باتت القضية الكردية اليوم واحدة من أكثر القضايا المطروحة والملحَّة على مستوى الشرق الأوسط، وذلك بسبب المتغيرات السياسية والاجتماعية والأمنية التي ترتبط بها وتؤثر على المنطقة بأسرها.
إيران التي يقطنها نحو 11 مليون كردي، ظلّت تتابع تطوُّرات القضية الكردية في تركيا والعراق وسوريا بحساسية كبيرة، بخاصَّة بعد أن حصل الأكراد في هذه الدول الثلاث على بعض حقوقهم القوميَّة بنسب متفاوتة، بيد أن طهران لا تزال تعارض أبسط الحقوق القوميَّة، كالزِّيّ الكردي في الإدارات والمؤسَّسات وتعليم اللغة الأم في المدن الكردية.
الهواجس الإيرانيَّة من احتمال استقلال الأكراد دفع السلطات الإيرانيَّة خلال الأشهر الأخيرة إلى إعدام مئات النشطاء الأكراد المطالبين بالحقوق القوميَّة والسياسية الدينية بتُهَم فضفاضة، مثل الإخلال بالأمن القومي والاتجار بالمخدرات ومعاداة النِّظام الإيرانيّ.
تعود المخاوف الإيرانيَّة من تطوُّر القضية الكردية إلى فترة الاحتلال الأمريكيّ للعراق وسقوط نظام صدام حسين في 2003، إذ كانت طهران تخشى من توسُّع الأكراد في حكمهم الفيدرالي وتَصاعُد مطالباتهم الداعية إلى الانفصال وتكوين كيان كردي مستقلّ، مِمَّا قد يشجِّع الأكراد الإيرانيّين وبقية القوميات المنتشرة في عدد كبير من المدن والمناطق، على المطالبة بنفس الحقوق، فسعت إيران إلى إضعاف وإفشال أي طموح كردي للانفصال عن العراق، كما حذرت مسعود بارزاني مرات عديدة من السعي لتقسيم العراق.
عادت القضية الكردية إلى الواجهة بقوة عندما أعلن رئيس إقليم كردستان في أبريل 2017، توصله إلى اتفاق مع عدد من الأحزاب الكردية حول إجراء استفتاء لأكراد العراق في الخامس والعشرين من سبتمبر المقبل لتحديد إن كانوا يرغبون في الاستمرار في الحكم الذاتي أم الانفصال عن العراق.
هذا الإعلان قُوبِلَ بردود فعل غاضبة من المسؤولين الإيرانيّين، وتجلت هذه الردود بشكل واضح من خلال تصريحات المرشد الأعلى للنظام الإيرانيّ علي خامنئي في أثناء لقائه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في يونيو 2017 بالعاصمة الإيرانية طهران، وأبدى خامنئي خلال هذا اللقاء معارضته الشديدة لقرار بارزاني القاضي بإجراء استفتاء لانفصال هذا الإقليم، واعتبر أن كل مَن يثير هذا الأمر ضدّ استقلال وهوية العراق.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانيَّة بهرام قاسمي، إن قرار السلطات في أربيل بإجراء استفتاء في كردستان العراق هو إجراء منفرد وبعيد عن المعايير والأطر الوطنية والشرعية، وسيؤدِّي إلى مزيد من المشكلات ويفاقم الأوضاع الأمنية في العراق، وأعلن أن موقف بلاده هو دعم وحدة الأراضي العراقية وسلامتها. أما السفير الإيرانيّ في بغداد إيرج مسجدي فقد أعلن أنه سيبحث موضوع الاستفتاء مع رئيس الإقليم كردستان، كما أعلن استعداد بلاده للتوسط في حلّ الخلافات بين بغداد وأربيل.
القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري انتقد تصريحات المسؤولين الإيرانيّين، وقال إن الاستفتاء هو قرار كردي بحت، واتهم إيران بأنها الدولة الوحيدة التي ترفض إجراءه، مشيرًا إلى أن الاعتراضات الخارجية لإجرائه تتركز في التوقيت والمسائل الفنية فقط.
وبإعلان مسعود بارزاني إجراء استفتاء في هذا الإقليم وجدت إيران نفسها أمام مأزق كبير وخطر حقيقي قد يهدّد أمنها الداخلي ووحدة أراضيها، وبدأت في البحث عن سبل لوقف هذا الاستفتاء أو مروره بأقلّ تأثير على أكرادها الذين بدؤوا مؤخَّرًا حراكًا مكثَّفًا ضدّ طهران، لا سيما بعد انضمام عدد من الأحزاب الكردية مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني (الإيرانيّ) وحزب الحياة الحرة، إلى خيار النضال المسلَّح ضد النِّظام الإيرانيّ، وترى هذه الأحزاب أنه لا خيار لديها سوى معاودة القتال ضدّ قوات هذا النِّظام، اذا استمرت معاناة الأكراد ولم تجد مطالبهم آذانًا صاغية.
التحالفات الإيرانيَّة مع بعض الأحزاب الكردية
إيران التي لا تملك أوراقًا قوية لمنع إجراء الاستفتاء، دأبت على توظيف علاقاتها الجيدة مع بعض الأحزاب الكردية المناهضة لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني، مثل حزب الاتِّحاد الإسلامي الكردستاني وحزب الاتِّحاد الوطني الكردستاني الذي يقوده الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، وحركة التغيير “غوران” التي أسَّسها الراحل نوشيروان مصطفى في عام 2009 بعد انفصاله عن حزب الاتِّحاد الوطني الكردستاني بعد خلافات مع زعيم الحزب جلال طالباني، ويقودها حاليًّا عمر سيد علي وتتخذ من مدينة السليمانية مقرًّا لها. كما استغلت طهران إعلان هذين الحزبين رفضها القاطع لإجراء أي استفتاء لانفصال الإقليم في الوقت الراهن، بحُجَّة أن بارزاني انتهت ولايته ولم يعُد له الحقّ في إدارة الإقليم وتقرير مصيره، كما اعتبرت الأحزاب الكردية الرافضة لسياسات بارزاني موضوع الاستفتاء مجرَّد ورقة يلوِّح بها الحزب الديمقراطي الكردستاني عندما تتأزم علاقاته مع بغداد.
وفي إطار المساعي الإيرانيَّة لدعم الأحزاب الكردية المتحالفة معها والتأثير على الاستفتاء، أجري المسؤولون الإيرانيّون محادثات مطوَّلة مع رئيس الحزب الاتِّحادي الكردستاني جلال طالباني الذي زار طهران في يوليو الماضي، وركزت هذه المحادثات على الاستفتاء المزمع إجراؤه في سبتمبر المقبل.
يأتي التنسيق والدعم الإيرانيّ لحزب الاتِّحاد الوطني الكردستاني للحفاظ عليه كقوة سياسية موازنة للحزب الديمقراطي الذي يقوده مسعود بارزاني، الحليف الاستراتيجي لتركيا الذي ويتمتع كذلك بعلاقات جيدة مع الولايات المتَّحدة.
ووصل النفوذ الإيرانيّ في هذا الحزب الذي يُعَدّ حليفًا رئيسيًّا لطهران في كردستان العراق، إلى حدّ التدخل لمنع تفكُّكه وإنهاء الخلافات التي نشبت بين أعضائه بعد تَعرُّض جلال طالباني لجلطة دماغية في 2012، واستطاعت أن تقنع القيادات الرئيسية فيه بالاستمرار في الحزب.
أما حركة التغيير الكردية التي تأسست بعد انفصال مؤسَّسها نوشيروان مصطفى من الاتِّحاد الوطني الكردستاني، فيتهمها خصومها بأنها كسرت الإجماع الوطني الكردي وأنها سلاح إيران ضدّ بارزاني.
استطاعت هذا الحركة في وقت قصير كسب قاعدة جماهيرية كبيرة وفي انتخابات برلمان إقليم كردستان التي أُجرِيَت في عام 2013 حصلت على 24 مقعدًا من إجمالي عدد مقاعد البرلمان التي تبلغ 111 مقعدًا، وانتُخِبَ يوسف محمد صادق، أحد قيادات هذه الحركة، رئيسًا لبرلمان الإقليم، وفي انتخابات مجلس النواب العراقي الأخيرة التي أُجرِيَت في 2014 حصلت على 9 مقاعد من 328.
لعل ما زاد النفوذ الإيرانيّ داخل حركة التغيير الكردية خلال السنوات الأخيرة، هو رفض الحركة استمرار مسعود بارزاني في قيادة الإقليم، الأمر الذي أغضب مسعود بارزاني وأعضاء حزبه فأمروا في 2015 بطرد وزراء الحركة من الحكومة، كما أقصوا رئيس البرلمان يوسف محمد صادق ومنعوه من مزاولة عمله.
وبعد إعلان رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، عبَّرَت حركة التغيير عن رفضها الشديد إجراء الاستفتاء في الوقت الراهن بحُجَّة أن الأرضية غير ممهدة في كردستان لإجرائه، وبسبب ملفّ المناطق المتنازع عليها مع بغداد، وكذلك المشكلات العالقة داخل الإقليم.
وظفت إيران رفض حركة التغيير للاستفتاء وكثفت لقاءاتها مع قادة وأقطاب الحركة لحَثِّهم على رفض الجهود التي تبذلها حكومة الإقليم لإقناعهم بضرورة المشاركة في الاستفتاء. آخر هذه اللقاءات كان بمدينة السليمانية، حيث التقى القنصل الإيرانيّ في أردبيل مرتضى عبادي، مع زعيمَ الحركة عمر سيد علي، وأجرى الجانبان مشاورات حول استفتاء الخامس والعشرين من سبتمبر، كما اتفق الطرفان على ضرورة استمرار العلاقات الوثيقة بين طهران وحركة التغيير.
الجهود الإيرانيَّة لتوظيف القلق التركي من الطموح الكردي
رغم الخلاف بين إيران وتركيا حول عدد من الملفات، فإن الطموح الكردي إلى الانفصال دائمًا ما يجمعهما، لخشيتهما من انعكاساته المستقبلية على أمن واستقرار البلدين.
فالعلاقات السياسية والاقتصادية الوثيقة بين الحكومة التركية ومسعود بارزاني، لم تمنع أنقرة من التعبير عن رفضها للاستفتاء المزمع إجراؤه في كردستان العراق، وفي هذا الإطار وصف رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم خطة أكراد العراق لإجراء استفتاء على الاستقلال بأنها “غير مسؤولة”، وقال إن المنطقة بها ما يكفي من المشكلات. أما وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، فأعلن أن المُضِيّ قُدُمًا في هذا الاستفتاء سيشكِّل خطأً فادحًا، ودعا الأكراد إلى العمل على وحدة العراق. وفي زيارته الأخيرة لبغداد قال أوغلو إن بلاده تتطلع إلى تراجع أربيل عن قرار الاستفتاء، مؤكّدًا أن الحقوق التي تطالب بها كردستان مُهِمَّة، لكن على أربيل أن تطالب بحقوقها ضمن الحدود العراقية الواحدة.
معارضة المسؤولين الأتراك للطموحات الكردية ومواقفهم الرافضة للاستفتاء تنسجم إلى حدّ كبير مع الموقف الإيرانيّ.
هذا التطابق في وجهات النظر كان أحد أهَمِّ الأسباب التي شجَّعَت رئيس هيئة الأركان الإيرانيَّة محمد باقري على زيارة أنقرة الأسبوع الماضي، وخلال زيارته لتركيا التقى باقري مع الرئيسَ التركي رجب طيب أردوغان في حضور وزير الدفاع نور الدين جانيكلي ورئيس الأركان الفريق أول خلوصي أكار، وعقب اللقاء أعلن باقري أن لدى طهران وأنقرة موقفًا مشترَكًا رافضًا للاستفتاء، وأنهما متفقتان على أن الاستفتاء سيشكِّل أساسًا لسلسلة من التوتُّرات والمواجهات داخل العراق، قد تطال دول الجوار.
واشنطن تمسك العصا من الوسط لإرضاء بغداد وأربيل
الولايات المتَّحدة وجدت أنها وقعت في حرج سياسي مع بغداد وأربيل اللتين تجمعهما علاقات طيبة مع واشنطن، وللخروج من هذا الحرج والحفاظ على علاقات متوازنة مع حليفيها (الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان)، كان لا بد من مخاطبتهما بلغة دبلوماسية ترضيهما معًا، ففي الحادي عشر من أغسطس طلب وزير الخارجية الأمريكيّ ريكس تيلرسون من رئيس حكومة كردستان تأجيل الاستفتاء، ولم يطلب منها إلغاءً نهائيًّا، بل اعتبر أن الاستفتاء يمثل أولية بعد هزيمة تنظيم داعش وطرده من الأراضي العراقية. أما وزير الدفاع الأمريكيّ جيمس ماتيس فقد قام بزيارة مفاجئة لبغداد في الثاني والعشرين من أغسطس الجاري، ورغم أن الغاية من الزيارة هي تأكيد دعم الولايات المتَّحدة لحرب العراق ضدّ داعش وإعادة النازحين، فإنه أعلن خلال لقائه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن بلاده حريصة على أمن العراق وترفض أي إجراء يهدف إلى تقسيمه وزعزعة استقراره. وبعد محادثاته مع العبادي سافر ماتيس إلى أربيل والتقى مسعود بارزاني وشكره على قيادته القوية لقوات البيشمركة التي أسهمت في دحر تنظيم داعش، ورغم أنه لم يتطرق إلى موضوع الاستفتاء فإنه حثّ بارزاني على “الانخراط في حوار دائم” مع العبادي وجعل التركيز منصبًّا على إلحاق الهزيمة بداعش.
في خضم التطورات المتلاحقة التي يشهدها إقليم كردستان، وفي غمرة المصالح المتشابكة بين إيران والحكومة العراقية من ناحية، والمخاوف التركية-الإيرانيَّة المشتركة من انعكاسات هذه الاستفتاء على أمنهما من ناحية أخرى، يبدو أن الفترة القادمة ستشهد جملة من المحاولات الإيرانيَّة لإجهاض الاستفتاء، وقد تصل هذه المحاولات إلى ممارسة مزيد من الضغوط على بغداد لتقديم بعض التنازلات لحكومة كردستان بغية وقف المشروع أو تأجيله على أقلّ تقدير، كما أن الضغوط الأمريكيَّة على أربيل ودعوتها لتأجيله والتركيز على عملية القضاء على داعش، قد تخدم أهداف إيران المتمثلة في إفشال جهود مسعود بارزاني لإجراء الاستفتاء في موعده المحدَّد.