قصيدةٌ شعرية ألقاها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أثناء مشاركته في الاحتفالات العسكريّة التي أجرتها جمهورية أذربيجان في العاصمة باكو في العاشر من ديسمبر 2020م بمناسبة الانتصار العسكري على دولة أرمينيا في حرب ناغورني قره باغ، أدت إلى اندلاع أزمةٍ دبلوماسيّة بين أنقرة وطهران باستدعاء إيران السفير التركي لدى طهران واستدعاء تركيا السفير الإيراني لدى أنقرة، وتبادل مذكرات الاحتجاج الرسميّة.
لم يتوقف الأمر بالنسبة لإيران عند حدّ استدعاء السفير التركي وتسليمه مذكرة احتجاجٍ على قصيدة تتحدثُ عن تقسيم الأراضي الأذربيجانية بين روسيا وإيران في القرن الـ19 اعتبرتها استهدافًا مباشرًا للوحدة الترابية الإيرانية، بل علق وزير خارجيّتها محمد جواد ظريف غاضبًا لكون القصيدة تؤجّج النزعات الانفصالية لدى الأذريين الإيرانيين لحديثها عن نهر أرس الواقع على الحدود بين أذربيجان وإيران ومشقة الشعب الأذري بموجب معاهدة جلستان التي منحت الأراضي الأذرية شمال نهر أرس لروسيا القيصرية والأراضي الأذرية جنوب النهر لإيران، ومِن ثَمَّ فهي دعوةٌ تركية مباشرة لإلغاء المعاهدة وانفصال الأذريين للعودة إلى مرحلة ما قبل جلستان.
الزمان والمكان يعكسان أنّ اختيار القصيدة وترديدها له أبعادٌ سياسيّة تركية بالغة الدقة، حيث أُلقيَت في توقيتٍ يموج بالتنافس بين تركيا وإيران في ساحاتٍ عديدة، أبرزها الساحتين العراقية-لمجاورتها جغرافيًّا للدولتين-والسورية، على خلق أوراق ضغط وكسب مناطق نفوذ جديدة في هاتين الدولتين الجيو-سياسيتين ضمن سياسة «تنافس المناطق الرمادية» بين تركيا وإيران ويكون فيها الانتصار بكسب النقاط في أكثر من منطقة رمادية.
وفي توقيت-أيضًا-بالغ الحساسية تدركُ فيه أنقرة تحولاتٍ ليست في صالح إيران في الساحة العراقية لمحاولات الكاظمي نقل العراق إلى مرحلة الدولة وتطورات الأوضاع في إقليم كردستان العراق، وضغطٍ روسيﱟ وإسرائيليﱟ قوي على الحضور الإيراني في سوريا، وتحولاتٍ ليست في صالح طهران في منطقة جنوب القوقاز بصعود القوة الأذربيجانية الحليفة لأنقرة وحصول الأخيرة على مكسبٍ يُحسب لأردوغان ببسط النفوذ لمنطقةٍ رمادية جديدة على الحدود الإيرانية مثلما ترابطُ إيران في سوريا مُمثّلةً في ميليشياتها المُسلحة قرب الحدود الجنوبية لتركيا.
والأهم من ذلك إدراك القيادة التركية في هذا التوقيت بضرورة رسم معالمَ مُقاربة تركية جديدة مُغايرة تتناسب والتغييرات في البيت الأبيض، ولذلك يرى العديد من المراقبين أنّ إلقاء القصيدة مغازلةٌ للساكن الجديد للبيت الأبيض، بأنّ تركيا يمكنها التخلي عن موقفها الداعم لإيران-رغم العلاقات القوية التي تجمع الدولتين-ولا سيّما في وقتٍ تُعدُ فيه الدول الأوروبية والولايات المتحدة العقوبات لفرضها على أنقرة بسبب منظومة S-400 للصواريخ الروسية. وهو ما يتماشى مع البُعد البراغماتي الشديد الذي يحكمُ السياسة الخارجية التركية في عهد أردوغان.
أمّا بالنسبة للمكان، فلم يُلقِ أردوغان أبيات الشعر في مناسبةٍ عادية لكن ألقاهُ أثناء حضوره عرضًا عسكريًّا بحضور الرئيس الأذربيجاني في باكو عاصمة أذربيجان في 10 ديسمبر 2020م بمناسبة انتهاء الأعمال القتالية بإقليم قره باغ، وهو الإقليم الذي تحرر بفعل دعمٍ سياسيﱟ وعسكريﱟ وإعلاميﱟ هائل من تركيا، ومن باكو أيضًا. أكّد أردوغان في خطابه على أنّ «كفاح أذربيجان لم ينته»، وأنّ «إنقاذ أذربيجان أراضيها من الاحتلال لا يعني أنّ الكفاح انتهى، فالنضال في المجالين السياسي والعسكري سيستمرُ الآن على العديد من الجبهات الأخرى»، وهو تأكيدٌ تركي على تذكية المشاعر القومية الأذرية، ودعوةٌ لضمّ الشعوب الأذرية في دولة واحدة.
تقدمُ افتراضات مدارس الصراع تفسيراتٍ لما يدور بين القوتين الإقليميّتيْن من أوجه تعاون وأوجه صراع تكررت منذ قيادة أردوغان لتركيا، فعلى سبيل المثال لا الحصر نشيرُ إلى هجوم أردوغان على المغامرات الخارجيّة للنظام الإيراني في يونيو 2017م؛ بسبب سياساته التوسعيّة في سوريا والعراق مستخدمًا عبارة «التوسّع الفارسي» بقوله: «أنا أرى النشاط الإيراني بأنه توسعٌ فارسي وليس صراعًا عرقيًّا ودينيًّا. وأؤكد شخصيًّا أنني أعارضُ مثل هذه التوسعات الإيرانية»، حيث ترى هذه المدارس أنه رغم أوجه التعاون البينيّة غير أنّ الصراع مصيرٌ حتميٌّ بين أنقرة وطهران بالنظر إلى سياسات الاستقطاب الحادّ لكلاهما، مع التنافس الشديد على احتلال مركزٍ متقدمٍ في القيادة الإقليمية، وتداخل مناطق النفوذ بين المشروعين الإيراني والتركي في دوائرَ عديدة سواءً في المنطقة الشرق أوسطية أو في خارجها.
ولكن أيضًا تربط هذه المدارس بين ارتفاع منحنى التنافس بين هاتين القوتين أو انخفاضه بطبيعة النظام الدولي القائم وسُبُل تعاطيه مع كافة القوى الإقليمية المتنافسة، إذ تتبنى القوى الإقليمية المتنافسة على مناطق النفوذ والريادة الإقليمية مبدأ «تأجيل الصراع» عندما تكون السياسات الضاغطة من النظام الدولي شاملةً لكافة تلك القوى التي ترى في هذه الحالة مكاسبَ جماعية عند تغاضيها عن ما يسود بينها من أزماتٍ في سبيل مواجهة الضغوط الجماعية القادمة من القوة الدولية المُمسكة بزمام النظام الدولي، دون أن يعني ذلك انتفاء الأزمات وإنّما تلجأُ القوى الإقليمية المتنافسة في هذه الحالة إلى إستراتيجية «تنافس المناطق الرمادية».
ويتعاظم الصراع بين القوى الإقليمية المتنافسة على موقع القيادة الإقليمية ومناطق النفوذ عندما ينتفي الضغط الدولي الذي يجمعُ بينها، وتزداد حالة «تأجيل الصراع» بين القوى الإقليمية إذا ما كانت الضغوطات قادمةً من نظام دوليﱟ أحادي القطبية كالنظام الدولي الراهن التي تتربعُ على عرشه الولايات المتحدة الأمريكية، على أن تظل سياسة «تنافس المناطق الرمادية» قائمة، وهو ما ينطبق على تركيا وإيران حيث تحاول كلا القوتين التركية والإيرانية خلال فترة دونالد ترامب كسب النقاط في المنطقة الشرق أوسطية وخارجها دون التحول إلى صراعٍ مُباشر.
وهذا ما يقدمُ تفسيرات لمرحلة التفاهم التركي-الإيراني إبّان فترة الرئيس دونالد ترامب بخلاف فترة الرئيس السابق باراك أوباما بوقوف تركيا بجانب إيران في رفض العقوبات التي فرضها ترامب لتُعرّض أنقرة لعقوباتٍ مُماثلة، ويقدمُ تفسيرات أيضًا لتوقيت إلقاء القصيدة بالتغيير في الإدارة الأمريكية وتحسّب أنقرة من إمكانية أن تُحقق إيران مكاسب في عهد بايدن بموجب مقاربةٍ جديدة مُغايرة عن مقاربة الرئيس ترامب بما يمنحها قوةً في المُضّي في مغامراتها التوسعية، وفي هذه الحالة سيعود التوتر من جديد بين هاتين القوتين الإقليميتين.
وعلى ضوء المعطيات السابقة ولأسبابٍ تتعلقُ بإيران أكثر-بينما تصعد تركيا إعلاميًّا منذ الكشف عن الخلية الإيرانية في إسطنبول المكونة من 11 عنصرًا التي يُعتَقدُ أنها مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني التي اختطفت المعارض الأحوازي حبيب أسيود، وتهريبه إلى إيران وكذلك بثّ قناة TRT التركية الرسمية فيديو حول قضية الأحواز العربية-فلن تتطور هذه الأزمة، وذلك بالنظر إلى حاجة إيران الشديدة لتركيا للالتفاف على العقوبات، وإيلائها الأولوية الأولى لمشروعها التوسعي الذي كبّدها خسائر مادية وبشرية تنتظر جنيَ ثماره عن الدخول في صراعاتٍ جديدة مع دولة إقليمية ذات وزن وجارة بحجم تركيا، بدليل تعرض إيران مُمثلةً في تمركزات ميليشياتها المسلحة في سوريا لعشرات بل لمئات الغارات الجوية الإسرائيلية في مختلف المحافظات السورية دون رد، والأزمة الاقتصادية الإيرانية الكارثية نتيجة العقوبات، وتعرضها لتحديّات قوية سواءً فيما يتعلق بالساحة العراقية أو السورية أو بمِلفها الإقليمي برمته بمقتل سليماني بداية العام وفي مِلفها النووي بمقتل فخري زاده قبل نهاية 2020م، والأهم انتظار إيران وتركيا لسياسات الحاكم الجديد للبيت الأبيض، ومِن ثَمَّ فإنّ سياسة التهدئة هي الأوقع من جانب إيران، وهو ما يتضحُ في سرعة الاحتواء الإيراني للأزمة والتأكيد على عُمق العلاقات، وتأكيد الرئيس الإيراني حسن روحاني ذاته حُسن نية أردوغان في إلقائه القصيدة.
المصدر: arabnews
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد