كانت تقف بجانب محلّ لبيع القهوة يقبع عند محطة قطار الأنفاق في شارع «15خرداد»، مرتدية ثوبًا وبنطلونًا أسودين وعلى رأسها وشاحها الأخضر، صارخة بأعلى صوتها: »تعال وانظر! اشترِ! تخفيضات.. المجموعة بـ15 تومانًا…« ، لم يكُن صوتها يصل إلى أي مكان، لذا كانت تصعد إلى أعلى دَرَج المحلّ المجاور ملوّحة بأكياس القهوة البلاستيكية الحمراء والدّاكنة وهي تُردّد: «انظر واشترِ».
كلما توجهنا إلى أعلى السوق ازداد عدد الرجال والنساء الصارخين، الذين يقفون أمام المحالّ التجارية وبعضهم يصرخ بغضب، في حين ينظرون إلى الناس الذين يمرُّون بهم بهدوء وعلى وجوههم ترتسم علامات اللا مبالاة.
يتابع أحد أصحاب محالّ المُكسَّرات بعينيه عجوزًا تقف أمام أكياس الفستق وتجرّبها واحدة تلو أخرى، في حين كانت أسعار كلّ صنف مكتوبة على ورقة بيضاء مثبَّتة على وتدٍ خشبي مغروس وسط الأكياس، لكن العجوز كانت تسأل عن ثمنها، ويُقابَلُ سؤالها في كلّ مرة بوجوم من صاحب الدكّان الذي احمرّت عيناه، لكنه كان يقول في النهاية: «لا أحد يشتري، على الأقل تذوّقيه». وعلى أرصفة السوق أوثق الحمّالون والعتّالون عرباتهم إلى أشجار الصفصاف، وجلسوا أمام المحالّ يتجاذبون أطراف الحديث، وإلى جانبهم جلس أصحاب المحالّ التجارية التي خلت من الزبائن.
كان كلّ واحد منهم يُدلِي بتحليل جديد حول أوضاع السوق. يقول حُجّت، وهو رجلٌ في متوسّط العمر يمتلك متجرًا للألبسة: «هذه أوضاعنا كلّ يوم، نضع رؤوسنا على الفراش ليلًا ونحن نفكّر في ما يخبئه لنا الغد، وعلى أي حال فنحن لا نتوقّع المعجزات، فنحن نغلق أبواب هذه المتاجر ونذهب، في حين تدور آلاف الأفكار والأوهام في رؤوسنا». كان حجّت مسترسلًا في حديثه، وبجانب الرصيف وقفت فتاة تلبس عباءة وتضع نظارات شمسية، وكان واضحًا من ملامح وجهها أنها تبكي، وبجانبها أطلق رجلٌ لصوته العنان وهو يدعو الناس لشراء دُماه البلاستيكية التي رصّها إلى جانبه.
مقابل سوق «الكويتيين» يجتمع أعضاء فريق تصوير تليفزيوني، وينضمّ إليهم اثنان من مقدّمي البرامج، لإعداد تقرير حول أوضاع السوق، فيما كان أحد أسئلتهم يدور حول الاتِّفاق النووي. يقول مقدّم البرنامج إنه يريد عرض برنامجه من خلال قناة تليفزيونية على الإنترنت، وفجأة يحدث شجار بين التجار ومقدم البرنامج، فعندما سمع الأخير حديث التاجر العجوز حول البطالة والفقر، أعطى الميكروفون لشخص آخر، وهذا ما أغضب الرجل العجوز الذي تَنَحَّى جانبًا وهو يقول لصديقه ساخرًا: «على بُعد خطوات سيجد بضعة من الشباب الراضين عن حياتهم، كأن شيئًا لا يحدُث. أنا بنّاء، ولم يقدِّم لي أحدٌ عملًا منذ ثلاث سنوات، وها أنا ذا أموت من الجوع». وفجأة يصرخ أحدهم من بين الجمع مخاطبًا مقدّم البرنامج: «تعالَ لأتحدث إليك، على مَن يجب شرح أحوالنا؟ ومن الذي يقول إننا أُمّيُّون؟ الحديث عن معيشتنا لم يعُد بحاجة إلى متخصص، فالجميع يعلم ما الذي يحدث»، ويصرخ آخر: «مِن أين يأتي هؤلاء؟ لقد ملؤوا سوق (باب همايون) بمتاجر الصناعات اليدوية والسياحية».
وقف رجل أمام متجره الذي كُتب عليه «سُجّاد كاشان» وهو يُمسِك بوعاء مليء بالمخلَّلات، في حين كانت عيناه تتابعان حركة العابرين. يقول الرّجل إن إيجار محلّه الشهري يبلغ خمسة ملايين تومان، لكنّه لا ينفع إلا للفُرجة، فلا أحد يشتري، وفي هذه الأثناء كان صوت حميد هيراد يصدح من مذياع المتجر المجاور وهو يغني (هل هي مزحة…) ويختلط صوته بصوت المدّاح الذي ارتفع من الضريح المجاور لسوق باب همايون.
تفرق الجمع الذي كان قد التفّ لإجراء مقابلة تليفزيونية، ووقف البعض يحلّل ما تَطرَّق إليه مقدّم البرنامج، في حين جلس بعض الصبية العتّالين جانبًا وهم يتمازحون، وفي نفس الوقت كانوا منتبهين أن لا يضيعوا الفرصة لقنص الزبائن.
كان محسن أصغرهم سِنًّا، ويبلغ التاسعة من العمر، وهو يمارس مهنة العتالة مع صديقه محمد منذ عام، يقول محمد ضاحكًا وهو يراقب محسن: «لقد كان مجيئه نَحْسًا، فلم يبقَ عمل». وفجأة يصل مُراد ابن الاثني عشر عامًا وهو يحمل الطعام، ويقسّم الوجبات بين الجميع، أما محسن فلم يذهب إلى المدرسة إطلاقًا؛ قَدِم مع والدته من إيلام إلى طهران، ويساعد أخاه الأكبر لعَوْل أسرتهما من خلال العمل في السّوق. يقول مراد وهو منهمك في تناول الطعام: «أجرة كلّ حملٍ نحمله 10 آلاف تومان، في حين يتقاضى الرجال الآخرون 30 ألفًا على نفس الحِمل، ومهما فعلنا فإنهم لا يُعطُوننا المال». والحقيقة أنه لا فرق بين أن تكون عاملًا في السوق أو خارجه، فلا أحد يعطيك زيادة على هذا، إذ لا يوجد عمل.
في إحدى زوايا السوق وقف شابّ يلبس بنطلونًا كحلي اللون كثير الجيوب، وقد دهن شعره الأسود الطويل بكثير من الزيوت لدرجة أنها تكاد تقطر منه، كان يمسك ببعض الأفلام بيده ويصرخ: «جلشيفته، شهرزاد…»، كان الجميع يسمعون صوته، لكنّهم لا يشترون. يقول إن مبيعاته تكون جيدة مع نهاية السوق، لأن أصحاب السوق هم فقط من يشترون منه عند مغادرتهم، وإلا فلا أحد يأتي إلى السوق ليشتري أفلام جلشيفته.
وفي أحد المتاجر جلس رجل تكومت حوله بناطيل الجينز مُسنِدًا ذقنه على يده فيما كان ينظر حوله، حتى إن دخول زبون جديد إلى المتجر ما كان ليثير انتباهه، وعند سؤاله عن أوضاع السوق اكتفى بالنهوض من مكانه بهدوء ومغادرة المكان، فيما قال صبيُّه بضجر: «لم يعد لدينا ما يمكن قوله، الجميع يشاهد أوضاعنا، ونحن ننتظر لنرى متى ستتحسّن، في حين نجلس جميعًا هنا من الصباح إلى المساء يشاهد بعضنا بعضًا. لم يعُد بمقدورنا تحويل التومان إلى دولار، فسعر الدولار الآن يصل إلى 6700 تومان، أعتقد أن الأمور لن تتحسّن، يجب أن نتحمّل الوضع الموجود، وأن نتعايش معه».
يقول أحد أصحاب محالّ بيع الملابس:
«نحن ننتج الملابس في الدّاخل، ونخيطها في المعامل ونحضرها إلى السوق، لكن يجب قبل ذلك استيراد الأقمشة من الصين. الناس لم يعُد لديهم قدرة على الشراء، ونحن لم يعُد لدينا قدرة على الحصول على الدولار، نحن الآن لا نبيع ولا نشتري، ولا نعلم ما الذي يجب فعله. أنا أعمل في هذه السوق منذ عشرين عامًا، الذين عليهم أن يعلموا بأوضاعنا يعلمون بها بالفعل، لكنّهم لا يحرِّكون ساكنًا، إنّ هذا الجزء من السوق المخصص لبيع الملابس هو الأكثر ازدحامًا في إيران، لكن انظر إليه الآن، إنه يخلو من الزبائن. يجب أن تجلس لترى كم شخصًا يمرّ من هنا في الساعة، لم يعُد أحد يشتري منا، كما أننا لا نملك الدولارات لشراء أقمشة جديدة».
وسط السوق تَصدر تمتمات حول نية بعضهم تنفيذ إضراب، لكنّ أيًّا من المتاجر لم يُغلَق، ولم يُضرِب أحد. يقول أحد التجار: «التقطوا في الصباح الباكر بعض الصور لعدد من المتاجر القديمة، ونشروها على الإنترنت وعلّقوا عليها قائلين إن السوق أضربَت عن العمل. أحد الأحزاب التقليدية له يدٌ في ذلك».
في هذه الأثناء وصلت إلى مسامعنا أنغام آلة الأكورديون، ومن بعيد ظهر شاب احترق نصف وجهه، يضع قناع أكسجين على أنفه، وكبسولة الأكسجين على ظهره. كان يمسك بالأكورديون بيده ويعزف ألحانه الحزينة.
مادة مترجمة عن صحيفة “قانون” الإيرانيَّة