المقدمة
قلَّما ينظر الباحثون في الإلهام الذي عكسته الثورة الإسلامية في إيران على الحركات العنيفة في العالم الإسلامي كله، فبعد أن كان العنف منحصرًا في جماعات دون الدول الوطنية، بات العنف على يد الخميني والولائيين شاملًا ومدمرًا ومحميًا بدولة لا تحتضن الإرهاب فقط، بل أقامت أُسُسها الفكرية على العنف والقهر.
في فبراير من العام 1989م، أصدر الخميني «المرشد الإيراني حينذاك»، فتوى بقتل الكاتب سلمان رشدي، بسبب ما جاء في كتابه «آيات شيطانية»، الذي صدر في سبتمبر 1988م، وتأخرت فتوى الخميني ستة أشهر بعد نشر الرواية؛ ما فهمه البعض على أنه توظيف للحدث، واستغلاله لتعزيز شرعيته بين شعوب العالم الإسلامي الذي كان غاضبًا من الرواية، ولاسيّما مع ما كانت تمُرّ به إيران داخليًا من أزمات وصراعات بين أجنحة في نظام الحكم. وقيل أيضًا إن الخميني هاجم رشدي بعد انتقاد رشدي لسياسته.
وفي كل الأحوال، فإن تلك الفتوى خطيرة ومفصلية؛ لأنَّ الفتوى الصادرة من المرشد الإيراني تختلف عن الفتوى الصادرة من أيّ مرجع ديني آخر، لأنها بمثابة «الحكم الحكومي/ أو الحكم الولائي»؛ وبالتالي، فإنها في مرتبة عُليا، في سُلَّم الأولويات الشرعية، بل إنها مُقدَّمة على الحُكم الأوَّلي، فضلًا عن الحُكم الثانوي، حسب أكثر الولائيين المعاصرين. وقد تكون فتوى المرشد سبيلًا إلى هدر الدماء وإحداث فتن دينية ومذهبية، وقد تكون سبيلًا إلى الاستقرار والسلام والتسامح، لكن الذي حدث أن فتوى الخميني أحدثت عنفًا وقهرًا وانتهاكًا للأعراف والمواثيق الدولية، وتجاوُزًا لمبادئ النظام القضائي الإسلامي، الذي يحصر تنفيذ الأحكام في يد السلطة التنفيذية «أُولي الأمر»، بعد محاكمات عادلة يأخذ فيها المتهم حقَّه في الدفاع عن نفسه، والبرهنة على رأيه أو حتى الرجوع عنه.
نصّ فتوى الخميني ودوافعها
جاء في نصّ فتوى الخميني: «أُعلِنُ للمسلمين الغيارى في أنحاء العالم، بأنَّ مؤلف كتاب “الآيات الشيطانية”، الذي دُوِّن وطُبِع ووُزِّع بهدف معاداة الإسلام والرسول والقرآن، وكذلك الناشرين المطَّلعين على فحوى الكتاب، يُحكَم عليهم بالإعدام. أطلب من المسلمين الغيارى المبادرة إلى إعدام هؤلاء على وجه السرعة أينما وجدوهم؛ كي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على الإساءة إلى مقدَّسات المسلمين. إن كلَّ من يُقتَل في هذا الطريق يُعتبَر شهيدًا إن شاء الله. وإذا كان بوسع أحد العثور على مؤلف الكتاب ولا يستطيع إعدامه، فليُطلِع الآخرين على مكانه؛ لينال جزاء أعماله». ثم أغلق الخميني الباب أمام توبة الكاتب، فقال: «إن سلمان رشدي حتى لو تاب وأضحى زاهدَ عصره، فإنه يجب على كلّ مسلم أن يجنِّد روحه وماله وكل همِّه لإرساله إلى الدرك الأسفل».
ونلحظُ هنا استعمال الخميني للفظ «الحُكم»، ولم يستعمل لفظ «الفتوى»؛ ما يجعل مسألة قتل الكاتب من الضروريات، وليست من الثانويات.
وأكَّد المرشد الحالي علي خامنئي سريان ذلك الحُكم، وعدم بطلان فاعليته، في عام 2017م؛ ما يؤكد أن المسألة مركزية عند النُّخبة الدينية الإيرانية، وليست مجرد فتوى وقتية وظرفية من الخميني.
وبعد حادثة محاولة قتل سلمان رشدي من قِبَل شخص شيعي أمريكي من أصول لبنانية، لم تتنصَّل إيران من الفتوى، بل هنَّأت صحيفة «كيهان» الإيرانية منفِّذ الهجوم، وكتبت: «مبروك لهذا الرجل الشجاع المدرك للواجب، الذي هاجم المرتد والشرير سلمان رشدي»، وأضافت: «لنقبِّل يد من مزَّق رقبة عدو الله بسكين». وخرج شيخٌ ولائي مقرَّب من حزب الله اللبناني، ليُثني على محاولة قتل «المرتد» سلمان رشدي، بوصفه «محاربًا»، وليس مجرد شخص «مرتد».
لكن ثمة نقاط في الفتوى لم تأخذ حظها من الإمعان والتأمل، فالخميني لم يُفتِ بقتل سلمان رشدي وحده، إنما أفتى بقتل كلّ من عاونه من قائمين على دورِ النشر والطباعة والمكتبات التي تبيع، ونحو ذلك. ثم وجَّه أوامره إلى «كافة» المسلمين في الشرق والغرب، وليس إلى الحكومات ولا المؤسسات، بل إلى العامَّة ليُسارعوا بـ «إعدام» هؤلاء جميعًا، «أينما وجدوهم»؛ أيّ سواءً وُجِدوا في بلدٍ إسلامي أو غير إسلامي؛ وبالتالي، فتَحَ الباب أمام ممارسة العنف خارج نطاق الدول ومؤسساتها الرسمية، مع ما يقتضيه من تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، بوصفهم ضد القوانين والأعراف الدولية. ولا يوجد فارق حقيقي بين هذا التوجُّه وبين ما تفعله «داعش» و«القاعدة» من قتل وسفك للدماء، دون أيّ محاكمات حقيقية. وخطاب الخميني لكافة المسلمين فيه أيضًا استعلاء، بوصفه مرشدًا لجميع المسلمين، وليس للإيرانيين فقط، أو «ولي أمر الإسلام والمسلمين»، كما يردِّد الإعلام الإيراني دائمًا.
شرعنة الاغتيال: دلالات الحدث
ويحيلنا هذا إلى تساؤلٍ مشروع: ماذا ستستفيد إيران من سريان ذلك الحُكم بالإعدام، على الرغم من أنه قد يحمل دلالات سلبية ضد الدولة الإيرانية وسياستها؟! والجواب أن النُّخبة الولائية الحاكمة في طهران ترى نفسها الممثّل الشرعي والوحيد للتصرف باسم الإسلام، وتلك النُّخبة هي تقليدية تؤمن بالتراث كما هو، بعيدًا عن أبعاده المقاصدية، وبعيدًا كذلك عن إعمالِ قاعدة اعتبار «العوائد والأعراف»، التي تعتبِر الزمان والمكان، ولا تفرِّق بين المسائل التراثية كقراءة بشرية وبين مراد الله في نفس الأمر، ثم هي أيضًا لا تؤمن بنظرية التصويب، لا في الأصول ولا في الفروع، فما يراهُ الحاكم/ المرشد، يكون نافذًا حتى على غيره من فقهاء ومراجع؛ وبالتالي، إلغاء رأي الناس في الخيارات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، حسب الفيلسوف الإيراني التنويري عبد الكريم سروش.
ومن الدلالات المهمة أيضًا لتلك الفتوى، إقصاء الآخر وعدم قبوله بالكلِّية، فكما أن النُّخبة الدينية تُقصي الآخر داخليًا، فهي تُقصي الآخر خارجيًا. لا تريد السلطة أن تسمع إلَّا ما يوافق قراءتها وسياستها، وإلَّا كان العنف سبيلًا وحيدًا للتعامل.
ليست المسألة هنا إذن دفاعًا عمَّا كتبه سلمان رشدي، لكن المسألة عن السياسة الإيرانية في التعامل مع المخالفين دينيًا ومذهبيًا، فهل الحل هو القتل؟ أم الحوار والإقناع، واتّباع سياسة «لا إكراه في الدين»، «إنك لا تهدي من أحببت»، «إلى الله مرجعكم جميعًا». ثم وجوب توفُّر محاكمات عادلة، توافق الدساتير المحلية، والأعراف الدولية العقلانية.
ولا تكمن المشكلة الرئيسية في التراث الشيعي أو السنِّي، أو غيرهما، بل تكمن المشكلة في اليمين المتطرف في كلّ مذهب، أيّ في العقول التي تنظر إلى ذلك التراث، وتريد تفعيله وإحياءه في الواقع، دون نظر إلى السياقات والمآلات والمقاصد، والظروف التي سيقَ فيها.
الولائيون، وعلى رأسهم الخميني، محافظون تقليديون دينيًا راديكاليون سياسيًا، وقراءتهم هي نسخة متطرفة للتشيُّع، على غرار القراءة الصفوية التي نقلت التشيُّع من فقه الانتظار إلى فقه الدولة والنيابة عن المعصوم، وبعد أن كان الفقيه يستعمل أدوات الفقه والأصول وعلوم الآلة، بات يستعمل أدوات الدولة لمَّا ملكَ زمامها وهيمنَ عليها. لكن الدولة لا تستقيم مع التقليدية المحافِظة، فالفقه إنما سيقَ لاختيارات الأفراد، وقلما يتطرَّق إلى مآلات الأمة والجماعة، بوصفِ ذلك عملًا للفقه السياسي، وهو حلقة الضعف التي اعترت الدرس الحوزوي قديمًا وحديثًا. مع ذلك، فإن الخميني تعامل مع الدولة بمنطق الفقيه والمتكلم، لا بمنطق السياسة وفقه الضرورة، والواقع، والأولويات.
وليست فتوى قتل سلمان رشدي هي الأولى، ولن تكون الأخيرة، فثمَّة فتاوى ومقولات تكفيرية تغذِّي اليمين الشيعي المتطرف المعاصر، مثل القول بـ «نظرية ركنية الإمامة للدين»، وتكفير مُنكِرها، فحسب الشيخ الصدوق: «فإن المُنكِر للإمامة كالمنكِر للنبوة»، ويقول الشيخ المفيد: «واتفقت الإمامية على أن من أنكَر إمامة أحد الأئمة، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار»، ويقول ابن نوبخت: «دافعو النصّ كفرة، عند جمهور أصحابنا». وتلك التقريرات وإن قيلت قديمًا في سياقات فقهية وكلامية، فيجب أن يُنظَر إليها اليوم على أنها مقولات تمثِّل تاريخ العلم، وليس العلم نفسه، أما استحضارها في دوائر الدولة ومؤسساتها واعتقاد النُّخَب الحاكمة بها، فيؤدي حتما إلى تطرف ملحوظ، حتى ولو لم يصل إلى العنف المباشر، لكنه يُغذِّيه في مرحلةٍ ما.
هناك أمرٌ آخر لا يمكن إغفاله، وهو أن الذي ينفِّذ الأحكام الشرعية، عند الأصوليين السنَّة والشيعة، هم أولياء الأمور، أو ما يُسمَّى تاريخيًا بـ «الخليفة»، أو «الإمام»، وليس الأمر موكولًا إلى الناس والعامة، وإلَّا لاستحال الأمر إلى هرج ومرج، أو بعبارة الجويني: «وفي تمليكِ الرعايا أمورَ الدماء، وشهْرَ الأسلحة، وجوهٌ من الخبل، لا ينكرها ذو العقل». ونفس الأمر إلى حدٍّ كبير، في الفقه الشيعي التقليدي، إذ يذهب آندرو نيومان إلى أن كتاب الحدود في فروع «الكافي»، «لا يحتوي على أيّ شاهد يدُلّ على أيّ تفويض رسمي من قِبَل الأئمة المعصومين لغرض تطبيق الحدود».
أستاذية العالم والطموح المُتوهَّم
يؤمن الولائيون بسيادة العالم، ولا يرون إمكانية التعايش مع أيّ ثقافة أو أيديولوجية مخالفة لثقافتهم، وقد أفاض في ذلك الفقيه الإيراني مرتضى مطهري في كتابه «المجتمع والتاريخ». وهُنا مكمن الإشكال، فالإيرانيون عندما يمارسون العنف في الإقليم إنما يمارسونه عن دين وعقيدة، لإخضاع العالمين لنموذجهم وقراءتهم، وإذا أجَّلوا التمايز والمواجهة خارج الإقليم، إنما يفعلون ذلك من باب التقية والبراجماتية لتوفُّر الردع المفرط عند خصومهم من القوى الدولية، أما إذا سنحت الفرصة فسنجد أنهم يتعاملون مع العالم مثل ممارستهم في الإقليم، من محاولات زعزعة، ودعم لميليشيات، وخرق كافة المواثيق والعهود، ونحو ذلك. وهو ما ألمح إليه هنري كيسنجر في «النظام العالمي»، عندما قال: إن «خامنئي يعلن على الملأ تبنِّي مشروع بناء نظام عالمي جديد بديل ومناقض للنظام المعتمد، والمُمارَس من قِبَل الأسرة العالمية. يقوم القائد الأعلى لإيران المعاصرة بإعلان أن المبادئ الدينية الكونية الشاملة لا المصالح القومية، ستسود العالم الجديد الذي يتنبَّأ به».
لكن كيسنجر خلُص إلى أن تكرار تلك النغمة من التصريحات على مدار أكثر من ثلاثين عامًا، روَّض العالم وجعله متآلفًا مع راديكالية هذه العواطف، والأفعال الداعمة لها.
وعلى الرغم من جريمة الإقدام على محاولة اغتيال رشدي، وفقًا للمبادئ والقيم الغربية، إلَّا أن مستوى التنديد الغربي لم يكُن على قدر الحدث، وربما نتفهَّم هذا في سياق كلام كيسنجر السابق، أو في سياق المصالح الغربية مع إيران، ومحاولة بعض دوائر النفوذ الأمريكي إحداثَ نوع من التوازن بين الإسلام السنِّي والشيعي في المنطقة؛ وبالتالي، يتِم غضّ الطرف عن بعض الأفعال المتهوّرة لإيران في سياستها الداخلية والخارجية.
المفارقة هنا، أن الإيرانيين في الوقت الذي يصدِّرون فيه للداخل والخارج على أن النظام الإيراني هو حصن الدين، إذ بهم يرعونَ في نفس الوقت بعض كُتّاب اليمين العلماني المتطرف، الذين هم أشدّ معارضةً لأحكام الإسلام وقطعياته من سلمان رشدي، فقط لأنهم يخدمون الأجندة الإيرانية، أو معارضون لسياسة المملكة العربية السعودية، مثل بعض الكُتّاب المصريين والعراقيين والأردنيين، وغيرهم.
إذن، نحن أمام استحضار متبعِّض ومجتزئ للدين، لكن البراجماتية أو التقية تُتيح لهم التخلُّص من كلّ تبعية أمامَ قواعدِهم الشعبية، وتسمح بسيولة في القرار السياسي، وبالقفز إلى مربعات تكاد تكون متباينةً ومتعارضة في آنٍ واحد.
وأخيرًا؛ فإن الاغتيال يأتي كجزء من ذلك المفهوم عند النُّخَب الإيرانية؛ مفهوم الهيمنة والسيادة والأستاذية، ورفع المرشد إلى درجة أقرب إلى العصمة، فلا يجوز نقده أو الاستدراك عليه. وما لم تُواجَه إيران من قِبَل الفاعلين الإقليميين والدوليين، فإنها ربما تستمر في سياسة المزاوجة بين الفتوى والاغتيال، والإقدام على سفك مزيدٍ من الدماء لمواطنين إيرانيين وغير إيرانيين، بما يتبعُهُ من مزيد من انتهاك الدساتير والقوانين والأعراف الدولية، بل حتى انتهاك مبادئ الشريعة الإسلامية في مسائل الحُكم والقضاء.