لكن الموضوع أصبح شخصيًّا بالكامل، ومن غير الإنصاف أن نحكم بشكل متعجل على الفتيات المعترضات على الحجاب، ويُتهمن بالفساد، فالنضال أمام الحجاب يعود إلى تلك السنوات التي أصبح فيها الحجاب إجباريًا، لا أعتقد أن الحجاب أصبح تشادور، لكن في ذات الوقت فالاعتراض ضدّ الحجاب موضوع ليس بجديد ولطالما اتخذ أشكالا مختلفة في الدولة. كما أن المعترضات على الحجاب لسن معاديات للنظام، ولا فاسدات، ولا جاسوسات، إنهن اعترضن فقط على موضوع الحجاب”[63].
وتشهد إيران كل فترة دعوات نسوية وحقوقية بإلغاء إلزامية الحجاب، وتحاول الناشطات الإيرانيّات أن يمارسن الاحتجاج على قانون إلزامية الحجاب بالاعتراض في الطرقات والشوارع والسوشيال ميديا، والوسائل كافة. وخلع عدد من النساء الإيرانيّات الحجاب في الشوارع ونشرن صورهن على السوشيال ميديا اعتراضًا على تسلُّط وتغوُّل السلطات الأمنية ومعاملتها بقسوة لعدد من النساء بسبب عدم ارتداء الحجاب أو ارتداء حجاب غير محتشم[64].
2- الرقص على الطريقة الغربية.. كسر هيبة رجال الدين
ينشر عدد من الفتيات والمراهقات مقاطع استعراضية خاصَّة بهنّ، باستمرار، واشتهرت إحداهنّ [تُدعى مائدة هزبري] بمقاطع رقص استعراضية، وسجّلت مقاطعها التي بثتها على حساباتها على السوشيال ميديا ملايين المشاهدات، فاعتقلتها الشرطة الإيرانية، وأظهرتها -مع آخرين اعتُقلوا لنفس السبب- في مقطع فيديو تعترف بالجرم وتعتذر عن جريمتها، باعتبارها خالفت “المعايير الأخلاقية”[65]. وأغلقت الشرطة ما يقرب من خمسين ألف حساب على إنستاغرام بتهمة نشر الخلاعة[66]. ولكن سرعان ما تعاطف عشرات الألوف من داخل إيران ومن خارجها مع الفتاة الإيرانية، ونشرت مئات الإيرانيّات مقاطع فيديو مماثلة، مِمَّا بدا كأنّه تَحَدٍّ للسلطات وكسر لهيبة رجال الدين أمام أجساد النساء الملتوية[67].
ويُعاني الرقص -وكثير من الفنون كالموسيقى والباليه- قيودًا شديدة من جانب السلطات الإيرانية منذ ثورة 1979م وحتى اليوم. واضطرت بعض فرق الباليه التي تأسست في عهد الشاه إلى الفرار من إيران وتأسيس أو إعادة تكوين أنفسهم مرة أخرى في المهجر في أوربا وأمريكا[68].
والمرأة في إيران ممنوعة ليس من الرقص فقط -الممنوع على الذكور والإناث- بل من حضور مباريات كرة القدم[69]، وأحيانًا تُمنع من ركوب الدراجات في الأماكن العامَّة بفتوى خامنئي الشهيرة[70]، وممنوعة من الالتحاق بعدد من التخصصات في الجامعات الإيرانية كالتاريخ والهندسة والإنجليزية، وغيرها[71]، بسبب “عدم توافر وظائف لهنّ بعد التخرج” حسب السلطات الإيرانية. والهدف الرئيسي حسب منظَّمات نسائية الضغط على النساء الإيرانيّات للتخلي عن “معارضتهن للنظام الحاكم، والتخلي عن مطالبتهنّ بحقوقهنّ”، وحسب آخرين فإنّ هذا التضييق على النساء استجابة من النِّظام لبعض رجال الدين القلقين من ازدياد نسب تعلم النساء وأثر ذلك على الحياة الدينية والاجتماعية في إيران[72].
هذا كلّه داخل في ما تُسمّيه السلطات “أسلمة المجتمع” و”أسلمة الجامعات”. لكن النساء في نفس الوقت وبسبب الشعور بالمظلومية واجهن هذه القوانين بالتمرد والتحدي عبر خرقها في المجال العام، مِمَّا أبداهنّ أكثر علمانية من بقية المجتمع.
سادسًا: قلقُ النخبة الدينية من العلمنة.. انهيار المُقدَّس
لفرنسوا تويال مقولة تعليقًا على إصلاحات الشاه التحديثية لإيران: “لم ينتبه الشاه إلى أنّ عصرنة البلاد نفسها كانت تفجّر في أعماق المجتمع ينابيع ثورة آتية، أمّا رجال الدين فقد تنبهوا للأمر قبل سواهم وكانوا ينتظرون ساعتهم”[73].
وكما أنّ رجال الدين تنبهوا لهذه المعادلة في عهد الشاه، فهم اليوم الأكثر قلقًا وتوترًا من علمنة المجتمع وتحديثه وعصرنته، ولذلك فقد دعموا بكلّ قوَّة بقاء المجتمع تحت طروحاتهم وخطابهم، ومنعوا روافد تحديثية عبر القوانين، وإنما تُفهم كلّ السياسات التي تحدثنا عنها آنفًا في هذا السياق، كمنع الفنون، والرقابة الصارمة على مواقع السوشيال ميديا والإنترنت، والاشتباك مع المفكرين والنخبة الثقافية. وإذا كانت عمليات التحديث في عهد الشاه بيده وإرادته فإنّ عمليات التقوقع على الذات ومحاولات تعمية المجتمع وحجبه عن العالَم الخارجي تتمّ أيضًا بيد السُّلْطة السياسية اليوم في إيران وإرادتها.
تمثَّل هذا القلق البالغ في حديث إبراهيم رئيسي [متولي سدانة أوقاف القدس الرضوية] لأساتذة الحوزات العلمية في محافظات قمّ وخراسان وطهران وأصفهان وقد تطرق فيه إلى مسألة العلمانية الاجتماعية التي بوصفه: “تُهدد الحوزات العلمية اليوم، وكما أن الحوزات العلمية كانت منشأ الثورة فإنّ عليها اليوم أيضًا أن تدعم الثورة وأن تستمر في هذا الخطّ، لأن معيار الاعتدال هو اتباع ولاية الفقيه”[74].
فمعيار الاعتدال وَفْقًا لرئيسي هو اتباع ولاية الفقيه، أي أنّ كل خطّ غير خطّ الولاية فهو غير معتدل وغير معتمد عند النخبة الدينية الحاكمة.
كذلك حذر آية الله محمد تقيّ مصباح يزدي من علمنة الحوزة عبر تآكل أطروحة “ولاية الفقيه” حيث تمتدّ معارضتها إلى داخل الحوزات العلمية. وحسب قوله: “ففي الحوزات العلمية وبين المسؤولين الإيرانيّين عديد من المعارضات لمبدأ ولاية الفقيه. فالبعض في الحوزات العلمية يريد فصل الدين عن السياسة، في حين يميل بعض المسؤولين إلى القوميَّة الإيرانية”. يقصد الحنين إلى العلمانية الوطنية في عهد الشاه.
وقال يزدي: “إنّ البعض توصلوا إلى اعتقاد بأنّه ما دام الشعب يدلي بصوته بنفسه ويختار رئيس الجمهورية فما ضرورة وجود المرشد؟ ولماذا من الأساس مبدأ ولاية الفقيه؟ فهل في الدول الأخرى مرشد؟ لقد امتدّ نطاق معارضة ولاية الفقيه إلى الحوزات العلمية. وقد شعر المرشد قبل فترة بأنّ الفكر الثوري أوشك على الانتهاء في بعض الأماكن، لذلك أمر الحوزويين والأكاديميين بأن يكونوا ثوريين خلال تحذيره بهذا الشأن. وإذا كان المرشد يوجه مثل هذا الخطاب إلى الحوزات العلمية فهذا يعني أن الحوزات العلمية تواجه خطر الانفصال عن الثورة، ومن الممكن أن ننسى أيضًا أن الجزء الأكبر من الفقه متعلق بالشؤون السياسية والاجتماعية”. وأردف قائلًا: “بعض المسؤولين اليوم يعارض أوامر الولي الفقيه بكل أريحية، فرغم إشادتهم على الدوام بتوجيهات وإرشادات المرشد يفعلون ما يخالف أوامره. إن هذه المجموعة من المسؤولين يفضلون إحلال القوميَّة محل ولاية الفقيه. لقد أبدل بعض المسؤولين بالإسلام القوميَّة الإيرانية، وهذا هو نفس الشعار الذي كان يطرحه الشاه تحت عنوان القوميَّة الإيجابية، أي تنحية القيم الإلهية والإنسانية كافة جانبًا”[75].
ورجع حسام الدين آشنا، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية، زيادة العلمنة في الحوزة إلى أسباب حكومية، فهي “ليست نتيجة لتقاعس الحوزة وإنما نتيجة لجهود ونشاطات حكومية فُرضت على الحوزة”[76].
وبقراءة مثل تلك التصريحات نلحظ أنّ سبب قلق رجال الدين والنخبة الحاكمة هو انهيار المقدَّس الذي اتسع على أيديهم ليشمل ظنيات معرفية وأشخاص غير معصومين، ومن ثمّ تفتتت أطروحاتهم وتآكلت نظرية ولاية الفقيه، حتى داخل الحوزة نفسها، فطلَّاب الحوزة باتوا يحضرون الدرس الحوزوي غير معممين، فحسب آية الله جعفر السبحاني: “إن الكثيرين يحضرون دروس الحوزة، لكنهم لا يتعممون، في حين أن القميص والبنطال غير متناسب مع مكانة علماء الدين”، وطالب السبحاني بجعل العمامة الدينية إلزامية[77].
فنلاحظُ أنّ العلمنة قد ضربت الحوزة الدينية نفسها، العلمنة بشقيها الانتظاري والتغريبي. وهو ما أقلق النخبة الدينية، وتسبب في زيادة التوتُّر والخلاف بين رجال الدين، لدرجة خروجها عن المألوف والعرف الحوزوي، فقد نشب خلاف مؤخرًا في الحوزة بسبب رسالة آية الله محمد يزدي[78] المحسوب على الخطّ الولائي، إلى المرجع الكبير آية الله شبيري زنجاني[79] المحسوب على تيَّار الانتظار.
وجاء في رسالة يزدي إلى زنجاني: “في أعقاب نشر صور في الفضاء المجازي عن حضرتك وأنت بجانب بعض الأشخاص الذين لا يكنون احترامًا للجمهورية الإسلامية وقائد الثورة، ما أثار استياء واستغراب المقلدين والحوزيين.. أقول بأن مقام واحترام حضرتك يحصل في ظل احترام النِّظام الإسلامي الحاكم والقيادة وشأن المرجعية، لذلك من الضروري مراعاة هذا الاحترام وشؤون المرجعية واتخاذ ما يلزم لكي لا تتكرر هذه القضايا”[80].
وهذه الرسالة مستبشعة وَفْقًا للعرف الحوزوي، ومعايير مخاطبة المرجعيات الكبرى، مِمَّا أثار موجة من الانتقادات الكبيرة لها، فاضطر تيَّار عريض من المحسوبين على النِّظام أن ينتقد الرسالة أيضًا كي لا يخسر في الأوساط الدينية والسياسية، نظرًا إلى مكانة شبيري زنجاني، ولقساوة الرسالة ووصايتها.
أما المرجع موسى شبيري زنجاني، فأعلن أنه أو مكتبه “ليس لديه أي تعليق حول هذه الرسالة”، و”الطلبة والتلاميذ هم من يقومون بالرد عليها”[81]. أي أنّ زنجاني قد ترفع عن الردّ على من يصغره سنًّا ومقامًا، وهي رسالة دينية وسياسية لاذعة ليزدي وتيَّاره.
وكانت الرسالة مفجرة لردود فعل عنيفة من داخل الحوزة، ضدّ النِّظام، واستراتيجيته في التعامل مع المراجع الكبار، سيما وأن زنجاني يحظى باحترام الجميع، فهو ليس متجاذَبًا بين التيَّارات، وليس محسوبًا على حزب بعينه، فهو منشغل بالدرس العلمي في الحوزة، وتَخرَّج على يديه جلّ رجال الحوزة، فكانت نبرة محمد يزدي له مستفزة للمراجع، الذين لم يعهدوا هذا الأسلوب حتى مع المعتكفين على أنفسهم من رجال الدين. وبعد يوم من هذه الرسالة أعلن المرجع محمد عندليب همداني في رسالة مفتوحة وجهها إلى يزدي أن التعاون بين الاثنين أصبح مستحيلًا وأن لا يعتبر نفسه عضوًا في جمعية قم العلمية بعد اليوم[82].
وقال المرجع الدينيّ يوسف صانعي تعقيبا على رسالة محمد يزدي في رسالة وجهها إلى زنجاني: “إن أناسًا أرادوا النيل من علماء الدين والحوزة وحضرتك شخصيًّا، لكن الأمر انتهى لصالح الحوزة”[83].
في حين استغل الإصلاحيون رسالة يزدي للهجوم على النخبة الحاكمة بخاصَّة رجال الدين المحسوبين على النِّظام، فقال مهدي كروبي بأنّ هدف رسالة يزدي هي:” انتزاع استقلالية الحوزة العلمية، وهيمنة الرعب والخوف على العلماء”[84]. في حين ذهب بعض المحللين أنّ خطاب اليمين المتطرف وأفعاله في إيران، والمزايدين على الجميع، ستؤدي بالبلاد إلى العلمانية السياسية، وبعبارة أخرى فإن هذه الرسالة سوف تترك عواقبها الخاصَّة داخل الحوزات العلمية، ولعل إحدى هذه العواقب زيادة الكراهية للفقهاء الحكوميين وتضاعف الإقبال على المراجع المستقلين والمعتقدين بضرورة فصل المؤسَّسة الدينية عن الدولة، وهم رجال دين لديهم وجهات نظر مختلفة لا يؤمنون بالحكومة الإسلامية، ولا بالتدخل المباشر للفقهاء في إدارة المجتمع[ 85].
وهذا الخلاف الحوزوي بين رجال الدين، الذي مرجعه في الأساس تدخُّل الحكومة في الفقه والشريعة، واعتماد أقوالٍ دون أخرى، أو ما يمكن تسميته “الاختيارات الفقهية والدينية للنظام”، بالإضافة إلى الفجوة بين الأجيال، وتمرد الشباب والنساء على ما يتعرضون له من مظالم، كل ذلك أتاح للجماعات العلمانية مساحات للاشتباك مع النِّظام، فقد حاولت الجماعة العلمانية اللعب على هذا الوتر طَوال الوقت، وبالفعل أمكنها إحداث حلحلة كبيرة في مكانة رجال الدين في المجتمع الإيرانيّ، حتى إنّ بيوتات بعضهم تعرضت للنهب والهجوم والضرب بالحجارة، اعتراضًا على “فسادهم وسياستهم”، وكذلك تعرضت بعض “الحوزات العلمية” للهجوم بسبب نفس السياسات من قبل النِّظام والنخبة الدينية الحاكمة[86]، وهو تطور لافت، وخطير إن لم تتم معالجته وعدم نكرانه. فبعد أن حاولت النخبة الدينية الحاكمة توسيع دوائر المقدَّس إذا بالنَّاس تُهاجم هذا المقدَّس، وتشتبك معه، وتهتف ضدّه.
ومن الأسباب المهمَّة للصعود العلماني في إيران وانتشار مظاهره، والذي لحظه رجال الدين، هو زيادة الفجوة بين أجيال الثورة، وما بعدها، فمعظم أجيال ما بعد الثورة الإسلامية 1979م لا تؤمن بالخطاب الآيديولوجي والثوريّ الحماسيّ بقدر ما باتت تؤمن بمطالب حياتية ودنيوية “علمانية”، فالحاكمية والإمامة والسُّلْطة وتمهيد الأرض للإمام الغائب ونحو ذلك من مفردات، ليس هو ما يشغل تلك الفئات المجتمعية الجديدة، بل صارت متطلعة إلى حياةٍ أفضل، ومن ثمّ تعلقت مطالبها بعدالة توزيع الثروات، وتحسين الخدمات للمواطنين، ومطالب سياسية تتعلق بالحريات والعدالة والسُّلْطة الرشيدة، ومواكبة الغرب في تقدمه، وبغض النظر عن أسباب هذه التحولات -كالتنمية والعولمة والتكنولوجيا وأسباب سياسية ودينية- إلا أنّها صارت أمرًا واقعًا.
لكن هذه الفجوة وإن لحظتها النخبة الدينية إلا أنها لم تسع لحلّها بل سعت لتحجيمها ونكرانها، باعتبارها أمرا مريبًا، وثقافة وافدة ضدّ نظام الحكم الإسلاميّ، ومن ثمّ توسعت الفجوة بين طموحات الجماهير لا سيما الشباب والنساء، وبين رموز النِّظام من جيل ثورة 1979، وهؤلاء يرون أن خطاب السبعينيات الذى تتمسك به القيادات السياسية، غير مؤثر في المرحلة الراهنة، كما أن التوجهات التي ينتهجها النِّظام للحفاظ على المبادئ التي أرستها ثورة 1979 أصبحت بلا تأثير، وهنا يقول عزت الله ضرغامي رئيس مؤسَّسة الإذاعة والتليفزيون الأسبق وهو واحد من الأصوليين أصحاب النفوذ: “علينا أن نتغير، وإلا فجيل الشباب سيُغيِّرنا”[87]. وبعبارة محسن قراءتي[88] فإنّ “الجيل الجديد لم يعُد له اهتمام برجال الدين، لذلك علينا إعادة النظر في سلوكياتنا”[89].
لكن هل بإمكان النِّظام بالفعل أن يتغير؟ حسب كارين أرمسترونغ فإنّ ولاية الفقيه ظهرت في الأصل كتحدّ للحداثة الغربية[90]، وقد أيقن الخمينيّ أنّ رفض الشيعة لتقلد المناصب الرسميَّة في القرون السابقة، وعدم المشاركة السياسية أو السعي نحو السُّلْطة، أفقد الشيعة جوهر الرسالة الحسينية، ولكي يغير الخميني هذا السمت المستقرّ، احتاج إلى قراءة مغايرة للموروث الفقهي في الحقل السياسي، فالإسلام حسب الخميني: “هو دين المناضلين الملتزمين بالعدالة والإيمان، إنه دين الطامحين إلى الحرية والاستقلال، إنه مدرسة لأولئك الذين يناضلون ويكافحون ضدّ الاستعمار”[91]. لذا فمن الصعب أن يغيّر النِّظام آيديولوجيته، أو يتنازل لجماعات العلمانية، لأنّ أيّ تنازل أو تغيير سيكون بمثابة انهزام ثقافيّ، وإعلان فشل الثورة ومبادئها ونظريتها.
لكن من المهمّ هنا أن ندرك أنّ تلك الفجوة ليست خاصَّة بالشباب غير الحوزوي أو غير المتديّن، بل تشمل الشباب المتديّن الذي نزع العمامة في أثناء حضوره الدرس الحوزوي، والشباب العاديّ الذي له تطلعات مدنية ونهضوية! مِمَّا يُعد تآكُلًا في نظرية ولاية الفقيه، وآيديولوجية الدولة، سواء أتنازل النِّظام أم لم يتنازل، مِمَّا يضع مستقبل الدولة كلّها في فوهة التغيير الثقافي والهوياتي، إذا ما أُتيحت الفرصة للجيل الجديد، أن يُطبّق طروحاته.
♦ خاتمة: ولايةُ الفقيه وتعزيز العلمانية في المجتمع
يبدو تيَّار العلمانية المؤمنة أو الانتظارية الحركية، أقرب التيَّارات العلمانية في إيران للعقلانية والديمومة، ويُشكّل الخطر الحقيقي على النِّظام، إذْ إنّه يُنافس النخبة الدينية الحاكمة على قيادة الحوزة، وفي إقناع الحواضن الشعبية والجماهيرية. يُعزز هذا أيضًا أنّ تيَّار العلمانية المؤمنة لا يُعارض المخرجات الحداثية، فهو تيَّار إصلاحيّ توليفيّ، تقدمي، يدعو لتطبيق الديمقراطية والحدّ من السُّلْطة المطلقة لرجال الدين، وتحجيم العوارض البشرية بالقوانين والمؤسَّسات “الجمع بين الكوابح الداخلية والكوابح الخارجية”، كما أنّه قويّ حوزويًّا فلا ينقلب على ثوابت الحوزة وميراثها الفقهي والعقدي، بل يؤمن بالانتظار، ولكنّه يدعو إلى ديمقراطية سياسية، ودولةٍ مدنيَّةٍ، إلى حين ظهور الإمام المعصوم. هذه الأفكار الرائجة التي يتبناها التيَّار الإصلاحيّ في إيران ومجموعة من المفكرين ورجال الدين، والتي تعود بجذورها إلى الحركة الدستورية، وفقيهها الأول الميرزا النائيني، تشكّل اليوم الخطر الأكبر والحقيقي أمام السُّلْطة السياسية التي تعتمد نظرية “ولاية الفقيه” بقراءتها الخمينية. لذا فقد اشتبكت السلطات مع تيَّار العلمانية المؤمنة أكثر من اشتباكها مع تيَّارات العلمانية الغربية، إذ من السهل تشويه تيَّارات العلمانية الغربية بوصفهم عملاء للغرب، أو ملحدين ضدّ الدين والشريعة والمذهب، وهو ما حصل بالفعل مع أمثال سروش والشبستري وغيرهما من المحسوبين على هذا التيَّار. علاوة على أنّ تيَّار العلمانية الغربية لا ينطلق من تأسيسيات دينية أو مذهبية، ولا يبال بالتراث الفقهي والحوزوي، بل هو في صدام مستمرّ مع السُّلْطة ومع الشعب أو مع قطاع عريض منه في نفس الوقت، وهو ما تنبه إليه تيَّار العلمانية المؤمنة الذي اكتفى بالاشتباك الفكري والسياسي مع السُّلْطة، ونافسها في الحواضن المتدينة.
يبدو مستقبل تيَّار العلمانية المؤمنة لافتا، فهو التيَّار الذي يمكنه ملء أي فراغ مفاجئ في السُّلْطة السياسية بما يملكه من قواعد جماهيرية، وأساسات حوزوية، وكذلك قربه من دوائر صناعة القرار في المحليات وبعض المدن والمحافظات، بل وفي رئاسة الجمهورية نفسها. نعم، أخفق التيَّار في تغيير وجهة إيران نحو علمانية شاملة، إلاّ أنّه استطاع أن يُحرك الجماهير في 2009م، وفي 1999م، وإن تراجع رموزه في ما بعد عن دعم المطالب الجماهيرية، وهو تراجعٌ تكتيكيّ لا استراتيجيّ، لأنّ الإصلاحيين يدركون حدود اللعبة ومساحتها، ودوائر المناورة، وخرائط الصراع جيدًا، فالنِّظام لا يزال هو الطرف الأقوى والفاعل الرئيسي، ولا يزال المرشد الأعلى مستمسكًا بزمام المؤسَّسات الصلبة “الجيش والشرطة والحرس الثوري”. فأيّ مواجهة مباشرة ومفتوحة مع هذا النِّظام لا تعني سوى الانتحار السياسي، والتشويه الديني. أمّا تيَّارات العلمانية الأخرى فهي وإن كانت قويَّة ولها بعض الجماهيرية إلاّ أنها غير منظَّمة، والمناخ السياسي الإيرانيّ لا يُساعد على وجود تنظيمات هرمية، أو أحزاب فاعلة حرة في الفعل والمشاركة والممارسة، كما شهدت هذه التيَّارات تفتتًا بسبب الضربات المتلاحقة من النِّظام وبسبب مصادمتهم لهوية الدولة ومشاعر النَّاس.
لكن على أيِّ حال فالمؤكّد أنّ النِّظام السياسي الإيرانيّ الراهن ونخبته الدينية، ساعدا على تعزيز علمنة المجتمع الإيرانيّ، وذلك على مستويين: الأول الإخفاق الذي تعرضت له الدولة الإيرانية سياسيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا بسبب الخطاب الرسميّ المتشدد، مِمَّا أعطى المعارضة العلمانية زخمًا ومجالًا لانتقاد النِّظام وتصدرها كراعٍ لحقوق النّاس. والثاني أنّ النِّظام نفسه اعتمدَ أدواتٍ وآليات علمانية، كإقراره بالدولة الحديثة، ودفاعه المستميت عنها، واستعماله لأدواتها وآلياتها. وإنْ حاول النِّظامُ الإيرانيّ التوسع في بيئات موالية أو مواتية فليس لأنّه غير مؤمنٍ بحدود الدولة الوطنية، بقدر ما هو توسُّعٌ مؤقت في لحظة راهنة ومناسبة، تشهد هشاشةٍ إقليمية وتفاعلات دوليَّة أتاحت له هذا التوسع، وهو كذلك توسّعٌ لخدمة مشروعه الجيوبوليتيكيّ وقوّته الناعمة، لا من أجل تمديد الحدود وتغيير الجغرافيا. كذلك احتكار النِّظام للقوَّة والعنف “عنف السُّلْطة” شأنه شأن الدولة الحديثة، وانبنى على احتكار الدولة للعنف عدم قداسة دماء الإنسان، الذي كفلته الأديان، والشرائع السماوية، وانتُزعت القداسة من الحقل السياسيّ برمّته، فقامت الدولةُ بممارسة العنف ضدّ شعوب وأقلِّيَّات باعتبارها دخيلًا يجب أن تُطرد تمامًا أو يعيشون كأنصاف مواطنين. هذه التجليات العلمانية التي صاحبت نشوء الدولة الحديثة، والقوميَّة، وما بعد الاستعمارية، لم تنفكّ عنها إيران في عهد ما بعد الثورة “الإسلامية”، فبرز هنا تناقضان: فالدولة تحارب العلمانيين وتشتبك معهم، وتُحجّمهم، وفي نفس الوقت هي نفسها مظهر من مظاهر العلمانية، مستعملة نفس أدوات العلمانية اللا أخلاقية في إدارة الأزمات!