محمد الصياد
باحث في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)
سليمان الوادعي
باحث في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)
مقدمة
تظلُّ مسألة العلاقة بين الدين والدولة، وتداخُل التأثير الروحي والمادي، واللاهوتي والسياسي، من المسائل المهمَّة والإشكالية، في دراسة الأنظمة السياسية الدينية، ومؤسَّساتها الروحية الفاعلة في الشأن العام.
ولا يخفى الدور الفاعل لمجتمع رجال الدين الإيراني في الشأن العام، والتحوُّل الذي لحِق بالنظرية السياسية الشيعية الاثني عشرية بعد ثورة 1979م.
لذا، فإنَّنا في هذه الدراسة نعمل على استقراءٍ سريع للمراحل المفصلية في تاريخ التشيُّع السياسي ونظرياته، في محاولة لرصد المخارج والتأويلات الفقهية والفلسفية، التي اعتمدت عليها تطوُّرات الفقه السياسي الشيعي، أو إذا شِئت فقُل أيضًا الإكراهات الواقعية والسياسية والاجتماعية، من جرَّاء عمليات العلْمنة والتحديث ومرحلة الاستعمار الغربي، التي أدَّت بالجماعة الشيعية الاثني عشرية إلى تلك التحوُّلات الفكرية في لُبّ نظرية الفقه السياسي؛ تلك التحوُّلات التي أصابت المذهب برمّته، وليست القراءة الولائية فقط، فلكلٍّ مشاركةٌ في الشأن العام، ولو تحت عناوين الانتظار.
نسعى كذلك لإدراك حقيقة الصِلة بين نظرية الفقه السياسي للولائيين بعد الثورة الإيرانية 1979م، والميراث السياسي الاثني عشري، ومدى مساهمة النظرية السياسية «الخمينية» في التحوُّلات التي يَمُرّ بها الفقه السياسي الشيعي.
سيتِم البحث عن أُسُس ذلك التحوُّل ومحرِّكاته؛ هل هي أُصولٌ تراثية من داخل المذهب؟ أم هي تأثُّراتٌ من الخارج، وتحديدًا من جماعات شيعية أُخرى؛ كالزيدية والإسماعيلية؟ أم هي عواملُ متداخلة، ومتشابكة؟
لذا فإنَّنا إزاء ظاهرة معقَّدة حقًّا، ولا نملك إجابات قطعية عليها، قبل دراستها بحثًا واستقراءً، وتنقيبًا وتفتيشًا، بُغيةَ الإجابة عن تلك التساؤلات، ومن ثمَّ تصوُّر الشيء على ما هو عليه.
أوَّلًا: علمانية البذور: الإحجام عن الشأن العام
لم يكُن المذهب الشيعي الاثنا عشري عبر تاريخه الطويل، مذهبًا ثوريًّا، أو عنيفًا، ففي عصر الأئمَّة «المعصومين»، أحجمت الجماعة الشيعية عن العمل السياسي بتقرير الأئمة أنفسهم. إذ أدَّى استشهادُ الحسين بن علي (ت: 680م/ 61ه)، وعددٍ من أهل بيته، وأنصاره، إلى عزوفٍ من آل البيت عن السياسة. فابنُه علي بن الحسين المعروف بزين العابدين (ت: 713م/ 95ه) أحجم عن الشأن العام، على الرغم من قيام عددٍ من الثورات في حياته ضدّ الحكم الأُموي، ولم يشارك في ثورة أبيه على يزيد، ويُعَدّ فِكر علي بن الحسين (وصنيع عمّه الحسن) البذرةَ الأولى في توجُّه آل البيت نحوَ الدرس العلمي، والإحجام عن الشأن العام.
ثمَّ سار ابنه محمد الباقر (ت: 732م/ 114ه) على نهجه، ورفض الخروج على الأُمويين، وناظرَ أخاه زيد بن علي في مسألة الخروج؛ إذ كان زيد بن علي يرى الثورة، وشهَرَ السيف على أهل الجور، فرفض الباقر هذا النهج، وعزَّز منهج الإحجام عن السياسة، رغم أنَّ الذهبي (ت: 1347م/ 748ه) يقول عن محمد الباقر: «وكان يصلح للخلافة»[1]، ومع ذلك فلم يسعَ إليها أو يفكِّر فيها.
وبعد وفاة محمد الباقر، انتهج ابنُه جعفر الصادق (ت: 765م/ 148ه) نفس المنهج، ثمّ كافَّة «الأئمَّة» من بعده، ممَّن تعتبرهم الجماعة الاثنا عشرية أئمَّةً معصومين. وحريٌّ أن نقِف عند منهج جعفر السياسي، باعتباره مركزيًا في المذهب.
1. جعفر الصادق ونبْذ الثورة:
تبدو مرحلة جعفر الصادق (ت: 765م/ 148ه) مرحلةً فاصلة في التشيُّع السياسي؛ فحين ارتأى جعفر حماسة بعض الناس للخروج والثورة على الأُمويين، قال لهم كما يخبرنا الشهرستاني (ت: 1153م/ 548ه) في المِلَل: «إنَّ بني أُميَّة يتطاولون على الناس، حتَّى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليه، ولا يجوز أن يخرج واحدٌ من أهل البيت حتَّى يأذن الله بزوال مُلكهم»[2]. ووفقًا لهذه القناعة، رفض جعفر أن يشارك في ثورة عمّه زيد بن علي (ت: 740م/ 122ه) على هشام بن عبد الملك (ت: 743م/ 125ه)، بل حذَّر منها، ونصح زيدًا بعدم الخروج.
وإذا كان جعفر نصح أتباعه بانتظار زوال الحُكم الأُموي، فإنَّه رفض أيضًا الخروج على العبّاسيين بعد ذهاب دولة الأُمويين في حياته، ونصح أبناء عمومته بعدم الخروج عليهم، ورفض مبايعة ابن عمّه محمد النفس الزكيّة (ت: 762م/ 145ه) الذي خرج على خلافة المنصور، وبُويِع في المدينة، وقُتِل، ويقول الذهبي عن موقف جعفر من ثورة النفس الزكيّة: «واختفى جعفر الصادق وذهب إلى مالٍ له بالفرع معتزلًا للفتنة»[3].
ورغم مشاركة بعض العُلماء في ثورة النفس الزكيّة، وبعبارة الطبري فقد شارك فيها «جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم»[4]، إلَّا أنَّ أكابر فُقهاء المدينة لم يشاركوا فيها، وكان جعفر من مدرسة المدينة حينئذٍ[5].
ويقول الذهبي فيه كما قال عن أبيه بشأن الخلافة: «مناقب جعفر كثيرة، وكان يصلح للخلافة لسؤددِه وفضله وعلمه وشرفه رضي الله عنه»[6]، ومع ذلك لم يتعرَّض للإمامة، وبعبارة الشهرستاني: «وقد أقام -أي جعفر- بالمدينة مدَّة يفيد الشيعة المنتمين إليه*، ويفيض على الموالين له أسرارَ العلوم، ثمَّ دخل العراق وأقام بها مدَّة. ما تعرَّض للإمامة قط، ولا نازع أحدًا في الخلافة قط»[7]. فجمع الشهرستاني في التعريف بجعفر بين الإفادة العلمية للمنتمين إليه، وبيَّن عدم تعرُّضه للإمامة، أو منازعته لأحدٍ في الخلافة.
2.مرحلة التأسيس الحوزوي:
انتهج جعفر منهج أبيه الباقر، في التركيز على الجانب العلمي، دون الخوض في السياسة والشأن العام، وهذا المنهج ورثته الجماعة الشيعية الاثنا عشرية لمَّـا تبلورت وامتازت عن الزيدية والإسماعيلية فيما بعد، فقالت بالانتظار، ورفضت الخروج السياسي، وانتبذت بنفسها عن «الفِتَن» السياسية؛ ما أبقاها فاعِلةً حوزويًّا عندما غابت المدارس الشيعية الأُخرى بسبب الإخفاق السياسي، كما حدث مع الإسماعيلية بعد انهيار دولتهم في مصر. لكن هذه الفاعلية الحوزوية، التي أثمرت بفعل الإحجام عن الشأن العام، تآكلت فيما بعد على أيدي الصفويين، الذين وظَّفوا المذهب ورجالاته في تعزيز شرعيتهم الداخلية، ومواجهة خصومهم في الخارج.
ولا يُمكن حمل هذا التوجُّه الانتظاري في عصر جعفر على التُقية، كما يذهب بعض الحركيين الشيعة المعاصرين؛ لأنَّ كثيرًا من الثورات كانت قائمةً بالفعل، ولأنَّ مساحات من الرأي والحرِّية كانت موجودة، فكان يمكن الولوج في الشأن العام بصورةٍ ما، كالمشاركة السياسية ونحوها. ويؤكِّد تلك القراءة رفْض جعفر مجرَّد ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا ترتَّب عليه أقلّ نوع من الأضرار، وارتأى أنَّه لا يُؤمَر بالمعروف إلا إذا تيقَّن قبولُه من أهل السُلطة[8].
وبعد اختفاء الإمام الثاني عشر، وبداية عصر الغيبة الصُغرى فالكُبرى[9]، تبنَّى الشيعة الاثنا عشرية عقيدة الانتظار، فأضحى المذهب الاثنا عشري مذهبًا انتظاريًا. ولا نكاد نبالغ عندما نقول إنَّ سببًا من أسباب بقاء التشيُّع الاثني عشريّ ونموّه في العصور الوسيطة، هو اهتمامُه البالغ بالتعليم، والدرس الحوزوي، وانتباذه للسياسة والشأن العام، وقد بقِيَ بكامل طاقته العلمية والجغرافية، حتَّى عندما انتهت دولة الفاطميين من القاهرة، ذلك أنَّه لم يكُن من المعوِّلين على الدولة ودعمها حينئذٍ، ولم يكُن تشيُّعًا سياسيًّا بإطلاق.
3. بين الحكومة الشورية والولائية:
لم يشذّ جعفر عن عموم المسلمين ومدرسة المدينة في عصره، فقال بالبيعة والاختيار/الشورى، ولم يقطع بالنصّ والوصيّة في الإمامة السياسية.
ولذا ذهب بعض مفكِّري الشيعة، مثل حُجَّة الإسلام محسن كديور وغيره، إلى أنَّ إمامة الأئمَّة هي إمامةٌ دينية، وروحية، وليست إمامةً سياسية. وقد ميَّز جعفر الصادق بين الإمامة الدينية ونظيرتها السياسية عبر تدقيق النظر في مبدأين؛ فمن جِهة ألمح إلى أنَّ الإمامة السياسية تفتقر إلى الأخلاق القائمة على القِيَم والخصال الدينية التي تتحلَّى بها الأولى، ومن جِهة أُخرى سخَّف من السُلطة وممَّن يلهثُ خلفها، مرتكِزًا في حُجَّته على الإيمان بالقدر الإلهي، وأنَّ قيام الدول وزوالها بيد الله وحده[10].
وجعفر في ذلك يسير على نهج جدِّه علي بن أبي طالب، الذي قال عندما مات عثمان بن عفان، وسارع بعض الناس في مبايعته رضي الله عنه: «إنَّ بيعتي لا تكون خَفيًّا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين»[11]. وهناك ما يعضِّد هذا، ويشهد له في نهج البلاغة، ومصنَّفات الجماعة الشيعية، ويتوافق هذا أيضًا مع صنيع ابنه الحسن، عندما جمع كلمة المسلمين وتنازل عن الإمامة وذهب عن الشأن العام.
كذلك جعفر، لم يزعم نصًّا أو وصية، ففي اجتماع بني هاشم في أواخر الدولة الأُموية وأيام ضعفها، لاختيار واحد من بينهم، رشَّح أبو جعفر المنصور (ت: 775م/ 158ه) محمد بن عبد الله بن الحسن/النفس الزكيّة، وقد كان أبو جعفر المنصور لا يزال معارضًا للأُمويين، لم يصِل إلى قصر الحُكم بعد، لكن لم تتِم البيعة لمحمد بسبب غياب جعفر الصادق، ولما ذهب إليه عبد الله ابن الحسن والد محمد، وطالبه ببيعة محمد، قال له جعفر: «إنَّك شيخ، وإن شئت بايعتك، وأمَّا ابنك فو الله لا أبايعه وأدَعك»[12]. فمبدأ البيعة والاختيار كان قائمًا من حيث المبدأ، لكن الخلاف كان على الشخص الذي يستحِقّ الإمامة في رأي جعفر، ولو كان يرى أنَّه منصوصٌ عليه لما ذهب هذا المذهب.
ثانيًا: سؤال الشرعية في مرحلة الدولة الصفوية
يختلف مفهوم «الشرعية السياسية» في الفكر السياسي الشيعي، عمَّا يعنيه المصطلح في إطار الثقافة السياسية الغربية. ويتّضِح ذلك في السياقات التالية؛ أوّلًا: تكترث الشرعية السياسية الغربية باعتبارات الأوامر الحكومية واستجابة الناس لها، بينما تشير الشرعية في الفقه الشيعي إلى أولوية القِيَم والأعراف. ثانيًا: تنبثق الشرعية السياسية الغربية من مصادر مختلفة، تقليدية وكاريزمية وقانونية، في حين يُعَدّ «النصّ المقدَّس» المصدرَ الوحيد للشرعية في الفقه الشيعي (بقراءته الولائية)، وإن كانت القُدرة على تفسير وسبْر أغوار النصّ مقصورةً على عُلماء الدين والفُقهاء المختصّين، وهو السياق الذي يستند إليه مبدأ احتكار التفسير الشرعي للنصّ الديني، من قِبَل الولي الفقيه بذريعة استحقاقه الإلهي[13]. ثالثًا: في الشرعية السياسية الغربية، يُعتبَر الحصول على موافقة العامَّة مبدأً أساسيًا، سواءً في مرحلة التأسيس أو في مراحل الإصلاح، لكن الشرعية في التشيُّع السياسي لها أساسٌ طبيعيٌ سابق على إنشاء النظام والحكومة السياسية [14].
تمثَّلت أبرز الأفكار «الإصلاحية» عند الإمامية في عصر ما قبل الصفويين في مُقاربات الجنيد الإسكافي، وفُقهاء المدرسة «الحلية»[15]، وكادت تلك الجهود «الإصلاحية» أن تؤتي ثمارها على مستوى الفقه والأُصول، ومن ثمَّ على الرؤية السياسية والاجتماعية للفقيه الشيعي.
لكن ثمَّة ردَّةٌ حقيقية حصلت من جرَّاء عمليات التسييس المذهبي، التي تمَّت في عهد الصفويين، فنسفت الدولةُ الصفوية جهودَ «الإصلاح» العلمي على مستوى الأُصول والكلِّيات، بتشجيعها وتبنِّيها لنسخة متطرِّفة من «الإسلام الشيعي»، بعبارة فرهاد دفتري، والتي يُسمِّيها بـ «الشيعية الاصطفائية»[16]؛ ما كان له أثرٌ وانعكاسٌ كبير على مُجمَل الجماعة الشيعية في المنطقة.
1. الكركي والشرعية السياسية:
استعان الصفويون بالشيخ الكَرَكي (ت: 1534م/ 940ه)، لبناء الجهاز الديني الحكومي، وكان الكركي راديكاليًا على المستوى المذهبي، فوسَّع المساحات بين الجماعة الشيعية وأهل السُنَّة، بفتاواه التي تُشرعِن للَعْن الصحابة، وقمع أهل السُنَّة، واخترع «تشيُّعًا عنيفًا»، مغايرًا للخطّ الموروث، سمَّاه بعض المفكِّرين بـ «التشيُّع الصفوي»**، وسمَّاه آخرون بــ «التشيُّع القزلباشي»[17]؛ لأنَّه كان عنيفًا ومتطرِّفًا، خاصَّةً في بداياته التأسيسية.
كان الكركي مقرَّبًا من الشاه طهماسب[18]، وكانت مهمَّته الأساسية إضفاء الشرعية الدينية على جهاز الحُكم، لذا نلحْظ أنَّ عمله الفقهي انصبَّ على ما يُفيد الدولة ويخدمها، لكن عمل ابن الجنيد وفُقهاء الحلَّة كان مُنصبًّا على الإصلاح العلمي والقواعدي في الدرس الفقهي، وذلك لخلاف الواقع السياسي بين العصرين لا شكّ. وأهمّ تلك التحوُّلات الجذرية التي تبنّاها الكركي ورافقت صعوده السياسي، تكمُن في مسألتين: الأولى: شرعية صلاة الجمعة؛ فكان الرأي الغالب بين فُقهاء الشيعة عدم جواز إقامة الجمعة قبل ظهور المعصوم[19]. لكن الشيخ الكركي جوَّز إقامة الجمعة في عهد الصفويين؛ ما يعطي إيماءةً إلى شرْعنة حُكمهم، وشرْعنة نيابته عن المعصوم، فيتصرَّف في كُلّ ما مِن شأنه أن يتصرَّف فيه المعصوم[20]. واستُصدِرت هذه الفتوى؛ لأنَّ الدولة كانت في أمسّ الحاجة إلى خُطباء الجمعة في الأقاليم والمدن والقرى؛ لنشر النموذج الديني والسياسي الذي تريده الحكومة [21]، والثانية: شرعية أخذ العطايا؛ فجوَّز الكركي أخذ الفقيه من عطايا وجرايات الدولة، واعتبر الصفويون أنَّ تلك الفتوى تعزيزٌ لشرعيتهم الدينية.
في المقابل، استفاد الكركي وبعض رجال الدين باستحواذهم على المال والمناصب، التي استطاعوا من خلالها تأسيس مؤسَّسة دينية تمتدّ لعموم الأقاليم الفارسية وتهيمن عليها[22].
وهذا التحوُّل عرَّض المؤسَّسة الدينية الشيعية للتدجين وفُقدان الاستقلالية، فقد خلقت مؤسَّسة دينية رسمية/الفقيه الرسمي، بجوار المؤسَّسة الدينية الأهلية/الفقيه الشعبي، رُبَّما لأوَّل مرَّة في التاريخ الشيعي؛ إذ إنَّ فُقهاء المذهب وعلماءه طالما اعتزوا باستقلاليتهم عن الحكومات والدول، بالنظر إلى فلسفة الانتظار ونبْذ الشأن العام، وانسحب هذا الاستقلال على الفتوى والصناعة العلمية. لكن عندما جاء الصفويون وسعوا في تأسيس مؤسَّسة دينية رسمية، على غِرار الدولة العثمانية حينئذٍ، ورتَّبوا هيكلها الهرمي، وصارت المناصب الدينية مركزية في صناعة الأعلمية، سارع تيّار علمائي كبير إلى الانضواء تحت مظلَّة هذه المؤسَّسة. واستجابةً لذلك التوجُّه، فقد منح الشاه إسماعيل الشيخ الكركي أموالًا طائلة لتكوين تلامذته، معبِّرًا في ذلك عن مقتضيات الحاجة إلى الفُقهاء في تنظيم التحوُّل من الدعوة إلى الدولة[23].
وبرز خلافٌ فقهي داخلي بين رجال الدين؛ بسبب تلك المِنَح والعطاءات، ما بين مُجوِّز لها ومستفيد منها، وما بين معترض على هذه العلاقة بين الفقيه والدولة.
وممَّن اعترضوا بعض البارزين من رفاق ومعاصري الكركي من داخل الجماعة الدينية، مثل الشيخ إبراهيم القطيفي (ت: 1543م/ 950ه)، الذي رفض علاقة الكركي بالدولة الصفوية، وما نتج عن هذه العلاقة من فتاوى مُسيَّسة ومُؤدلَجة، مخالفة للخطّ العام في المذهب، كشرْعنة صلاة الجمعة في زمن الغيبة، وتجويز أخذ العطايا من السلاطين الصفويين[24].
وحسب بعض فُقهاء الشيعة، فإنَّ الشيخ القطيفي بقِيَ «حتَّى آخر لحظة في حياته ممتنعًا عن قبولها، وبقيت تنظيرات الكركي هي السائدة والرائجة في الفقه الشيعي في موضوع الخراج عند عموم الفُقهاء، وبقِيَ الفُقهاء الذين تلوه في البلاط الصفوي يتقبَّلون الهدايا ويعدُّونها من المال الحلال، وأقاموا الأدلَّة تِلو الأدلَّة على طريقته في ردّ مخالفيهم، حتَّى ظهر أحمد بن محمد الأردبيلي المُتوفِّى سنة 1585م، والمعاصر للشيخ البهائي، والذي كان يمتلك مكانةً وقداسةً كبيرة بين عُلماء الشيعة حينها وحتَّى في داخل البلاط الصفوي، حيث حرَّم ضرائب البلاط، وانتقد بشدَّة الأداء السيِّء لرجال الدين في ذهابهم إلى الأخير في قبول هدايا البلاط، بل وحتَّى إقدامهم على ذلك خارج الإطار الفقهي الذي رسمه الكركي»[25].
ويُعتبَر الشيخ أحمد الأردبيلي (ت: 1584م/ 993ه) من أهمّ فُقهاء النجف حينئذٍ معارضةً للسُلطة الصفوية، فرفض زيارة إيران، ووصف ممارسة الصفويين بأنَّها ممارساتٌ ظالمة وغير شرعية.
ومن تلامذته الذين انتهجوا نفس منهجه المناهض للصفويين، الشيخ حسن ابن «الشهيد الثاني» (ت: 1602م/ 1011ه)، وابن أخته محمد بن علي نور الدين العاملي الجبعي (ت: 1600م/ 1009ه)[26]. وقبل ذلك، رفض «الشهيد الثاني» زين الدين بن علي (ت: 1557م/ 965ه) هذا الخطّ الصفوي، وعمل على الاستقلال عن المشروع الصفوي في إيران[27].
ومع ملاحظة أنَّ «الشهيد الثاني» كان أحد أكبر فُقهاء بلاد الشام وقتئذٍ، والشيخ القطيفي كان أكبر فُقهاء النجف أيضًا، ورفض كُلٌّ منهما الذهاب إلى إيران للاستقرار وتولِّي المناصب، مع ملاحظة ذلك، نفهم أنَّ الحوزات العلمية خارج إيران أدركت مدى الخطورة التي تتعرَّض لها المؤسَّسة الدينية الشيعية، بسبب إستراتيجية الصفويين في استغلال المذهب، وحاول فُقهاء الشيعة الحفاظ على تلك المسافة التاريخية بينهم وبين أيّ حكومة، في ظِلّ غياب المعصوم حتَّى ولو كانت حكومةً شيعية.
ويُمكننا القول إنَّ هذا الخطّ الإيراني-الكركي، والخطّ الخارجي المتمثِّل في «الشهيد الثاني» والقطيفي، لا يزال هو المتحكِّم في مسارات التشيُّع، فالفقيه الإيراني اليوم تمَّ تدجينه وصبْغه سُلطويًا، في حين أنَّ الفقيه اللبناني أو العراقي لا يزال إلى حدٍّ كبير يرفض هذا الاستدماج، وهذا التوظيف السُلطوي لرجل الدين، وإن حاولت الدولة الإيرانية كثيرًا وبوسائل متعدِّدة التأثير على هذه الخارطة، وتغييرها.
ويبقى الأكثرون في حالة خصومة مع الاستدماج السُلطوي، ويعتريهم الخوف الشديد من الطموحات الإيرانية، حتَّى قال المفكِّر الشيعي هاني فحص (ت: 2014م/ 1435ه): «إنَّ الإيراني استيلائيٌّ لا يحب أن يكون له دور، وإنَّما نفوذ. الدور يعني الشراكة، الدور يشترط الآخر، والنفوذ استتباع واستلحاق، زبائني ريعي يشتري الرقبة والقرار، يهمّه الوصول إلى هدفه، هو براغماتيٌ جدًّا، ومسكونٌ بهاجس الإمبراطورية التي يريد استعادتها بمنطق القوَّة الفارسية»[28].
2. النيابة عن الإمام المعصوم:
أصبح الكركي نائبًا عن الإمام المعصوم بفرمان من الشاه سنة 1533م، منحهُ فيه صلاحيات واسعة، منها عزل الوُلاة والمسؤولين وتنصيبهم[29]، لكن مع ذلك فقد ظلّ الكركي في الحقيقة تحت سُلطة الشاه، وليس العكس. كان الطرفان في حاجةٍ إلى بعضهما، فالشاه يحتاج إلى الكركي من أجل الشرعية الدينية والمذهبية، ونشر التشيُّع في الأقاليم الفارسية، ومتابعة خطط التبشير، والكركي يحتاج إلى الشاه لطموحات دينية وشخصية.
وقد رأى الكركي أنَّ تنصيبهُ نائبًا للإمام فُرصة تمنحُه جزءًا من الولاية العامَّة، لذا فقد مارس دوره بناءً على هذه القناعة. وهذه أوَّل مرَّة في الفقه الشيعي يُذهَب فيه هذا المذهب، فقد كان المعتمد في الدرس الفقهي هو «فقه الانتظار»[30]، فلا مشاركة سياسية إلَّا بعد ظهور المعصوم؛ لأنَّ الحُكم من مهام المعصوم وحده. نعم هناك بعض المحاولات التاريخية للحُكم باسم المعصوم، إلَّا أنَّها لم تكُن من قلب المرجعية الدينية والجماعة العلمائية، بل كانت سياسية وعسكرية صِرفة، كالذي كان من أبي علي أحمد بن الأفضل شاهنشاه، الملقَّب بـ «كُتَيْفات» (سنة 525ه/ 1131م)، الشيعي الإمامي، الذي عزل الحافظ الإسماعيلي (ت: 544ه/ 1149م) وسجنه، وتولَّى الحُكم مكانه[31]. لكنَّها تجربة محدودة ولم تُدعَم كلِّيًا من فُقهاء الشيعة، ولم تذكُر لنا المصادر تفاصيلها الدقيقة حتى يُمكن الحُكم عليها.
ولكي يُضفي الكركي شرعيةً مذهبية على ما استحدثه، زعم أنَّ منهجه الأصل في المذهب، ولم يبالِ بموقف جماهير فُقهاء الشيعة في زمنه وقبل زمنه، فقال: «اتّفق أصحابنا رضوان الله عليهم أنَّ الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المُعبَّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائبٌ من قِبل أئمَّة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل»[32]. لذا انتقده فُقهاء عصره، بسبب تماهيه مع الصفويين، وزعْمه النيابة عن المعصوم، وما نتج عن هذا المنهج من خروجٍ عن المعتمد في الفقه الجعفري ومخالفة التيّار العام[33].
ومحاولة الالتصاق بأُصول المذهب، وتطويع تلك الأُصول، هي جزءٌ من البحث عن الشرعية المذهبية؛ خوفًا من «الشذوذ/الانفراد» الفقهي. لذا وجدنا نفس الأمر عند الخميني (1902- 1989م/ 1319- 1409ه) فيما بعد، عندما نظَّرَ لولاية الفقيه المُطلَقة، وادّعى أنَّها الأصل في المذهب، وتأوَّلت مدرسته جُلَّ نُقولات العُلماء الكبار في المذهب؛ كي تنسجم مع قراءته لفقه الدولة.
كان شكل العلاقة بين الكركي والشاه منحصرًا في معادلة وثنائية «الفقيه-السلطان»، وتلك الثنائية أجبرت الكركي على الخضوع كثيرًا لإملاءات الشاه، وأخفقت كثيرًا من مشروعاته. في حين أنَّ الخميني فيما بعد جعل العلاقة أُحادية «الفقيه السلطان والسلطان الفقيه»، بمعنى أنَّ الفقيه صار هو السلطان، وصار هو من يملك القوَّة ويملك تحريكها.
والخلاصة أنَّ التحوُّل الذي قاده الكركي ليس فقهيًا بقدر ما كان سياسيًا، نابعًا من رغبة في تعزيز النفوذ والصعود السياسي، وفي شرْعنة الدولة الوليدة داخليًا في مواجهة القزلباش والأكثرية غير الشيعية حينئذٍ، وخارجيًا في مواجهة الدولة العثمانية التي تتبنَّى الإسلام السُنِّي، لكن في نفس الوقت نتج عنها تطويع المذهب لخدمة الأغراض السياسية، وتمثَّل في التنازُلات من قِبَل كثير من الفُقهاء للصفويين وتطويعهم الفقهَ لخدمة أغراض الدولة، وحسب الملا صدرا (ت: 1640م/ 1050ه) فإنَّ أهداف الفُقهاء سياسيةٌ محْضة، تكمُن في إخضاع الناس لفتاواهم، وأوامرهم التسلُّطية[34]؛ لذا انتقد (أي الملا صدرا) بعض عُلماء عصره؛ لتردُّدهم على أبواب السلاطين، كما في «الواردات القلبية»، اعتراضًا منه على تدجين الجماعة العلمائية وفقدانها الاستقلالية وتسييسها[35].
ثالثًا: الولائيون وأزمة الشرعية
لا شكَّ أنَّ التطوُّرات السياسية والتجاذُبات الفقهية التي شهدتها الجماعة الشيعية، بدءًا من عهد الصفويين ثمَّ القاجار ثمَّ العهد البهلوي، أثَّرت كثيرًا على العقل الجمعي الشيعي، وكان الخميني يُدرك هذا التاريخ السياسي الشيعي جيِّدًا؛ وبالتالي فإنَّ ذلك التراث السياسي والفقهي لم يغِب عن ثورتي الدستورية سنة 1905م، والثورة «الإسلامية» سنة 1979م. فعبر التاريخ، اختار الشيعة في تفاعُلهم مع البيئات السياسية مقاربات مختلفة، وما أعقب «انتظارية» الفترتين القاجارية والبهلوية في التاريخ المعاصر لإيران، هو اقتراب شيعي ثوري يحاول تشكيل حكومة إسلامية باسم «المعصوم»[36].
وقد مرَّ الخميني بثلاث مراحل رئيسية في حياته الفكرية، وتمثِّل هذه التحوُّلات مرتكزات نفهم من خلالها مآلات نظرية الفقه السياسي لدى النُّخب الإيرانية المعاصرة.
ففي المرحلة الأولى، بدأ كفقيهٍ شيعي تقليدي مؤمن بخط الانتظار، الموروث عن الحوزة التقليدية، كسائر الفقهاء التقليديين، وبعض الدلالات تشير إلى أنَّ هذه الفترة استمرَّت حتَّى الستينات من القرن العشرين. فحسب آية الله حسين منتظري، فإنَّه طرح على الخميني في بداية الستينات فكرة الخطّ الثالث بين نظرية الشيعة في النصّ ونظرية السُنَّة في الشورى، وذلك بالجمع بين النظريتين: الالتزام بالنّص في زمان وجود الأئمَّة المعصومين المنصوص عليهم من الله والعمل بالشورى في حال عدم وجودهم، وتلك نظرية قريبة ممّا طرحه النائيني في «تنبيه الأُمَّة»، وهي ما عليه المرجعية النجفية اليوم[37].
لكن الخميني رفض هذا الطرح، وأصرَّ على «ضرورة الانتظار» وحُرمة إقامة الدولة في عصر الغيبة، أو إقامتها على أساس الشورى، وقال لمنتظري: «المذهب الشيعي يرى ضرورة كون الإمام معصومًا ومنصوبًا من الله. فالمسؤولية تقع على عاتق الناس في زمان الغيبة، ويجب علينا إعداد الظروف المناسبة لظهور الإمام الغائب»، فقال له حسين منتظري: «هل معنى ذلك أن يعيش الناس في عصر الغيبة في هرج ومرج؟»، قال الخميني: «لقد أتمَّ الله النعمة، وهذه مسؤولية الناس الذين يجب عليهم توفير الشروط المناسبة لظهور الإمام صاحب الزمان، إذ إنَّ الإمام حسب رأي الشيعة يجب أن يكون معصومًا ومنصوبًا فقط»[38].
وتتمثَّل المرحلة الثانية؛ في اقتراب الخميني من فكرة الدولة الدستورية التي نظَّرَ لها الميرزا النائيني، مُنظِّر الثورة الدستورية، والتي حاول منتظري أن يقنعه بها في المرحلة الأولى. يقول الخميني منظِّرًا لتلك الفترة في حياته: «نحن لا نقول بوجوب أن تكون السُلطة والحُكم بيد الفقيه، بل أن تُدار الحكومة بشريعة الله، التي فيها صلاح العباد والبلاد، ولا يتِم هذا إلا بإشراف رجال الدين، كما حصل ذلك في حكومة المشروطة *** ، عندما صدَّقت على هذا الأمر»[39]. وهو هُنا يُصرِّح بما حدث في حكومة المشروطة، التي ارتدَّ عنها وهاجمها في مرحلته الأخيرة. وهناك تداخُل بين المرحلتين الأولى والثانية، بحيث لا يُمكن تحديد الزمن الفاصل بينهما على وجه الدقَّة، وأسباب التحوُّل.
والمرحلة الثالثة، هي مرحلة إملاء كتابه الحكومة الإسلامية، وتأسيسه لنظرية ولاية الفقيه، إلَّا أنَّ النظرية أيضًا في تلك المرحلة كانت امتدادًا لما طرحهُ النراقي، وقريبة ممّا عمل عليه الكركي، مع بعض التعديلات، بمعنى أنَّه نظَّرَ في هذه المرحلة للولاية العامَّة مع توسُّع، لكنَّه لم يطرح الولاية المُطلَقة، التي أطلقها قبل وفاته بشهور قليلة. رغم ما تواجهه أطروحة الخميني من استنكار في الأوساط الشيعية الدينية، إلَّا أنَّ الولائيين يُصِرُّون على تبريرها وتمريرها، فرجل الدين الإيراني أحمد واعظي يعمل على تبريرها في كتابه «الفكر السياسي الشيعي»، ويذكر دون تقرير المصدر أنَّ الخميني عبَّر عن وجهة نظرِه هذه خلال محاضراته في العراق (حوزة النجف)، قبل سنوات من الثورة في إيران[40].
بيْد أنَّ الشواهد تُثبت أنَّ الخميني، وبصورة فجائية بعد أعوام من نجاح الثورة الإسلامية، فاجأ الجميع، بتقريره لنظرية ولاية الفقيه المُطلَقة[41]، وهذه هي المرحلة النهائية، التي تُدمَج عادةً في المرحلة الثالثة، لكن الفارق في نفس الأمر كبير.
ويجدر التنويه إلى أنَّ الخميني عندما بدأ حملته الأيديولوجية لتأسيس الحكومة الإسلامية، كان المجتمع الشيعي الفقائهي في إيران قد تمَّ تسييسه بالفعل؛ ما سهَّل على الخميني زرع «أفكاره المُثلى»، التي أطَّرت لاحقًا لولاية الفقيه المُطلَقة[42].
بخلاف ما تعهده الثقافة السياسية الغربية، فإنَّ ولاية الفقيه المُطلَقة لدى الخميني لا تكترث بالرأي العام ولا تستند إليه، كما أنَّها لا تعتَدّ بالإجراءات الديموقراطية ولا بالسياسات الانتخابية، وإنَّما ترتكز على مبدأ التفويض الإلهي للفقيه، والمُستمَد مباشرةً من الله[43].
وفي المرحلة الأخيرة، لم يكتفِ الخميني بطرح مقاربته الجديدة بخصوص نظرية ولاية الفقيه، بل هاجم حكومة المشروطة، والدولة الدستورية التي أثنى عليها في المرحلة الثانية، فيما نعتبره ردَّةً سياسية نحو المنطقة الأكثر راديكالية والأكثر تشدُّدًا. ففي سنوات ما قبل ثورة 1979م، أرسل الشاه كريم سنجابي ليتفاوض مع الخميني في باريس، لكن الخميني رفض الاعتراف بدستور 1906م، ورفض ميثاق تشارُك بين مختلف القُوى العلمانية والدينية[44]. وهاجم الخميني دستور 1906م، فقال: «ما علاقة بنود الدستور جميعًا بالإسلام؟ ثمَّة فرق جوهري بين الحكومة الإسلامية من جِهة والملكية الدستورية أو الجمهورية من جِهة أُخرى: ففي حين يملك ممثِّلو الشعب أو الملك في الأنظمة الأخيرة السُلطة التشريعية الكاملة، تكون السُلطة التشريعية في الإسلام وسُلطة التشريع لله الخالق القادر حصرًا. وليس لأحد حقّ في التشريع، ولا يجوز تنفيذ أيّ قانون يصدر عن غير المشرِّع الإلهي»[45].
على كلٍّ، فإنّ كُلّ طرْح من تلك المقاربات الخمينية، جاء نتيجة سياقات معيَّنة، ولو أنَّ الخميني عاش أكثر رُبَّما لاستمرّ في تحوُّلاته ليؤسِّس نظريةً أُخرى، ومن ثمَّ فالمنطقي ألَّا يُتعامَل مع طرحه الأخير كعقيدةٍ أو ثابت غير قابل للتبدُّل، على نحو ما يفعل الولائيون اليوم، الذين يستدِلُّون عليه عقليًا وفلسفيًا لقصور الأدلة الروائية عن التدليل عليها، حسب مُدَّعاهم.
والخُلاصة أنَّه كانت هناك مرحلة فاصلة بين منطق التنظير ومنطق فرض الأمر الواقع، هي مرحلة الإمساك بالسُلطة، فرجال الدين الذين عادةً ما يحذّرون من التعاون مع السلطان، صاروا هُم السلطان، وصار الفُقهاء الصغار موظَّفين لدى الدولة.
تلك الثنائية التي وُجِدت في عهد الصفويين بين الفقيه والسلطان «الكركي-الشاه»، تمَّ تجاوُزها في عهد الخميني؛ لتصير أُحادية «الفقيه السلطان، والسلطان الفقيه»، ومن ثمَّ فأدبيات التحذير من التعاون مع السلطان تحوَّلت إلى أدبيات السمع والطاعة للسلطان، باعتباره الحاكم الشرعي «النائب عن المعصوم».
إذن هناك أزمة شرعية غير منفكَّة الصِلة بنظرية ولاية الفقيه، التي يركن إليها النظام الإيراني، فالولي الفقيه يستمِدّ شرعيته ومشروعيته من الله وليس للعامَّة مدخل في البيعة أو الاختيار أو الانتخاب، وحتَّى اختيار مجلس الخُبراء إنَّما هو اختيارٌ كشفي وليس إنشائيًا؛ وبالتالي فلا تُوجَد مقاييس يمكن قياس مقبولية الناس ومديّات رضاهم عن الولي الفقيه وسياسته؛ لاكتفاء النظام بالمكابح الداخلية، كالتقوى والأعلمية والورع ونحو ذلك، دون المكابح الخارجية المتمثِّلة في الديمقراطية والمؤسَّسات الرقابية والإشرافية. هذه هي أزمة النظام الإيراني الحقيقية اليوم، وهي ليست أزمةً سياسية أو حتَّى دينية-مذهبية فحسب، بل هي أزمةٌ أخلاقية كذلك؛ لأنَّه مع التسليم باستمداد الشرعية من السماء، فإنَّ معضلةً أُخرى تبرُز عند الحديث عن تحديد ذلك الفقيه، الذي أمدَّته السماء بعونها، ومدى سُلطته وولايته على أقرانه من الفُقهاء.
رابعًا: الصراع حول اللاهوت السياسي شيعيًا
يوجد اشتباك وتنازُع على اللاهوت السياسي داخل الجماعة الشيعية بين الزيدية والاثني عشرية والإسماعيلية؛ فهناك من يذهب إلى تأثُّر القائلين بولاية الفقيه بالمذهب الزيدي، وآخرون ذهبوا إلى تأثُّرهم بالإسماعيلية[46]. وفي التحقيق نجِد فارقًا كبيرًا بين زيد بن علي والزيدية التي انتسبت إليه، وهو ما التفت إليه الشهرستاني قديمًا، وجعفر السبحاني حديثًا. فزيدٌ وإن آمن بالثورة ونظَّرَ لها، إلَّا أنَّه كان يريد حكومةً شورية، لا وصائية ولا ولائية، على نحو ما استقرَّت عليه القراءة الولائية المعاصرة.
نعم؛ انشقَّ زيد عن المقرَّر أو المعتمد حينئذٍ في مدرسة آل البيت، وحبَّذ الثورة والخروج، لكن الفارق أنَّه هَدَف إلى تأسيس حكومة شورية، وبيعة عامَّة، ومقبولية من المؤمنين، لكن الفريق الآخر من آل البيت الذي قاده محمد الباقر ثمَّ ابنه جعفر، وإن لم يؤمن بالثورةِ وأحجم عن الشأن العام، إلَّا أنَّه رأى (وفق القراءة الرسمية التقليدية) أنَّ الإمامة لا تثبُت إلّا بالنصّ الديني، ولا موقع للأُمَّة فيها، وكان هذا منشأ القول بالحكومة الإلهية[47].
وثمَّة نصٌّ لافت في البيعة التي أخذها زيد من العامَّة، فتمثلَّت «كما يذكر الطبري (ت: 922م/ 310ه) في تاريخه»، في الدعوة إلى كتاب الله وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسَّم هذا الفيء بين أهله بالسواء، وردِّ الظالمين، ونُصرة أهل البيت على من نَصَب لهم وجَهَل حقّهم[48]. ويبدو تأثُّر زيد بالمعتزلة، وبصديقه أو أستاذه واصل بن عطاء (ت: 748م/ 131ه)، ولذا اعترف المعتزلة به إمامًا[49]. وبعد مقتل زيد بن علي، ثار ابنه يحيى بن زيد وانتهت ثورته بالفشل، ولمّا قُتِل ثار محمد بن الحسن المعروف بالنفس الزكيّة على العبّاسيين، ودعم المعتزلة ثورته أيضًا وبايعوه، ودعمه أتباع زيد، ودعمه جمهرة من الفُقهاء[50]؛ حتّى قال الأشعري (ت: 936م/ 324ه): «وبُويِع له في الآفاق، وقُتِل بسببه رجال من أهل بيته»[51].
وكان الفشل المستمِرّ لتلك الثورات المحسوبة على آل البيت تعزيزًا لقراءة فريق الإحجام عن الشأن العام، وقراءته المنتبِذة للسياسة، وتقوية لها، المتمثِّل في تيّار جعفر الصادق حينئذٍ.
وحريٌ أن نؤكِّد هُنا أنَّنا نتكلَّم عن فترة الأئمَّة «المعصومين»، ورؤيتهم ونظريتهم، وليس عن فترات لاحقة بعدهم؛ وبالتالي تتعزَّز قراءة الفريق الذي ورِث خطّ الأئمَّة وقال بالانتظار من الشيعة الاثني عشرية. لكن من ناحية أُخرى، فإنَّ فريق الانتظار يدعو إلى انتظار بُدُوِّ الإمام الغائب باعتباره سياسيًا وإمامًا، في حين أنَّ الأئمَّة أنفسهم كانوا ضدّ السياسةِ وضدّ الشأن العام، كما تشير تلك الوقائع التاريخية.
واللافت أيضًا أنَّ بيعة محمد بن الحسن كانت بالشورى والرضا، ولم يزعم لنفسه نصًّا ولا عِصمة، بل إنَّ الذي ولّاه هو رأس المعتزلة عمرو بن عبيد (ت:761م/ 143ه)، الذي يقول في خطبة ترشيحه لإمامة المسلمين: «أيُّها الناس إنَّنا قد نظرنا فوجدنا رجلًا له دين، وعقل، ومروءة، ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثمّ نُظهِر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كُنّا معه، ومن اعتزلنا كففنا عنه»[52].
وإذا كان زيد بن علي، ثمَّ محمد بن الحسن من أئمَّة الزيدية، وفقًا للقراءة الزيدية، فهل تأثَّر الولائيون المعاصرون بمقولات الزيدية، أم أنَّ الزيدية المعاصرة هي التي تأثَّرت بالولائيين في السياسة، وعموم مقولات الاثني عشرية في المذهب؟
يفرِّق الشهرستاني قديمًا وجعفر السبحاني حديثًا، بين زيد بن علي والزيدية، أو بين الزيدية المتقدِّمين والزيدية المتأخِّرين؛ فالمتأخِّرون تأثَّروا بمقولات الاثني عشرية، وليس العكس، أمَّا المعاصرون، أو فريق عريض منهم، فاستقوا من ينابيع الولائيين[53].
أمَّا بالنسبة للعلاقة بين الإسماعيلية والولائيين المعاصرين، فقُلنا آنفًا إنَّه لا يوجد دليلٌ قطعي على تأثُّر مُنظِّري الولائيين بالمقولة الزيدية. وكذلك عند التأمُّل والاستقراء نجِد أيضًا أنَّ الولائيين المعاصرين لم يقتبسوا مقولتهم الرئيسية من الإسماعيلية، وهذا لا ينفي التقاطُع والاشتراك في مسائل متعدِّدة، لكن التقاطُع والاشتراك لا يلزم منه التأثُّر، والتحوُّل والتطوُّر الفكري والفلسفي داخل المذهب أيضًا لا يكون بسبب تداخُل عابر بين المذاهب، بل يكون في الغالب تراكُميًا، ونتيجة لمراجعاتٍ ونظريات يشِدّ بعضها بعضا، تبرُز معالمها بمرور الزمن. نعم، قد يكون هناك تأثُّر عابر، أو اتّفاق واشتراك، لكن لا يلزم منه تأثراً كُلِّيًا.
لم تكُن الولاية في الدولة الإسماعيلية للفقيه بل للإمام، فالإمام لم يكُن قد غاب واستتر، وكان الفقيه مطيعًا له، وخادمًا لجهاز حُكمه. وكتب الحاكم بأمر الله (اختفى سنة 1019م/ 410ه) إلى القاضي حسين بن النعمان: «يا حسين، أحسن الله عليك، إذ أنت قاضينا وداعينا وثِقتنا، ولم نجعل لأحدٍ غيرك نظرًا في شيء من القضايا والحُكم، ولا في شيء ممّا استخدمناك فيه، ومن تسمَّى غيرك بالقضاء فذلك على المجاز في اللفظ لا على الحقيقة»[54]. وأصدر الحاكم مرسومًا ينهى الناس عن «معارضة الإمام فيما يفعله، وترك الخوض فيما لا يعني»[55]. أي ترْك الخوض في السياسة والشأن العام.
يقول الإسماعيليون أيضًا بالنصّ والوصيّة، فينُصّ الإمام السابق على الإمام اللاحق من أولاده، والنصّ شرط من شروط صحَّة الإمامة عندهم، ويجعلون الاختيار فاسدًا[56]. وهُم هُنا يقتربون من المقولة الاثني عشرية، غير أنَّ الاثني عشرية عندما قالوا بالنصّ الأوَّل على عليٍّ ثمَّ الحسن ثمَّ الحسين جعلوا الإمامة من بعد الحسين في الابن الأكبر، وهذا من أسباب انشقاق الجماعة الشيعية إلى زيدية وإسماعيلية واثنا عشرية، فيما بعد.
ومن دلائل المفارقة والقطيعة التامَّة تاريخيًا، بين المذهبين، سياسيًا، ما كان من انقلاب أحد وزراء الدولة الإسماعيلية عليها، وسعيه لإنهائها وتحويلها إلى دولة إمامية اثني عشرية، تنوب عن المعصوم. وذلك عندما ثار أبو علي أحمد بن الأفضل شاهنشاه، الملقب بـ «كُتَيْفات» (سنة 1131م/ 525ه)، وكان إماميًّا، وعزل الحافظ الإسماعيلي (ت: 1149م/ 544ه) وسجنه، وتولَّى الحُكم حتَّى كاد يقضي على دولة الإسماعيلية، وأبطل رسومها، وخطب للإمام المنتظر سنة كاملة، حتى قُتِل[57].
وتلك الدولة لم تلفت أنظار المؤرِّخين، رغم أنَّ أبا علي هذا، كان إماميًّا اثنا عشريًّا متشدِّدًا، يقول عنه المقريزي: «وكان إماميًا متشدِّدًا، فالتفت عليه الإمامية ولعبوا به، حتَّى أظهر المذهب الإمامي، وحسَّنوا له الدعوة للقائم المنتظر»[58].
وعند النظر في كتب التاريخ والتراجم نجِد تأكيدًا لتلك العلاقة المتوتِّرة بين الإمامية والإسماعيلية، فيُخبرنا الذهبي في ترجمة ثابت بن أسلم (أبو الحسن الحلبي)****، عن علاقته المتوتِّرة بالدولة الإسماعيلية الفاطمية في مصر، حتَّى أدَّى ذلك إلى قتله، فيقول: «له مصنَّف في كشف عوار الإسماعيلية وبدء دعوتهم، وأنَّها على المخاريق، فأخذه داعي القوم، وحُمل إلى مصر، فصلبه المستنصر، فلا رضي الله عمَّن قتله، وأحرقت لذلك خزانة الكتب بحلب»[59]. وهنا ندرك طبيعة الخلاف الإمامي-الإسماعيلي، وإدراك العالِم السُنِّي لأولويات خصوماته وعداواته، بيد أنَّ تلك العداوة الإمامية-الإسماعيلية، لم تكُن على إطلاق مكاني وزماني؛ فبعض إمامية بغداد حينئذٍ كانوا يدعمون الدولة الفاطمية، ويتعاطفون معها. ويُقرأ ذلك في السياق الثقافي والسياسي لتلك الفترة، فالإمامية الاثنا عشرية لم يكُن لهم دولة، ولذا فمن الطبيعي أن يتعاطف البعض مع بعض الدول الشيعية الأُخرى.
والاسماعيلية يقولون: «إنَّ الإمام الغائب أو الحاضر بعد الإمام الصادق يساوي في الفضل والعلم والكمال الإمام المنصوص في يوم الدار ويوم الغدير. فالإمام الحاضر تساوي كفّته في معالي الأمور كفَّة الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، فيقوم بنفس ما يقوم به الإمام»[60]. ويقولون في الردّ على الإمامية: «إنَّ الإمام لا تجوز غيبته من الأرض»[61]. ويقولون بنبْذ الاختيار والانتخاب: «اختيار الأُمَّة الإمام لنفسها غير جائز؛ لأنَّ إقامة الحدود على الأُمَّة هي للإمام»[62]. وكُلّ من توثَّب على الإمامة غير منصوص عليه، هو طاغوت جائر عندهم[63].
بُنِيت إذن شرعية الدولة الإسماعيلية على استمرار سلسلة الأئمة دون انقطاع أو غيبة، ولم يمنع هذا حدوث انشقاق في لُبّ الدعوة وانقسامها إلى نزارية ومُستعلِية، وقبل الانشقاق وبعده كانت هناك خلافات كبيرة في كثير من الأحيان بين الأئمَّة وأبنائهم، والأئمَّة وإخوانهم، لا سيما إذا لم يكُن ثمَّة أبناء في بعض الأحايين، بل تمَّ تزييف الوصية في بعض الأوقات. فالشرعية إذن كانت صورية ومذهبية، ولم تكُن شرعية رضائية؛ لأنَّ رضاء الناس ليس هدفًا وليس غاية أو مقصدًا إسماعيليًا، فثوابت المذهب أنَّ الشرعية تكمُل بتوفُّر شروطها فقط، حتَّى لو كان مضمون الإمامة ظُلمًا وجورًا.
إجمالًا، فالتنازُع الفكري بداخل الجماعة الشيعية حول النظرية السياسية الشرعية لا يعني بالضرورة التأثُّر المباشر، بيْد أنَّه أفضى إلى تأثيرات بينية رسمت ملامح الفقه السياسي الشيعي لدى كُلٍّ من الإمامية والإسماعيلية والزيدية. الشواهد التاريخية تثبت تأثُّر الزيدية المتأخِّرة بالتأصيل الاثني عشري، في حين طغى على بعض تيارات الزيدية المعاصرة صبغة ولائية، لكن القول بتأثُّر الولائيين بالمقولات الزيدية لا يستند إلى دليل قطعي. من جانب آخر، لم تستقِ الولائية أطروحاتها السياسية من الإسماعيلية، لا سيما أنَّ العلاقة بين الطرفين متوتِّرة في أغلب سياقاتها التاريخية، والاختلاف المذهبي واضحٌ للعيان، سواءً في المسائل المتعِّلقة بأدوار الإمام والفقيه، أم في القول بالنصّ والوصيّة. ورغم ذلك، لا يمكن إلغاء الاشتراك والتقاطُع في مسائل أُخرى بين الطرفين تفتح المجال للأخذ والردّ، داخل أروقة التنظير السياسي في الفقه الشيعي.
خاتمة
وممّا سبق، يمكننا الخروج ببعض الخُلاصات والاستنتاجات، فتناولت الدراسة إشكالية الشرعية السياسية الشيعية المستندة إلى تحوُّلات فكرية في لُبّ النظرية الفقهية، بدايةً مع الإحجام عن الشأن السياسي زمن جعفر الصادق وتمييزه بين الإمامة السياسية ونظيرتها الدينية، التي على أثرها أسَّس الصادق نهجهُ العلمي الحوزوي ونَبَذ الثورة. المُنعطَف الجوهري في الفقه السياسي الشيعي تحقَّق في عهد الصفويين، من جرّاء تسييسهم للمذهب الشيعي واستعانتهم بالشيخ الكركي؛ بُغية إضفاء الشرعية الدينية على جهازهم الحكومي، وهو ما أودى باستقلالية المؤسَّسة الدينية الشيعية، وأفضى إلى انشقاقات فقهية داخل الجماعة العلمائية، لتكون تلك المرحلة بمثابة الرِّدة الحقيقية عن القواعد السياسية التي أرساها الإمام الصادق.
التطوُّر الفكري في الفقه السياسي الشيعي آل إلى قراءات الخميني التأويلية، حيث أمعنت الدراسة في تمحيص المراحل الفكرية الثلاث، التي مرَّ بها الخميني ابتداءً من كونه فقيهًا شيعيًّا يؤمن بخطّ الانتظار، وانتقالًا إلى اقترابه من فكرة الدولة الدستورية لدى الميرزا النائيني، وصولًا إلى كتابته «الحكومة الإسلامية»، وتأطيره من بعد ذلك لنظرية ولاية الفقيه المُطلَقة. بذا صارت ثنائية الفقيه والسلطان «الكركي/والشاه» زمن الدولة الصفوية، أطروحةً أُحادية تجعل من الفقيه سلطانًا والسلطان فقيهًا، وتحوَّلت أدبيات الفقه السياسي من التحذير من التعاون مع السلطان إلى أدبيات السمع والطاعة للولي الفقيه، بوصفه الحاكم الشرعي و«النائب عن المعصوم».
وأخيرًا، حاولت الدراسة الإجابة عن تساؤلات الصراع الفكري داخل الجماعة الشيعية ككُلّ، ومدى تأثُّر الولائيين الإماميين بالمقولات الفقهية السياسية في المذهبين الزيدي والإسماعيلي، لتخلُص إلى غياب الدلالة القاطعة على تأثُّر الولائيين بالزيدية، مع إثبات النقيض من تأثُّر الزيديين المتأخِّرين بالاثني عشرية، وأخذِ المعاصرين منهم عن «الولائية الخمينية». أمّا الإسماعيلية، فلها علاقتها المتوتِّرة تاريخيًّا مع الإمامية الاثني عشرية، ولها أيضًا اختلافاتها المذهبية التي تمَسّ مسائل الإمامة والفقه، ومع ذلك، فلا يزال للمشتركات والتقاطعات بين الطرفين دورٌ في تحوُّل الفكر السياسي الشيعي والاستناد إلى أرضيات شرعية.
أمَّا على مستوى الاستنتاجات، فيمكن القول: إنَّه على الرغم من الخلاف المذهبي والتاريخي المتوتِّر بين الاثني عشرية والزيدية من جانب، والاثني عشرية والإسماعيلية من جانب آخر، فإنَّ إيران «الاثني عشرية» لم تتوانَ عن محاولة احتواء هؤلاء المغايرين لمذهبها، ودعم تيّارات منهم لخدمة أهدافها السياسية والمذهبية في بلدانهم.
أيضًا، فإنَّ ذلك التحوُّل الذي حدث في العهد الصفوي، على يد الشاه وتحالُفه مع الكركي، أدَّى إلى تدجين الجماعة العلمائية، وتحوُّلها إلى جماعة وظيفية كمؤسَّسة من مؤسَّسات الدولة، وأثمرت تلك السياسة عندما انهزم مشروع القطيفي أمام مشروع الكركي المصلحي النفعي، فنجح الخطّ الكركي حتَّى بات في المتن دون الهامش، ولم يعُد يُجْدِي تمنُّعَ بعض الفُقهاء المستقِلّين في النجف أو غيرها من العواصم الحوزوية، وبعد أن كان الفقيه الشيعي مستقِلًّا عن السُلطة تابعًا للعامَّة على نحو ما قرأ مرتضى مطهري، صار تابعًا للسُلطتين: العامَّة والحكومة، بفعل تلك التحوُّلات والتغيُّرات التي جرت في عهد الصفويين، واستمرَّت حتَّى اليوم.
أخيرًا، فإنَّ موقف الولائيين من الدستور والشأن العام وإن كان لاهوتيًّا صِرفًا، بمعنى أنَّه يقول بالتنصيب دون الاختيار، وبالتعيين دون الانتخاب، إلَّا أنَّه أوجد موضع قدم لــ «الإصلاحيين» الشيعة من أجل المعارضة، وطرح البديل، الشوروي، الدستوري والديمقراطي، وهذا البديل وإن لم يُمكَّن سلطويًّا فإنَّ بروز مقولاته أوجدت قواعد شعبية، وحواضن حوزوية تَمُجُّ التقليد الديني، وتنبُذ الراديكالية السياسية، وتنشُد دولةً تؤمن بكرامة الإنسان، وتصون حرِّيته، وتتعامل مع الموروث المذهبي والسياسي على أنَّه موروثٌ بشري، دون إضفاء قداسةٍ أو عصمةٍ عليه.
[1] الذهبي، تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد، بيروت، دار الغرب، 2003م، 3/ 308.
[2] أبو الفتح محمد عبد الكريم الشهرسستاني، المِلَل والنِّحَل، تحقيق: عبد العزيز الوكيل، القاهرة، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، (د.ت)، 1/ 156.
[3] الذهبي، تاريخ الإسلام، 3/ 781. مرجع سابق.
[4] الطبري، تاريخ الطبري، 7/ 634.
[5] عن النفس الزكيّة وثورته بالتفصيل، راجع: رضوان السيِّد (جمع ودراسة وتحقيق)، النفس الزكيّة.. كتاب السير وما بقِيَ من رسائل الدعوة والثورة، بيروت، المدار الإسلامي، 2021م.
[6] الذهبي، تاريخ الإسلام، 3/ 828. مرجع سابق.
* كلمة الشيعة هنا يُراد بها المعنى اللغوي، لا الاصطلاحي المعاصر. وكان لجعفر مدرسة علمية وطلاب ومريدون، كسائر فقهاء المدينة حينئذ، لكنّه ما تعرض للشأن العام والسياسة كما سيأتي من كلام الذهبيّ.
[7] أبو الفتح الشهرستاني، المِلَل والنِّحَل،1/ 166. مرجع سابق.
[8] الكليني، الكافي، 5/ 90، 91. (باب إنكار المنكر بالقلب). وللتفصيل في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الشيعة، راجع: مايكل كوك، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي، ترجمة: رضوان السيِّد وآخرون، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013م، ص379-761.
[9] تبدأ الغيبة الصُغرى عند الشيعة الاثني عشرية بوفاة الإمام الحسن العسكري سنة 873م/ 260ه، وغياب ابنه محمد بن الحسن العسكري، عن العيون والأنظار، وقالوا إنَّ هناك أربعة سُفراء/ وُكلاء يلقونه وينقلون عنه، وانتهت الغيبة الصُغرى بوفاة السفير الرابع سنة 940م/ 329ه. وهنا بدأت مرحلة الغيبة الكُبرى، أي تلك المرحلة التي لا يُتواصل فيها مع الإمام الغائب عن طريق السُفراء. بدأت الغيبة الكُبرى سنة 940م/ 329ه، منذ وفاة السفير الرابع، ولا تزال مستمِرَّة حتَّى اليوم. للتفصيل حول الغيبتين، راجع: باقر شريف القرشي، حياة الإمام المنتظر المصلح الأعظم، النجف، مكتبة الإمام الحسن العامة، 2012م، 123-170.
[10] Tawfiq M. Alsaif, “Religion and Ligitimation of The State: The Development of Political Thought in Contemporary Shi’ism (Case Study: Iran 1979-2004),” University of Westminster, 2005, accessed: 09 Aug, 2021, https://bit.ly/3fI9DRt.
[11] تاريخ الطبري، 4/ 427. مرجع سابق.
[12] الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص225. وراجع: آية الله جعفر السبحاني، بحوث في المِلَل والنِّحَل، قُم، مؤسَّسة الإمام الصادق، 1428ه، 7/ 211.
[13] Marvin Zonis, “The Rule of the Clerics in the Islamic Republic of Iran,” JSTOR, Nov, 1985, accessed: 09 Aug 2021, https://bit.ly/3s1gVoC.
[14] Azam Boroughani, “The Concept of “Political Legitimacy” in Shia Political Thought (With Focus on Imam Khomeini’s Political Thought),” International Journal of Political Science, Vol.5, No 9, Spring 2015, (pp.55-65), accessed: 09 Aug, 2021, https://bit.ly/3yuvB1Q.
[15] المتمثِّلة في ابن إدريس الحلي (ت: 1201م/ 598 ه)، ثمّ المحقِّق الحلي (ت: 1277م/ 676ه)، ثمّ العلامة الحلي (ت: 1326م/ 726ه)، وفخر المحقِّقين الحلي (ت: 1368م/ 770 ه)، وابن فهد الحلي (ت: 1437م/ 841 ه). راجع: الأكوش، عصر الفقيه، ص94.
[16] فرهاد دفتري، تاريخ الإسلام الشيعي، بيروت، دار الساقي، 2017م، ص112.
** كما فعل علي شريعتي، في «التشيُّع العلوي والتشيُّع الصفوي».
([17]) محمد جمال باروت، الصراع العثماني الصفوي وآثاره في الشيعية في شمال بلاد الشام، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018م، ص183و 183.
[18] وُلِد الشاه طهماسب سنة 1514م، وتُوفِّي عام 1576م، وتولَّى حُكم إيران سنة 1524م. وهو الابن الأكبر للشاه إسماعيل مؤسِّس الدولة الصفوية. دخل في حروب مستمرَّة مع الدولة العثمانية، وخسر على أثرها بعض الأراضي والمدن، مثل تبريز وبغداد.
راجع: د. باسم حمزة، إيران في عهد الشاه طهماسب الأوَّل الصفوي 1524- 1576م، مجلَّة الخليج العربي، المجلد 40، العدد (1-2) لسنة 2012م.
[19] راجع: الأكوش، عصر الفقيه، ص174، والأكوش، عرش الفقيه، ص211. مرجع سابق.
[20] Devin Stewart, “Polemics and patronage in Safavid Iran: The debate on Friday prayer during the reign of Shah Tahmasb” Bulletin of the School of Oriental and African Studies, Open Edition Journals, 2013, accessed: 09 Aug, 2021, https://bit.ly/3Cy2g96.
[21] راجع: د.معتصم الصديق، و د.محمد الصياد، خُطبة الجمعة في إيران تديين السياسة وتسييس الدين، (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 1441ه)، ص14. https://bit.ly/2VBFtIR.
[22] للتفصيل، راجع: د.جودت القزويني، المرجعية الدينية العُليا عند الشيعة الإمامية.. دراسة في التطوُّر السياسي والعلمي، بيروت، دار الرافدين، 2005م، ص143.
[23] محمد جمال باروت، الصراع العثماني الصفوي، ص181. مرجع سابق.
[24] راجع: جودت القزويني، المرجعية الدينية العُليا، ص150. مرجع سابق.
[25] الشيخ ميثاق العُسر، فُقهاء الشيعة وهدايا السلاطين، مركز إجابات للبحوث والدراسات الدينية، 03 يناير 2017م، (تاريخ الاطلاع: 06 أغسطس 2021م)، https://bit.ly/3xn8hSo. وراجع: جودت القزويني، المرجعية الدينية العُليا، ص155. مرجع سابق.
[26] راجع: جودت القزويني، المرجعية الدينية العُليا، ص155. مرجع سابق.
[27] محمد جمال باروت، الصراع العثماني الصفوي، ص188. مرجع سابق.
[28] حوار مع هاني فحص، نقلًا عن: السلمي والصياد، الفقيه والدين والسُلطة.. جدلية الفكر السياسي الشيعي بين المرجعيتين العربية والإيرانية، (الرياض: مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية، 2017م)، ص227. وراجع: حسن سعيد، الفقيه الكركي والشيخ القطيفي والخلاف على الدولة الصفوية، جريدة الوسط، 08 يونيو2014م، العدد 4293، تاريخ الاطلاع: (06 أغسطس 2021م)، https://bit.ly/2VzaT2r.
[29] راجع: أحمد كاظم الأكوش، عرش الفقيه.. الإرهاصات التاريخية والمباني الفقهية لولاية الفقيه، بيروت، دار الرافدين، 2018م، ص206.
[30] في تفصيل نظرية الانتظار، راجع: محمد السيِّد الصياد، فقه الانتظار.. التيارات الدينية الإيرانية والصراع على الحق المُطلَق للفقيه في الولاية، (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2018م).
[31] المقريزي، اتّعاظ الحنفاء، 2/ 140.
[32] الكركي، رسائل الكركي، ص29، نقلًا عن: الأكوش، عرش الفقيه، ص206. مرجع سابق.
[33] راجع: أحمد كاظم الأكوش، عصر الفقيه.. نهاية الشريعة وبداية التشريع دراسة تاريخية نقدية لأُصول التشريع الشيعي، بيروت، دار الرافدين، 2018م، ص175.
([34]) راجع: صدر الدين محمد الشيرازي، الحكمة المتعالية، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1981م، 5/ 201. وراجع: الأكوش، عصر الفقيه، ص188. مرجع سابق.
[35] الملا صدرا، الواردات القلبية، ص258، نقلًا عن: د. محمد عبد الفضيل القوصي، الفلسفة الإشراقية عند صدر الدين الشيرازي، الإمارات- القاهرة، مشيخة الأزهر، مجلس حُكماء المسلمين، 2020م، ص35.
[36] Alireza Biabannavard, et al,“The Interaction of Political Theory and Practice in Shia Political Thought and Its Role in the Qajar Developments,” Scientific Journal of History Research, Volume 16, Issue 61, summer 2021, accessed: 09 Aug, 2021, https://bit.ly/3CyQSK4.
[37] راجع: د. محمد جميل المياحي، العراق والسيستاني، بغداد، دار انكي للنشر والتوزيع، 2019م، ص287، 322، 339، 368.
[38] راجع: أحمد الكاتب، حوارات مع المراجع والعُلماء والمفكِّرين، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، د.ت، ص280. ومحمد بن صقر السلمي ومحمد الصياد، الفقيه والدين والسُلطة، ص107. مرجع سابق. والنصب هو: الجعل الإلهي، أي أنَّه منصوب من قِبَل الله، وليس بالاختيار أو بالانتخاب، وبالتالي فلا موقع للأُمَّة ومقبوليتها في نظام الحكم.
*** الحكومة المشروطة هي الحكومة التي انبثقت عن الثورة الدستورية في إيران سنة 1905م. وانقسم الفُقهاء إزاء الثورة الدستورية ومطالبها الدستورية والبرلمانية إلى فريقين، الأول: يدعم المطالب الدستورية والحُكم البرلماني، ومأسسة موقع الشعب في السُلطة وإشراكه في الشأن العام، والثاني: يرفض الثورة الدستورية من حيث المبدأ، ويرفض ما دعت إليه وطالبت به، باعتبار مطالبها «إفرنجية» وتغريبية، تضاد الإسلام وتناقُضه.
[39] الخميني، كشف الأسرار، ص222، نقلًا عن: السلمي والصياد، الفقيه والدين والسُلطة، ص107. مرجع سابق.
[40] Ahmad Vaezi, “Shia Political Thought,” Published by Islamic Centre of England, 2004, Pages: 92-99, Accessed: 09 Aug, 2021, https://bit.ly/3ivGniF.
[41] Olivier Roy, “The Crisis of Religious Legitimacy in Iran,” Middle East Journal, Spring 1999, JSTO, accessed: 09 Aug, 2021, https://bit.ly/37z8CGU.
[42] Raziq Hussain, “THE CENTRALITYT OF ‘WILAYAH’ IN SHIA POLITICAL THOUGHT,” Islamic Research Index, accessed: 09 Aug, 2021, https://bit.ly/3yzmk8R.
[43] Alireza Nader, David E. Thaler, S. R. Bohandy, “Factor 1: The Factional Balance of Power,” The Next Supreme Leader, RAND, 2011, accessed: 09 Aug, 2021, https://bit.ly/3jADP2l.
[44] إحسان نراغي، من بلاط الشاه إلى سجون الثورة، بيروت، دار الساقي، 2015م، ص62.
[45] روى متحدة، بردة النبي.. الدين والسياسة في إيران، ترجمة: رضوان السيِّد، بيروت، المدار الإسلامي، 2019م، ص452.
[46] راجع: محمود بارجو، النزوع إلی الزيدية في اللاهوت السياسي الشيعي، العربي الجديد، 08 مارس 2021م، (تاريخ الاطلاع: 01 أغسطس 2021م)، https://bit.ly/3fOTTvx.
[47] راجع: الشهرستاني، المِلَل والنِّحَل، 1/ 156. مرجع سابق.
[48] محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري، بيروت، دار التراث، 1387ه، 7/ 172.
[49] راجع: محمد عمارة، الإسلام والثورة، القاهرة، دار الشروق، 1988م، ص238. ويؤكِّد الشهرستاني تتلمذ زيد بن علي على يد واصل بن عطاء رأس المعتزلة ورئيسهم، وأنَّه: «اقتبس منه الاعتزال، وصارت أصحابه كُلَّهم معتزلة». الشهرستاني، المِلَل والنِّحَل، 1/ 155. لكن الشيخ محمد أبو زهرة يستبعد تتلمُذ زيد على يد واصل، ويثبت أنَّ العلاقة لم تكُن علاقة أستاذ وتلميذ، بقدر ما كانت علاقة بين صديقين يتباحثان في المسألة العلمية «ولهذا نرى أنَّ التقاء زيد بواصل بن عطاء كان التقاء مذاكرة علمية، وليس التقاء تلميذ يتلقَّى عن أستاذ». محمد أبو زهرة، الإمام زيد حياته وعصره.. آراؤه وفقهه، القاهرة، دار الفكر العربي، 2005م، ص42- 43.
[50] الشهرستاني، المِلَل والنِّحَل، 1/ 158. مرجع سابق.
[51] أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق: هلموت ريتر، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2000م، ص97.
[52] محمد عمارة، مسلمون ثوّار، القاهرة، دار الشروق، 2006م، ص185.
[53] يرصد لنا الشهرستاني هذا التحوُّل في العقل الزيدي، فيقول: «ومالت أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول، وطعنت في الصحابةِ طعن الإمامية». المِلَل والنِّحَل، 1/ 157. مرجع سابق.
[54] تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، اتّعاظ الحنفاء بأخبار الأئمَّة الفاطميين الخلفاء، تحقيق: محمد حلمي أحمد، القاهرة، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، د.ت، 2/ 40.
[55] المرجع السابق، 2/ 86.
[56] جمال الدين الشيال (جمع وتحقيق)، مجموعة الوثائق الفاطمية، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011م، 1/ 48، 51.
[57] المرجع السابق، ص76- 77.
[58] المقريزي، اتّعاظ الحنفاء، 2/ 140. مرجع سابق.
(****) يقول فيه الذهبي: «العلّامة أبو الحسن الحلبي، فقيه الشيعة، ونحوي حلب، ومن كبار تلامذة الشيخ أبي الصلاح».
[59] شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، بيروت، مؤسسة الرسالة 1985م، 18/ 176.
[60] جعفر السبحاني، بحوث في المِلَل والنِّحَل، 8/ 216. مرجع سابق.
[61] السابق، 8/ 217.
[62] السابق، 8/ 221.
[63] السابق، 8/ 222.