وَفْقًا لِمَا ذكره عديد من الحقوقيين والمحللين، أثارت التوتُّرات المتصاعدة مع الولايات المتَّحدة المشاعر الوطنية في إيران، مِمَّا أتاح لـ “المتشددين” السياسيين في إيران فرصة لاستهداف أولئك النُّقاد في الداخل بشراسة، إلى جانب فرصة أخرى استغلوها هي “تسوية حساباتهم القديمة”. لقد طال تضييق الخناق أيضًا كل من النشطاء والصحفيين وحتى السياسيين الذين شجَّعوا القادة “الإصلاحيين”، ومن عَلَت أصواتهم للنهوض بإيران لتصبح بلدًا أكثر تسامحًا وانفتاحًا، ليحاصر القضاة “المتشددون” في إيران خلال الأسابيع الأخيرة الرئيس “الإصلاحي” السابق في منزله، كما حكموا على القادة “الإصلاحيين” بالسجن، وفتحوا تحقيقًا جنائيًّا على قناة “بي بي سي” الفارسيَّة بتهمة التآمر والمساس بالأمن القومي، علاوة على ذلك فرضوا القيود على سفر أسرة الرئيس الراحل والمصلح السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، كما أصدرت محكمة الاستئناف حكمًا بالسجن على ناشط “إصلاحي” في تهم متعلقة بالأمن القومي. بدأت كل هذه الخصومات داخل إيران قبل حلول الاضطرابات الحالية مع الولايات المتَّحدة، إلا أن هذه المجريات بلغت أقصاها حاليًّا بسبب الإجراءات الأمريكيَّة الأخيرة، إذ أعلن الرئيس ترامب في الشهر الماضي استراتيجية جديدة لمواجهة إيران، ناعتًّا حكومتها بــ”النِّظام المتعصب”، كما اتهمها بـ”نشر الموت والدمار والفوضى في جميع أنحاء العالَم”، إضافةً إلى رفضه التصديّق على امتثال إيران لبنود الاتِّفاق النووي الذي وقَّعَته مع القوى العالَمية عام 2015، وفي هذا السياق يقول مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة دنفر نادر هاشمي: “إن سياسة ترامب تجاه إيران مهَّدَت الطريق أمام “المتشددين” الإيرانيّين لأن يدفعوا البلاد إلى أعتاب حرب محتمَلة، وأن يمارسوا كذلك سياسات القمع ضدّ المجتمع المدني، وأن يحتجوا أيضًا على القوميَّة الإيرانيَّة باعتبارها صيحة استنفار”.
علاوة على ذلك صرَّح نادر هاشمي بأن “”المتشددين” في السُّلْطة القضائيَّة والجهات الأمنية، بالإضافة إلى المؤسَّسات الدينية، لطالما ردَّدوا على مسامع الشعب الإيرانيّ قولهم في ما يتعلق بتشديد السياسة الأمريكيَّة: “هل شهدتم على ذلك؟ لقد نبأناكم بحدوثه مُسبَقًا”، كما يذكر نائب مدير مركز حقوق الإنسان في إيران أميد معماريان، الذي يسكن في نيويورك أن سياسة ترامب الأخيرة فتحت المجال لــ”تضييق الخناق على”الإصلاحيين””.
على أي حال، ففي الوقت الذي عانى فيه “الإصلاحيون” الإيرانيّون أسوأ من ذلك بكثير، فإن المجريات الأخيرة حازت اهتمامًا خاصًّا، فخطاب ترامب كان بمثابة تمهيد لتكثيف الضغوط على إيران، بجانب أن حملة الإدانات والاعتقالات وفرض القيود الأخرى ظهرت بكثافة بعد إعادة انتخاب الرئيس “المعتدل” حسن روحاني، وهو الحليف “الإصلاحي” الذي أدان بشدة توجهات “المتشددين” الأكثر استبدادية خلال حملته الانتخابية.
إن الفجوة بين “المتشددين” و “الإصلاحيين” لطالما تسببت في تغير السياسات الإيرانيَّة وتمزُّقها على مرّ سنوات طويلة، اعتبارًا من جهود الرئيس السابق محمد خاتمي خلال فترة التسعينيات من أجل دفع النِّظام نحو الإصلاح، وجدير بالذكر هنا أن السلطات منعت خاتمي منعًا باتًّا من الظهور في وسائل الإعلام أو التحدث إليها، لكنه لا يزال على الرغم من ذلك يتمتع بشعبية كبيرة، فوَفْقًا لتقارير وسائل الإعلام المحلية، فقد منعته قوات الأمن في الشهر الماضي من مغادرة منزله، كما وضعته تحت الإقامة الجبرية، وعلينا في هذا السياق أن نعرف أن رؤية خاتمي للنهوض بجمهورية “إسلامية” أقَلَّ تَشدُّدًا وأكثر تَسامُحًا في عام 1979، أسهمت في جعل المحافظين يعزِّزون من دور الحرس الثوري الإيرانيّ القوي في دخول عالَم السياسة لدعم المحافظين الإيرانيّين والتصدِّي لـ “الإصلاحين”، وقد ظهرت العداوة بين الجانبين في عام 2009 عندما احتجّ “الاصلاحيون” على نتائج الانتخابات الرئاسية المختلَف عليها في ذلك العام، إذ أثارت المظاهرات الشعبية حينها انزعاج النِّظام الذي شنّ بدوره حملات قمع وحشية واعتقالات واسعة، وفي حين ظهرت حركة “الإصلاح” بعد ذلك كله فإنها سرعان ما قُضِيَ عليها، وكانت آمال عودتها في المقابل ضئيلة، إلا أن رئاسة روحاني إلى جانب الانتصارات الأخيرة التي حققها “الإصلاحيون” في الانتخابات البرلمانية والبلدية وسَّعَت مرة أخرى نطاق الأصوات المؤيدة لـ “الإصلاح” مِمَّا أثار استياء “المتشددين” كثيرًا، وفي هذا الجانب تقول سوزان مالوني الخبيرة في الشؤون الإيرانيَّة في مؤسَّسة بروكينغز، إن “التحركات الأخيرة قد تكون انطلقت للقضاء على أي احتمال لإحياء الحركة “الإصلاحية””، مضيفةً: أن “موجات التعصب التي أثارها خطاب ترامب أتاحت [للمرشد الأعلى] خامنئي بعضًا من الفرص الإضافية للمناورة”.
وقد دعت وكالة أنباء ذات صلة بالحرس الثوري في مقال نُشر في أواخر الشهر الماضي إلى إقامة التحقيق الجاري ضدّ قناة “بي بي سي الفارسيَّة”، الذي تَضمَّن تجميد أصول الصحفيين المحليين كجزء من “غنائم الحرب” في الصراع الإيرانيّ مع الغرب.
إن قدرة الولايات المتَّحدة لا تزال محدودة في التأثير على السياسات الإيرانيَّة المحلية، كما سيوحِّد “الإصلاحيون” جهودهم أيضًا مع المحافظين للتصدي لأي عدوان خارجي، إلا أن المحللين رغم ذلك أشاروا إلى تحولات ملحوظة بعد حملات الاعتقال وفرض القيود الأخيرة، ومن تلك التحولات تصريح ترامب في خطابه في 13 من أكتوبر بأنه قد يفرض عقوبات على الحرس الثوري الإيرانيّ، كما أنه قد يستهدف برنامجه الصاروخي بلا هوادة، وسيتعاون مع حلفاء إقليميين للتصدِّي لدعم الحرس الثوري لوكلائه في المنطقة، وفي هذا السياق يقول نادر هاشمي: “بعد انتخاب ترامب، ألقى خامنئي خطابًا ندّد فيه بالديموقراطية الحرة التي قادت إلى مثل هذه النتائج، مخبرًا الشباب الإيرانيّ بأن إعجابهم بالغرب لم يكُن في محله”.
إن روحاني يمثل حبل النجاة الأساسي لـ “الإصلاحيين” لإحراز التقدم، لكنه لا يزال رجلًا واقعيًّا، كما أنه خفَّف حِدَّة بعض انتقاداته للمؤسَّسات “المتشددة” مثل الحرس الثوري، ويقول معماريان في هذا الجانب إن روحاني الذي حصر نجاحه الرئاسي في نجاح الاتِّفاق النووي، يعمل منذ بدء الولاية الثانية له، على “أن يكون ضمن صفوف معسكر المحافظين تَحسُّبًا لحدوث أي موقف غير متوقع مع الولايات المتَّحدة”، مضيفًا: “قد يعتقد روحاني أنه لن ينجو إذا انهارت الصفقة النووية، لذلك فإنه يقاتل مع “المتشددين” حول القضايا المحلية”!
مادة مترجمة: واشنطن بوست
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز