بعد سنوات من الجدال حول الفيدرالية والحكم الذاتي بين الناشطين والسياسيين الإيرانيين، أعاد الرئيس الأسبق محمد خاتمي إحياء الجدل بين جموع الناشطين السياسيين، لا سيما بين أولئك الذين ما زالوا ينظرون إلى الإصلاحيين بعين الجدّ. قال خاتمي في بيان له في اجتماعٍ مع أعضاء مجلس مدينة طهران إنّ «أنسب طريقة لحكم الشعب هي الحكومة الفيدرالية، لكن دستورنا لا يسمح لنا بذلك».
وزاد الجدل في وقت لاحق بين أقطاب المفكرين السياسيين داخل إيران وخارجها، وقد تَعَجَّب البعض من إثارة إصلاحيي إيران لقضية الفيدرالية الإيرانية، لا سيما بعد فشلهم السياسي، إلّا أنَّ القضية الأساسية لهذا النقاش تكمن في أن بعض قادة إيران السابقين والحاليين يشكِّكون في قدرة «الجمهورية الإسلامية» على مجابهة التحديات الحالية أو تعديل الهياكل السياسية القائمة.
ينبغي الإشارة هنا إلى حقيقتين قبل الخوض في أي نقاش آخر، أولًا: النظام السياسي الإيراني القائم ليس نظامًا اتحاديًّا في أيّ جانب من جوانبه في ما يخص هذا المفهوم. ثانيًا: عارض بشدة كل من سلالة بهلوي والجمهورية الإسلامية إقامة نظام فيدراليّ في إيران.
ما يثير الاهتمام في هذا النقاش ذي الاتجاهين هو أن قبول أو معارضة الفيدرالية لا يقوم على الانشقاقات السياسية القديمة للعلمانية ضد الحركة الإسلامية، والديمقراطية ضد الاستبداد، والإصلاحية ضد الأصولية، والرأسمالية ضد الاشتراكية، وهيمنة الدولة ضد المجتمع المدني. يعارض بعض العلمانيين والديمقراطيين الإيرانيين الفيدرالية بقدر ما يعارضها الإسلاميون والسلطويون، وهذا هو السبب في أنَّ النقاش حول الفيدرالية كان وسوف يُثار في جميع الأحوال في إيران.
يمكن ربط أهمية هذا النقاش حول الفيدرالية في هذه المرحلة الزمنية في إيران بثلاثة عوامل أساسية:
(1) ضعف وعدم كفاءة الحكومة المركزية في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين الذين يعيشون في المحافظات الحدودية والمناطق الهامشية.
(2) الميل القوي بين بعض الأقليات العرقية واللغوية إلى الحكم الذاتي أو الاستقلال.
(3) القمع الدائم لهذه الأقليات وانتهاك حقوقهم الأساسية، مثل حق التعليم بلغتهم الأمّ أو انتخاب المسؤولين المحليين.
حجج المطالبين بالفيدرالية الإيرانية
لقد سعى الفيدراليون الإيرانيون لإثبات كفاءة وصحّة وشرعية الفيدرالية من عدة زويا ثقافية وسياسية واقتصادية. وفي ما يلي خمس من الحجج الرئيسية التي يعتمد عليها مؤيِّدو الفيدرالية:
(1) الفيدرالية على المدى البعيد هي أفضل طريقة للحفاظ على وحدة إيران. ونظرًا للتنوُّع الديمغرافي في إيران فإنّ النظام الذي لا يوفِّر أقصى قدر ممكن للمواطنين من المشاركة السياسية لا يمكن أن يعزِّز ويحقق الوحدة الوطنية. وتُعَدّ الخطوط الفاصلة بين المقاطعات في النظام الاتحادي، التي يرى البعض أنها سبيل لتقسيم الدولة، خطوطًا جغرافية وإقليمية وليست بالضرورة عرقية أو لغوية أو دينية، وذلك لأن الفيدرالية هي لكل إيران وليست فقط محصورة في بعض المناطق.
يجب على أولئك الذين ينظرون إلى الفيدرالية كطريق إلى انهيار الدولة أن ينظروا إلى التجارب الناجحة لهذا النظام. وهناك عديد من الدول، مثل الهند وكندا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها كثير من الدول التي يقطن فيها سكان أكبر عددًا وأكثر تنوُّعًا من إيران، تعيش تحت حكم فيدرالي ولم تتفكَّك بعد، ونجح النظام الفيدرالي في الحفاظ على تماسك هذه الدول، على الرغم ممّا تحتضنه من مجتمعات ذات خلفيات ثقافية ودينية مختلفة متنوعة.
(2) تقدِّم اللامركزية من خلال الفيدرالية وسيلة لمكافحة الفساد، إذ إنّ أحد أهمّ الأسباب الرئيسية للفساد في إيران هو تركيز الموارد في أيدي مجموعات قليلة من الناس. وحتى لو انتُخِب هؤلاء الأشخاص ديمقراطيًّا (وهم ليسوا كذلك)، فإنّ وضع السلطة والثروة الهائلة التي في أيديهم هي طريق للفساد.
(3) تُعَدّ الأنظمة الفيدرالية أكثر كفاءةً في التعامل مع التحدِّيات المحلية. الفيدرالية ليست آيديولوجيا سياسية، لكنها طريقة فعّالة لحل المشكلات الإقليمية. منذ ما يقرب من تسعة عقود كان تعيين مديرين من طهران لتحقيق التقدُّم في جميع أنحاء البلاد نموذجًا إداريًّا فاشلًا. وكانت الإدارة الإقليمية والمحلِّية ضحية لهذا النظام المركزي. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن عملية صنع السياسات الوطنية ناجعة في بلد يتمتَّع بتنوُّع بيئيّ وثروات متعدِّدة وكثافة سكّانية عالية.
(4) يعتبر النظام الحالي غير الفيدرالي في مأزق، فلا يؤمن النظام المركزي الحالي بسيادة المناطق والمدن على مواردها، إذ ينقل المياه ومواد التعدين والموارد النفطية من الأقاليم الأصلية إلى أقاليم أخرى، دون أن يستفيد أهالي أقاليم الثروات الطبيعية منها. وهذا أدّى إلى نشوب العداء والخصومة بين سكان البلاد.
(5) باستثناء الحقبة المعاصرة، فإنّ إيران طَوال 25 قرنًا من عمرها كانت دائمًا تحكمها حكومات متفرِّقة أو حكومات إمبريالية. وكانت الأجزاء المختلفة من الامبراطورية خاضعة أيضًا لشكل من أشكال الحكم الذاتي المحلي. كان شاه إيران يُدعى «الشاهانشاه» أو ملك الملوك، لأنّ هناك حُكّامًا محلِّيين لم يعيِّنهم الملك لكنهم اعتادوا على دفع مبالغ معينة من الفدية أو الضرائب لزعماء الامبراطورية.
الحجج ضد الفيدرالية:
يخوض المعارضون للفيدرالية الإيرانية جدلًا حامي الوطيس، تمامًا كأولئك المدافعين عنها، وهنا نعرض أهمّ أربع حجج للمعارضين لهذا النظام من الحكم:
(1) قد تؤدِّي الفيدرالية في بلد مثل إيران، التي تصدح فيها أصوات معارضة عالية في بعض المناطق، إلى تمزيق النسيج الوطني، وإشعال فتيل حرب أهلية وعرقية. صحيح أن الأكراد والبلوش والأتراك في أجزاء مختلفة من إيران غالبًا ما يرغبون في الحصول على الحكم الذاتي، لكن إذا أُعطِيت لهم الفرصة وتقلَّصت الضغوط السياسية والأمنية عليهم فسيطالبون بالاستقلال. عديد من الأحزاب والجماعات في أجزاء مختلفة من إيران طالبوا بالانفصال علانية، وكثيرون منهم يطلقون على أنفسهم «أمّة»، وليس «مجموعة إثنية»، لذلك تتعارض الفيدرالية مع المصالح الوطنية، وهي بداية لتفكُّك البلاد.
(2) لم تكن هناك أيّ خطط لتبنِّي الفيدرالية في إيران منذ 150 عامًا، لذلك فإنّ إقامتها في مجتمع لم يمارسها سيؤدِّي إلى اندلاع الفوضى، فهي تتعارض مع مصلحة البلاد. الفيدراليون أنفسهم لم يفصحوا ما هي خطتهم للانتقال من نظام مركزيّ إلى فيدراليّ، لا سيما أنّ مجالس المدن والقرى تملك سلطات محدودة للغاية، كما أن خبرتها في الحكم محدودة أيضًا، بينما الفيدرالية تتمتَّع فيها الحكومات المحلِّية بسلطات أوسع بكثير، والنخبة السياسية والشعب الإيراني ليسوا مستعدّين لذلك.
(3) ما يمكن أن تفعله الفيدرالية في إيران (مثل الحكومة المحلِّية)، يمكن القيام به من خلال تمكين المؤسسات المدنية، وإضفاء الطابع المؤسسي للديمقراطية الوطنية. لذا، بدلًا من التركيز على الفيدرالية، من الأفضل تقوية المؤسسات الديمقراطية والمدنية.
(4) لقد كانت الفيدرالية بمثابة خطة لدمج الدول القومية المجزَّأة والممزَّقة، وليست خطة لإدارة الدولة الواحدة. ولدى إيران هُوِيّة موحَّدة، ولا نحتاج إلى بنائها من الصفر لاحتضان الفيدرالية.
الجمهورية الإسلامية والإدارة السياسية للبلاد:
عارضت جمهورية إيران الإسلامية أيّ شكل من أشكال الحكم الذاتي الفيدرالي منذ اليوم الأول لنشأتها، ولا علاقة لهذا للنظام السياسي الإيراني بحجج طرفَي هذه القضية إلا أنّه نظام مركزي يضع التشريعات والسياسة وصنع القرار في أيدي النخبة السياسية. لذلك، ما دامت الجمهورية موجودة فيستحيل إقامة نظام فيدرالي. لذلك نجد أن معارضي الفيدرالية هم حلفاء بالفطرة، ومؤثِّرون في الحكومة الإيرانية الحالية.