على مدى أربعة عقود لعب الخطاب الإعلامي الإيراني دورًا مهمًّا في تحقيق الرؤية القائمة على تصدير النموذج الإيراني وخلق صورة ذهنية مثالية عن النظام الإيراني وضَعف خصومه، عبر إتباع خطاب متنوع يتناسب مع الجهات والدول المستهدفة وانتمائها الديني والمذهبي وموقفها السياسي من النظام الإيراني.
ولتشكيل الخطاب السياسي في الخارج تدير هيئة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية التي يشرف عليها المرشد علي خامنئي، مجموعة كبيرة من القنوات التليفزيونية، بلغات مختلفة كالعربية والفارسية والإنجليزية والفرنسية والتركية والبوسنية وبعض اللغات الإفريقية كالهوسا والسواحيلية، كقناة العالم الموجهة إلى الدول العربية، وقناة “برس تي في” التي تبثّ برامجها باللغة الإنجليزية، وقناة «هيسبان تي في» التي تخاطب عددًا كبيرًا من الشعوب الناطقة باللغة الإسبانية كإسبانيا وبعض دول أمريكا اللاتينية.
إضافةً إلى القنوات المذكورة، تموّل إيران عشرات القنوات التليفزيونية في عدد من الدول العربية، كقناة “المنار” التابعة لحزب الله بلبنان، و”الميادين” و”نبأ” و”المسيرة” و”اللؤلؤة” و”العهد”.
وعلى مدى 41 عاماً هي عمر النظام الإيراني، أسهمت هذه القنوات في تنفيذ السياسات الإعلامية والدعائية الممنهجة التي تستهدف المحيط الاقليمي على وجه الخصوص، إذ ركزت بشكل رئيسيّ على الادعاء بعمالة الأنظمة العربية وارتهانها للغرب، وبثّ بذور الفتنة الطائفية عبر التشكيك في الإسلام السُّنِّي، وتهيئة الأرضية لنشر المذهب الشيعي، والترويج للمشروع التوسعي الإيراني في دول المنطقة، والمتاجرة بالقضية الفلسطينية.
لكن يبدو أن العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران والتي عمّقَت جراح الاقتصاد الإيراني، قد ألقت بظلالها الثقيلة على منابر الدعاية الإيرانية التي تديرها مؤسسة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية في داخل إيران وخارجها، وقد كشف بيمان جبلي، مساعد هيئة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية لشؤون الإعلام الخارجي، عن حجم الأزمات التي تعصف بهذه المؤسسة، عندما حذّر من احتمالية وقف شركات الأقمار الصناعية بثَّ عدد من فضائياتها بسبب عدم قدرتها على دفع ديونها المتراكمة.
وكانت قناة “الكوثر” الفضائية التي تبثّ برامجها باللغة العربية، أُولَى القنوات التي تأثرت بالأزمة الاقتصادية بعد أن وقف قمر يوتلسات بثّ هذه القناة في مايو الماضي بسبب تراكم الديون المترتبة عليها، تلتها قناة “سحر” الناطقة باللغة الأردية، ثم إحدى أقدم الإذاعات الإيرانية التي تبثّ برامجها بالفارسية الدرية من العاصمة الأفغانية كابول منذ أكثر من أربعين عاماً، لنفس الأسباب، كما انخفضت ميزانية بعض القنوات بشكل ملحوظ فضلًا عن تأخُّر صرف رواتب الموظفين والإعلاميين لشهور.
الإعلام الإيراني رجع الأزمة المالية التي تمر بها مؤسسة الإذاعة والتليفزيون إلى عدم تعاون هذه المؤسسة وعدم تقديمها الوثائق اللازمة للهيئة الرقابية التي عيّنَتها الحكومة لمراجعة كيفية إنفاق 947 مليون دولار كانت خُصصت لها بين عامَي 2009 و2014 لتطوير البنية التحتية وتوفير معدات جديدة كشرط أساسي لأي مخصصات إضافية، لكن هذا التبرير يبدو أنه غير كافٍ وغير مقنع في ظلّ تبعية هذه المؤسسة للمرشد.
مؤسسة الإذاعة والتليفزيون من المؤسسات الرئيسية التي يعوّل عليها المرشد علي خامنئي في تنفيذ سياساته، ومن أهم أدوات القوة الناعمة التي توظّفها إيران لخدمة مبادئها وأهداف سياستها الخارجية، لكن تراجع الدعم المالي المقدم لهذه المؤسسة وعدم تدخُّل علي خامنئي بشكل حاسم لحلّ أزماتها المالية، قد يقود إلى عوامل أخرى قد تكون وراء تراجع اهتمام النظام الإيراني بالإعلام الموجه إلى الخارج، أهمّها:
_ فشل الإعلام الإيراني الموجه إلى الخارج، بخاصة دول المنطقة، في استقطاب الشارع العربي، بعد تَكشُّف الأهداف التوسعية والطائفية لإيران.
_ فشل الإعلام الإيراني في تقديم خطاب إعلامي مقنع للمتلقي العربي، وحتى على المستوى الداخلي فقد تسبب احتكار النظام الإيراني وسائل الإعلام التقليدية والجديدة وعدم الشفافية، في ضعف ثقة المواطن الإيراني بمعظم القنوات الإيرانية المحلية، واللجوء إلى القنوات والإذاعات الخارجية الناطقة باللغات الفارسية والعربية والإنجليزية.
_ حرص مؤسسة الإذاعة والتليفزيون على رفد إمبراطوريتها الإعلامية بعشرات القنوات التليفزيونية والإذاعية في الداخل والخارج، زاد الأعباء المالية على الاقتصاد الإيراني المُنهَك أصلًا جَرَّاء العقوبات واستشراء الفساد وسوء الإدارة.
_ تَورُّط إيران في الحروب الإقليمية، لا سيما في سوريا واليمن، أدَّى إلى استنزاف مواردها المالية وخلق عديد من الأزمات التي تتطلب إعادة تقييم حجم الإنفاق المالي على مؤسسات النظام الإيراني، بما فيها مؤسسة الإذاعة والتليفزيون.
_ خلال السنوات الأخيرة تَحوَّل الخطاب الإعلامي الإيراني من الدعاية للنظام والترويج للثورة المتمثلة في نصرة المستضعفين، إلى الترويج للنزعة الإيرانية في تحقيق مشروعها التوسعي في دول المنطقة، وقد كشفت التدخُّلات الإيرانية في كل من العراق وسوريا واليمن عن هذه النزعة، وهو ما أفقد خطابها الإعلامي كثيرًا من المصداقية حتى بين الشيعة الذين كانوا حتى وقت قريب يصفونه بالخطاب الثوري والمقاوم.
خلاصة القول أن سياسة الضغوطات القصوى التي تمارسها الإدارة الأمريكية على إيران قد ألقت بظلالها على الآلة الإعلامية الإيرانية الموجهة، مما يقود بطبيعة الحال إلى تراجع في البروباغندا الإيرانية، وأن إيران -على ما يبدو وبسبب الصعوبات المالية- قد بدأت إعادة جدولة أولوياتها وتقليص مصروفاتها خشية انعكاس تلك الصعوبات على التحديات الداخلية المتصاعدة، التي تضاعفت في ظلّ جائحة كورونا. كذلك من غير المستبعَد أن تتراجع قوة الجيوش الإلكترونية الإيرانية التي تروّج النظام الإيراني عبر منصات التواصل الاجتماعي. لكن هذه الحقائق لا ينبغي معها الاعتقاد أن إيران لن تعمد إلى تنشيط بعض أدواتها الإعلامية أو تكثيف جهود المؤسسات القائمة، مع عدم الرجوع بقوة عند تحسُّن الظروف الاقتصادية والسياسية.