رغم مأساوية وضبابية المشهد في ما ستؤول إليه الحرب التي تدور رحاها هذه الأيام بين حركات المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وسط مخاوف وتحذيرات إقليمية ودولية من اتساع نطاق الحرب وتحوُّلها إلى حرب إقليمية كبرى، أعيدت القضية الفلسطينية إلى الواجهة مجددًا، ووضعت الدول أمام إدراك مخاطر استمراريتها دون تسوية، كما أعادت الأحداث الزخْم إلى المبادرات الإقليمية والدولية لحلِّ الدولتين، من منطلق أن الأمن والسلام لن يتحققا لإسرائيليين إلا بتسوية عادلة للقضية الفلسطينية بحصول الفلسطينيين على حقوقهم ضمن حلّ الدولتين.
السعودية واحدة من الدول العربية التي دائمًا ما حذرت مرارًا وتَكرارًا، في كل مناسبة أو محفل دولي، من مغبة الانزلاق إلى حرب ممتدة بين أطراف الصراع، كما ظلت تحذر من إمكانية أن تؤدي التصرفات غير المحسوبة إلى حرب إقليمية واسعة ومكلفة للجميع، وأكدت -أيضًا- أنها على قناعة بأن تحقيق الأمن والسلام لإسرائيل مقرون بتحقيقهما للفلسطينيين على ضوء المبادرات العربية والدولية المقبولة عالميًّا للتسوية، ووصلت الجهود السعودية إلى درجة قبول الدخول في مفاوضات مع إسرائيل بوساطة أمريكية من أجل إقامة علاقات بين الرياض وتل أبيب، مع تمسُّكها بتسوية القضية الفلسطينية وحصول الفلسطينيين على حقوقهم شرطًا أساسيًّا قبل الدخول في علاقات مع إسرائيل، وكان الهدف من ذلك تحفيز الجانب الإسرائيلي على تقديم تنازلات لحل القضية.
وبتصاعد الحرب الدائرة بين حركات المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، التي راح ضحيتها أكثر من 3500 شهيد وإصابة نحو 12 ألفًا من الجانب الفلسطيني، مقابل مقتل نحو 1400 واختطاف نحو 200 رهائن من الجانب الإسرائيلي -حتى كتابة المقال- ربطت المملكة بين فوران الحرب الدائرة وبين عدم تسوية القضية الفلسطينية، وردَت هجوم «كتائب عز الدين القسام»، الجناح العسكري لحماس، على مستوطنات غلاف غزة إلى حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضد مقدَّساته، ما يعكس موقف المملكة الثابت والراسخ تجاه مناصرة القضية الفلسطينية، ودعم الجهود الرامية إلى تحقيق السلام العادل والشامل، الذي يكفُل دعم قضية الشعب الفلسطيني العادلة، وحصوله على حقوقه المشروعة حسب مقررات مرجعيات حلّ القضية الفلسطينية المقبولة عربيًّا و دوليًّا.
لم يتوقف دور المملكة عند حد الإدانات، بل مضت مسرعة نحو درء تزايد العنف واتساع نطاق الحرب، لذلك طالبت الطرفين باحترام اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين والمواقع المدنية وقت الحرب، ومع استمرارية الهجمات الإسرائيلية المكثفة بحق المدنيين الفلسطينيين، أعلنت المملكة تعليقها محادثات التطبيع مع إسرائيل، وتواصلت مع الأطراف الدولية كافة لوقف التصعيد، ودعت وزراء خارجية دول العالم الإسلامي إلى انعقاد طارئ لمنظمة التعاون الأسلامي، وفي أثناء الاجتماع، أعلنت -في بيان صُنِّف بالأشد لهجة منذ انطلاق الحرب- رفضها القاطع دعوات «التهجير القسري» للفلسطينيين من غزة، كما طالبت المجتمع الدولي باتخاذ موقف مسؤول في توفير الحماية للفلسطينيين ورفع الحصار وفتح الممرات الإنسانية، وأنهت بيانها بأن السلام «خِيار إستراتيجي للخروج من دوامة الحرب»، وذلك يتطلب الموافقة على إقامة دولة فلسطينية على حدود يونيو 1967م وعاصمتها القدس الشرقية.
تضمَّن البيان الختامي لاجتماع منظمة التعاون الإسلامي، ومقرها السعودية، رسائل غاية في الأهمية للأطراف الدولية الداعمة لإسرائيل، ففيما تبنَّت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية الداعمة رواية الجانب الإسرائيلي في ما يخص القصف الصاروخي لمستشفى المعمداني، الذي راح ضحيته مئات الشهداء والمصابين من النازحين المدنيين الأبرياء، حمَّل البيان الختامي، لأكثر من 57 دولة إسلامية بالمنظمة، الجيش الإسرائيلي المسؤولية الكاملة في قصف المستشفى، ورفض دعوات التهجير القسري بشكل قاطع مع دعم ثبات وصمود الشعب الفلسطيني على أرضه، وطالب بضرورة محاسبة إسرائيل على ارتكاب جرائم الحرب البشعة، لا سيَّما جريمة إبقاء القطاع تحت وطأة القصف والحصار والتجويع، وجريمة دفع الفلسطينيين إلى أحد خِيارين: إما التهجير القسري وإما الموت نتيجة الجوع والتأثر بالقصف، بينما يقف مجلس الأمن الدولي مكشوفًا وعاجزًا عن الاضطلاع بمهامه في حفظ السلم والأمن الدوليين على خلفية فشله في التوصل إلى قرار لوقف الحرب، وحتى في فتح الممرات الإنسانية لدخول المساعدات إلى الشعب الفلسطيني المحاصَر والمنكوب.
لقد عكست تطورات المواقف العربية والإقليمية والدولية، وإنْ كانت لا تتلاءم وتداعيات الحرب المشتعلة في الأراضي المحتلة، جُملةً من التحولات تجاه القضية الفلسطينية قد تُشكِّل ضغطًا على الإدارة الأمريكية لإعادة النظر في حساباتها تجاه الحرب الدائرة بشكل خاص، والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بشكل عام، فمن ناحية يوجد إجماع عربي شعبي -انطلاق التظاهرات في عديد من العواصم العربية- ورسمي واضح على رفض مخطط إسرائيل -بدعم أمريكي- لتهجير الفلسطينيين قسريًّا وإعادة سيناريو النكبة في مسعى جليٍّ لتصفية القضية الفلسطينية وإدخالها مرحلة اللا عودة، وكذا إجماع عربي على فتح الممرات الإنسانية لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، كما شكَّل قرار رؤساء كلٍّ من مصر والأردن وفلسطين إلغاء الاجتماع الرباعي، الذي كان مقررًا انعقاده في العاصمة الأردنية مع الرئيس الأمريكي، رسالة عربية سياسية جماعية قوية وغير مسبوقة، للتعبير عن الرفض العربي لمخطط التهجير ومنح الإدارة الأمريكية الغطاء للعدوان الإسرائيلي العنيف ضد الفلسطينيين العزل.
كما يوجد اتجاه إقليمي ودولي صاعد، تمثله تركيا وإيران والصين وروسيا، إضافة إلى الموقف العربي، من ناحية ثانية، يرفض المخطط الأمريكي-الإسرائيلي لتهجير الفلسطينيين، ويدعم تسوية القضية الفلسطينية على أساس حلِّ الدولتين، وإنْ كان لذلك امتداد للصراع الروسي والصيني مع واشنطن حول الحرب في أوكرانيا والقيادة الدولية، ففي مقابل إحباط واشنطن مشروع قرار روسي في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية في غزة، امتنع الكرملين عن إدانة حركة «حماس» في هجومها المباغت على المستوطنين بغلاف غزة، كما يلاحَظ تغير في مواقف بعض دول الاتحاد الأوروبي تجاه دعم إسرائيل في عمليتها العسكرية على غزة بتشديدها على ضرورة حماية المدنيين والضغط على تل أبيب لفتح ممرات إنسانية لإدخال المساعدات.
تتحسب إدارة بايدن -من ناحية ثالثة- لإمكانية اندلاع أزمة بين الديمقراطيين تُلقي بظلالها على انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة في نوفمبر 2024م، بتقدُّم بعض النواب الديمقراطيين بمشروع قرار يدعو لوقف إطلاق النار في غزة، وإنْ كان الخِيار المفضل بالنسبة لإدارة بايدن استمرارية الدعم المطلق لإسرائيل -انسجامًا مع موقف الجمهوريين تجاه إسرائيل- في حربها ضد «حماس» مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، فضلًا عن تعرض الرئيس بايدن لسيل من الاتهامات والانتقادات في الداخل والخارج بأنه أعطى تل أبيب الضوء الأخضر لشنِّ الحرب العنيفة على غزة، بل وحرَّضها على قتل الفلسطينيين.
ختامًا، على ما يبدو أن السيناريو الذي رسمته تل أبيب بداية الحرب على غزة، بأن التوقيت بات سانحًا لتصفية القضية برمتها عبر عملية عسكرية تضع أهل القطاع أمام خِيارَي الموت أو التهجير القسري، بدأت غيومه تتلبد، إذ بدأت واشنطن وتل أبيب يدركان حجم التكلفة، فقد قوبل المخطط الأمريكي-الإسرائيلي برفض عربي قاطع، مع تحذيرات إقليمية من اتساع نطاق الحرب، ورفض بعض القوى الدولية الداعمة لتسوية القضية على أساس حلّ الدولتين، ويعكس ذلك تأخير عملية الاجتياح البري للقطاع على غير ما كانت تخطط له حكومة الحرب الإسرائيلية، وقبول تل أبيب بإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وصمود أبناء القطاع أطفالًا وشبانًا وشيوخًا ونساءً أمام آلة القتل الإسرائيلية الغاشمة، ما يعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة ويبث رسالة واضحة إلى أسرائيل وداعميها بأن الخيار العسكري ليس الخيار الأمثل لتحقيق السلام، لا سيما على ضوء فشل العمليات العسكرية الإسرائيلية السابقة على غزة كافة في تحقيق السلام للإسرائيليين، كما يخلق حالة من الزخْم العربي والإقليمي والدولي تجاه القضية الفلسطينية يعيد ترتيبها على رأس قائمة القضايا الدولية المهدِّدة للسلم والأمن الإقليميين والدوليين مجددًا، كما يعاد ترتيب صفوف بعض القوى الدولية لتأييد المبادرات العربية والدولية الراغبة في حلِّ الدولتين، على عكس ما كانت تخطط له واشنطن وتل أبيب في تصفية القضية الفلسطينية.
وهنا نتسائل: متى تدرك تل أبيب مصداقية التحذيرات العربية من مغبة عدم تسوية القضية الفلسطينيين وتداعيات ذلك على إقامة علاقات عربية-إسرائيلية؟ ومتى ستدرك إسرائيل أن أطفالها لم يهنؤوا بالنوم -كما يقول الرئيس الكولومبي- ما دام لم يهنأ أقرانهم الفلسطينيون بالنوم؟ ومتى ستدرك -بنفس القدر- أن الخِيار العسكري لم يجلب السلام والأمن للإسرائيليين وأن الوقت قد حان للمُضي في الخيارات الدبلوماسية والسياسية لتسوية القضية؟
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد