الغارات الإسرائيلية على حزب الله.. الاتجاهات والمآلات

https://rasanah-iiis.org/?p=36557

تمتدُّ جذور الصراع بين إسرائيل وحزب الله إلى عقودٍ طويلة، لكن في السنوات الأخيرة انقلبت الديناميات في المنطقة انقلابًا كبيرًا؛ بسبب ما تشهده من تغيُّرات سياسية وعسكرية، ناهيك عن انخراط القُوى الدولية فيها. وهُنا تعكس غارات إسرائيل على حزب الله واحتمال الاشتباكات المستقبلية بين الجانبين، ماهيةَ المشهد الجيوسياسي الأوسع للشرق الأوسط. وممّا لا شكَّ فيه أنَّ لبنان كانت منذ السابع من أكتوبر أحد جبهات الصراع بين إيران وشبكة وكلائها من جهة، وإسرائيل وحلفائها في الغرب من جهة أخرى.

شكَّل مقتل الأمين العام لـ «حزب الله» بغارة إسرائيلية في 27 سبتمبر 2024م، نقطة تحوُّل جذرية في الصراع الدائر بين حزب الله وإسرائيل. إنَّ تصفية إسرائيل لحسن نصر الله في خِضَمّ حملتها الأوسع لاستهداف قيادات عسكرية في الحزب، ضربةٌ قوية لقُدرات الحزب العملياتية، ونفوذه في لبنان وفي كل المنطقة. لم يكُن نصر الله مجرَّد قائد للحزب؛ فقد كان رمزًا لشيعة لبنان، وكان له الفضل في جعْل الحزب قوَّةً سياسية وعسكرية؛ لهذا يترُك مقتله فراغًا يصعب ملؤه، لا سيّما أنَّ خلفاءه المُحتمَلين قد لا يتمتَّعون بكاريزمته وفِطنته الإستراتيجية. هذا الفراغ قد يخلق فترةً من الفوضى داخل حزب الله؛ ما يُضعِف عمليًا قُدرته على التعبئة ضدّ إسرائيل على المدى القريب.

خلال العقود الماضية، تحوَّل حزب الله إلى منظَّمة شبه عسكرية قوية تتمتَّع بنفوذ سياسي كبير داخل لبنان، تتلقَّى دعمًا ماليًا وعسكريًا من إيران، ومن أهدافها المُعلَنة «تدمير إسرائيل». أدَّت هذه العلاقة العدائية بين الحزب وإسرائيل إلى نشوب عدَّة صراعات كُبرى بينهما، أهمَّها حرب لبنان عام 2006م، التي شهدت غارات جوِّية إسرائيلية واسعة النطاق ضدّ مواقع حزب الله. ومؤخَّرًا في 23 سبتمبر 2024م، أسفرت العمليات العسكرية الإسرائيلية عن مقتل ما لا يقِلّ عن 500 شخص، من بينهم 35 طفلًا و58 امرأة. هذا يعني أنَّه في نصف يوم تجاوزت الخسائر البشرية نصف ما تكبَّدها لبنان في حرب تموز 2006 ضدّ إسرائيل؛ قضت فيها إسرائيل على عائلات بأكملها، وأجبرت عشرات الآلاف من السُكّان على الفرار من منازلهم.

وبفضل التقدُّم في التكنولوجيا، خاصَّةً في مجال المراقبة وقُدرات الطائرات المسيَّرة، تمكَّنت إسرائيل خلال الأشهر الأولى من عمليتها العسكرية في لبنان من ضرْب أهدافٍ لـ «حزب الله». ويشكِّل هذا التطوُّر جزءًا من إستراتيجية أوسع لتقليص القُدرات العسكرية لـ «حزب الله»، فضلًا عن القضاء على قيادة الحزب، مع تجنُّب التصعيد على نطاقٍ واسع. وكان الهدف الرئيسي للضربات الإسرائيلية، هو قطع سلاسل إمداد حزب الله، لا سيّما الطُرُق المُستخدَمة لنقل الأسلحة من إيران عبر سوريا إلى لبنان. وغالبًا ما تركِّز هذه الضربات على مستودعات الأسلحة، وقوافل الإمداد، والبنية التحتية الرئيسية.

وبالعودة إلى الوراء، نجِد أنَّ الحرب الأهلية السورية خلقت تحدِّيًا وفُرصةً لإسرائيل في الوقت نفسه؛ فقد أدَّى دخول حزب الله الصراع والقتال إلى جانب نظام الأسد، إلى اكتساب الحزب خبرةً ميدانية مع ترسيخ وجوده في المنطقة. وهُنا استفادت إسرائيل من تواجُد حزب الله في سوريا، بشنِّها غارات متكرِّرة على مواقع انتشاره، خاصَّةً بالقرب من الحدود الإسرائيلية، وفي نقاط عبور الأسلحة الإيرانية.

من المُحتمَل جدًّا أن يستمِرّ تصاعُد التوتُّرات بين إسرائيل وحزب الله، لا سيّما مع استمرار إيران في دعْم الحزب عسكريًا وماليًا. وهُنا سيخلق حصوله على صواريخ دقيقة التوجيه، وغيرها من الأسلحة المتقدِّمة، تهديدًا كبيرًا لأمن إسرائيل. لذلك تركِّز إستراتيجية إسرائيل على الضربات الاستباقية لمنع الحزب من تحقيق ميزة عسكرية، وهو ما قد يؤدِّي بالمحصلة إلى توسيع رقعة الصراع.

تشمل التأثيرات المباشرة لمقتل نصر الله انخفاضًا مؤقَّتًا في الأنشطة العسكرية لـ «حزب الله»؛ بسبب خسارة القيادات وأنظمة الاتصالات المخترقة. وبالنسبة للبنان، قد يوفِّر مقتل نصر الله فُرصةً للمجتمع الدولي للعمل على تقليص نفوذ حزب الله، ودعْم دولة لبنانية أكثر استقلالية. ومع ذلك، فإنَّ فترة الانتقال قد تكون محفوفةً بالقلاقل، خصوصًا أنَّ حزب الله لا يزال يشكِّل قوَّةً لا يُستهان بها على الرغم من نكساته الأخيرة. وبصورةٍ عامَّة، زادَ مقتل نصر الله من ضبابية المشهد في المنطقة، في ظلّ ما تعانيه من تقلُّبات كبيرة، مع احتمالية حدوث ارتدادات متتالية يمكن أن تُعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط. كما سيؤثِّر مقتل نصر الله على الدور الإقليمي والدولي لإيران. والواقع أنَّ نصر الله وحزب الله اللبناني كانا نموذجًا تحتذي به الجماعات الأخرى في «محور المقاومة»، وأحد أُصول طهران لتعزيز أجندة الثورة الإيرانية في أفريقيا وأمريكا الجنوبية

في الأول من أكتوبر، بدأت القّوات الإسرائيلية غزوها البرِّي «المحدود» لجنوب لبنان. وقالت وكالة «رويترز»، نقلًا عن مصدرين لبنانيين، إنَّ القوات الإسرائيلية نفَّذت عمليات توغُّل ليلية في لبنان؛ للقيام بعمليات استطلاعية، وإنَّ القوّات اللبنانية انسحبت من مواقعها على طول الحدود مع إسرائيل. وقال المسؤولون الإسرائيليون إنَّ عمليتهم ستكون «غارات برِّية محدودة ومحلِّية وموجَّهة، بناءً على معلومات استخباراتية دقيقة»، ضدّ أهداف حزب الله في جنوب لبنان. الجدير بالذكر أنَّ إسرائيل كانت تخطِّط في البداية لغزو أكبر، لكن بعد مناقشات مكثَّفة مع مسؤولين أمريكيين حثُّوها على إعادة النظر، قلَّصت إسرائيل حجم التوغُّل البرِّي. لكن لا يمكن لأحد الجزم إنْ كانت عملية إسرائيل ستبقى محدودةً أو ستتوسَّع. وفي مساء نفس اليوم، أطلقت إيران من أراضيها 200 صاروخ باليستي موجَّهًا نحو إسرائيل. وردًّا على هذا الهجوم، حذَّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إيران وبشدَّة، مصرحًا بأنَّها «ارتكبت خطأً كبيرًا -الليلة- وستدفع ثمنه». وتزعم إيران أنَّ الضربة كانت بمثابة رسالة تحذيرية لإسرائيل، وتوعَّدت بضربات «أقوى وأكثر إيلامًا»، في حال ردَّت إسرائيل على هذه الهجمة. وبينما تعمل إسرائيل على تعزيز قوّاتها في لبنان، أفاد الجيش الإسرائيلي بمقتل أحد جنوده في كمين بالقُرب من أنفاق حزب الله في لبنان، وهي أول حالة مؤكَّدة منذ بدء العملية البرِّية. ووفقًا لصحيفة «التايمز» البريطانية، تكبَّد الجيش الإسرائيلي خسائر بشرية كبيرة، وعددًا غير مؤَّكد من القتلى.

بعد الهجوم الإيراني المباشر عليها، من غير المُحتمَل أن تنظُر إسرائيل إلى أيّ حلول دبلوماسية، إلى حين أن تنتقم وتحقِّق أهدافها. أمّا حزب الله، فقد تعهَّد بأن يستمِرّ بالقتال ضدّ إسرائيل انتقامًا لنصر الله، ويبدو أنَّ دائرة العنف هذه بلا نهاية.

تلعب التفاعلات الجيوسياسية في الشرق الأوسط -لا سيّما بالنسبة لدور إيران- دورًا حاسمًا في تشكيل مستقبل الصراع بين إسرائيل وحزب الله. ومع استمرار إيران في ممارسة نفوذها بالمنطقة من خلال حزب الله، فقد تزيد إسرائيل من ضرباتها التي تستهدف المصالح الإيرانية في المنطقة؛ ما يقرِّبنا أكثر لحافَّة المواجهة الإقليمية. كما أنَّ احتمالية دخول قُوى إقليمية أخرى في الصراع، مثل روسيا، التي تتمتَّع بنفوذ كبير بسوريا ستيزيد الطين بلَّه. وهُنا يلعب المجتمع الدولي، خاصَّةً الولايات المتحدة وفرنسا دورًا مهمًّا في الصراع بين إسرائيل وحزب الله؛ إذ أصدرت الولايات المتحدة وفرنسا وحلفاؤها بيانًا مشتركًا في 25 سبتمبر 2024م، يدعو إسرائيل وحزب الله إلى الموافقة على وقْف إطلاق النار لمدَّة 21 يومًا، يمكن خلالها إجراء مفاوضات بشأن حل دبلوماسي للأزمة على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية. وعلى الرغم من هذا الموقف الدبلوماسي الأمريكي، فإنَّ المحرِّك الرئيسي للعمليات العسكرية والإستراتيجية الإسرائيلية، هو الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل.

وعلى الرغم من أنَّ احتمالات التوصُّل إلى حلٍّ سِلْمي للصراع بين إسرائيل وحزب الله لا تزال بعيدة، فإنَّ التغيُّرات في المشهد السياسي الإقليمي أو الدولي قد تخلق منافذَ لخفض التصعيد. على سبيل المثال قد يؤدِّي التحوُّل في السياسة الإيرانية، إمَّا بسبب الضغوط الداخلية أو كجزء من اتفاق دولي أوسع نطاقًا، إلى تقليص الأنشطة العسكرية لـ «حزب الله». ومع ذلك، يبدو مثل هذا السيناريو غير مرجَّح في الأمد القريب؛ نظرًا للمواقف المُتعنِّتة لأطراف الصراع. وأخيرًا، تعكس الغارات الإسرائيلية ضدّ حزب الله صراعًا معقَّدًا ومتناميًا مدفوعًا بالتقدُّم التكنولوجي والديناميات بين القُوى الإقليمية والتدخُّل الدولي. فمن المُحتمَل أن نشهد استمرارًا للغارات الإسرائيلية والعمليات البرِّية، مع احتمالية التصعيد، وهذا يعتمد على ردّ إسرائيل على هجوم إيران المباشر بالصواريخ الباليستية. وبينما يواصل الجانبان الاستعداد لاحتمالية نشوب صراع واسع النطاق، سيبقى الوضع متأزِّمًا بالشرق الأوسط، مع عواقب كبيرة على الاستقرار الإقليمي والعالمي.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير