طفت على السطح قضية فسادٍ مالي جديدة في إيران مؤخرًا، بقيمة مليارَي دولار في مجال استيراد الشاي من الخارج. وتُظهر الحكومة الحالية نفسها على أنها هي التي كشفت عملية الفساد الأخيرة، لا المتسبب فيها، في إشارةٍ ربما إلى مسؤولية الحكومة السابقة. والحقيقة أنّ قضية فساد الشاي هي مجرد قضية واحدة، ضمن سلسلة طويلة مُتتالية من عمليات الفساد المالي المليارية خلال عقودٍ من عمر الجمهورية الإسلامية الإيرانية. على سبيل المثال لا الحصر قضايا فساد وقعت في عهد أحمدي نجاد، مثل عمولات بمليارات الدولارات لرجل الأعمال بابك زنجاني لتصدير النفط، وقضية مجموعة مساكن “شانديز” في مجال العقارات، وتنامي تورط الحرس الثوري بالتهرب الجمركي والتجاري حتى وصفهم نجاد بـِ “الأخوة المهرّبين” مع سيطرتهم على موانئ ومطارات حساسة في البلاد، وقضية الرواتب الفلكية في عهد روحاني، وغيرها الكثير من القضايا. والتي كان لها انعكاساتٌ سلبية بالتأكيد على بيئة الأعمال الخاصة والاستثمارات في إيران، والتسبب في تكاليف اقتصادية باهظة.
ومجملاً لقضية الأخيرة هي تورط مجموعة شركات تجارية تدعى “دبش للصناعة والزراعة” باستيراد الشاي من الخارج، في قضية فساد مالي بـِ 2 مليار دولار، من خلال أخذ العملات الأجنبية من الحكومة بسعرٍ مدعوم أي أقل من سعر الدولار في السوق السوداء، وبدلًا من تخصيص هذه العملات الأجنبية المدعومة لاستيراد الشاي الهندي الفاخر-الشحيح في السوق المحلي- قامت بإعادة بيع جزءٍ كبيرٍ منه في السوق السوداء لتحقيق مكاسب كبيرة وسريعة، واستيراد شاي كيني منخفض الجودة بالجزء الباقي، وذلك خلال سنوات عملها بالسوق منذ 2018م.
وبلغ إجمالي ما أخذته الشركة من عملات أجنبية مدعومة 3 مليار و 370 مليون دولار في السنوات من 2019-2022م، وخُصّص لها وحدها قرابة 80% من إجمالي العملات الأجنبية المدعومة المخصصة لاستيراد الشاي في إيران. وعلاوةً على أنها محتكرة لهذا المنتج المهم لأي سوق! بوصفه أحد منتجات “الكيف” أو تحسين المزاج الأكثر شعبيةً لدى الشعوب مثل القهوة وغيرها، يتضح أنّ ما خُصص لها خلال العامين الماضيين، يعادل إجمالي المخصص لاستيراد الدواء وحليب الأطفال المجفف وفق صحيفة “اقتصاد نيوز” الإيرانية، الأمر الذي أثار عدّة تساؤلات عن ماهية الداعمين والمنتفعين.
ولذا وجَّه أحد المقربين من حكومة الرئيس السابق روحاني، أسئلةً حول لماذا تم تخصيص 80% من مخصصات دعم الشاي لهذه الشركة تحديدًا دون غيرها من عشرات الشركات العاملة في نفس المجال؟! بينما صرح بيدرام سلطاني، العضو السابق في غرفة التجارة الإيرانية تصريحًا مهمًا لـ”راديو فردا” جاء فيه: “لا يمكن تخصيص مثل هذا المبلغ الضخم دون تعاون وتنسيق واسع النطاق، وتصاريح خاصة وموافقة من مسؤولين رفيعي المستوى، وشبكة واسعة متواطئة لتسهيل بيع العملات بالسوق الحرة” في إشارةٍ صريحة للفساد الأكبر من مجرد قضية استيراد شاي من الخارج.
ويتضح أنّ للفساد المالي تكاليف باهظة على مستوى الاقتصاد ومستوى المعيشة في إيران خلال العقود الماضية، مثل طرد الاستثمارات الأجنبية، وحتى الاستثمارات ورؤوس الأموال المحلية وغياب المنافسة الحُرة، والنزعة لتسييل الأصول الإنتاجية، وتفضيل الربح السريع والمضاربات بدلًا من الاستثمار والإنتاج لتوفير المنتجات للمستهلكين. وبالفعل شهدت السنوات الماضية نزوحًا متناميًا لرؤوس الأموال الإيرانية للخارج، للاستثمار بدول الجوار والقطاع العقاري في تركيا.
ولا عجب إذن من قدوم ١.5 مليار دولار فقط من الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2022م، مقارنةً بأكثر من خمسة مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية في عام ٢٠١٧م وفق “اليونكتاد”، وحتى المعدل الأخير ضئيلٌ للغاية -حتى بعد توقيع الاتفاق النووي-ولا يكاد يصل إلى نصف في المئة من إجمالي تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة بين الدول. مع العلم أن قطاعًا واحدًا فقط كقطاع النفط والغاز يحتاج في الوقت الراهن إلي استثمارات أجنبية تفوق 200 مليار دولار، ناهيك عن القطاعات الأخرى التي تضررت من جرَّاء العقوبات المفروضة منذ خمسة أعوام، مثل قطاع السيارات والطيران المدني والزراعة والصناعة وغيرها من المجالات.
كما يُضيع الفساد المالي على خزينة الدولة ومخصصات التنمية في إيران، أموالًا طائلة من الجمارك أو الضرائب أو مخصصات الدعم، كما في حالة قضية الشاي الراهنة وغيرها من القضايا السابقة. علاوةً على تركز الثروة في أيدي فئات صغيرة من المحظيين والمقربين من السلطة، بينما يضطر غالبية الشعب إلى دفع الرشاوي لتمرير مصالحهم.
ولذا وجَّه مهدي نصيري، المدير الإداري السابق لصحيفة “كيهان” بقناته على تيليجرام، أصابع الاتهام إلى الجهات العُليا بخصوص قضية فساد الشاي الأخيرة قائلًا: “إنّ الفساد الهائل الأخير في الشاي لم يكن ليحدث لولا التدخل والضغط والتأثير المباشر أو غير المباشر من قِبل المؤسسات الاستخبارية والقضائية التابعة والمُعينة من قِبل المؤسسة القيادية، والتي تمتلك كل الصلاحيات في هذه المؤسسة.”
ومما يرجِّح التصور السابق، ما يظهره أحدث تقرير لمنظمة الشفافية الدولية، مطلع العام الجاري، من احتلال إيران لمرتبةٍ متدنّية عالميًا في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن المنظمة، بترتيب 147 بين 180 دولة من حيث حجم الفساد المالي، بجانب كلًا من أوغندا وأفغانستان. وذلك مقارنةً بترتيب أفضل سجَّل المرتبة 78 في عام 2003 م، أي قبل عشرين عامًا، علمًا بأنّ تمرير كثير من الاستثمارات والمشروعات الكبرى يرتبط بموافقة أو مشاركة الحرس الثوري وأذرعه الاستثمارية العاملة في كبرى قطاعات الاقتصاد كالنفط والغاز والبتروكيماويات والسيارات والمقاولات والتجارة الخارجية والتعدين، ما يمثّل عقبةً حقيقية أمام تطوير القطاع الخاص في إيران، وحُرية عمل الاستثمارات الأجنبية في حال رُفعت العقوبات مستقبلًا.
المصدر: Arab News
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد