المجتمعات الثائرة: الاحتجاجات الشعبية في لبنان والعراق ومآلات مشروع إيران الإقليمي

https://rasanah-iiis.org/?p=18376

يواجه صنّاع القرار في إيران تحدّيات غير محسوبة في تنفيذ المشروع التوسعي الإقليمي في دائرة دول المجال الحيوي الأول القريبة جغرافيًّا من إيران، إذ تحوَّل أحد أهمّ مرتكزات المشروع الإيراني الإقليمي، المتمثل في الخريطة المذهبية السكانية والطبقات الفقيرة والشبابية العريضة، التي طالما تعوِّل عليها إيران في عمليات الدمج والشحن الطائفي لضخ الدماء في شرايين مشروعها التوسعي العابر للحدود، إلى أكبر فاجعة باتت تؤرق قياداتها الدينية والسياسية، وهم يشاهدون انفراط عقد الاحتجاجات في أهمّ دولتين عربيتين لتنفيذ مشروع إيران الإقليمي.
فلم تمرّ سوى أسابيع قليلة على اندلاع جولة احتجاجات جديدة بالعراق مطلع أكتوبر 2019 ضد تفاقم مؤشرات الفساد بكلّ أشكاله، جرّاء تنامي ما وصفه المحتجّون بالسيطرة الإيرانية على المعادلة العراقية، حتى اجتاحت مظاهرات حاشدة وغير مسبوقة منذ سنوات لبنان منذ 17 أكتوبر 2019، لأسباب مشابهة تقريبًا للحالة العراقية بتنامي نفوذ حزب الله في المعادلة اللبنانية، وهو ما أسفر عن تقديم رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته يوم 29 أكتوبر 2019، وفي العراق، إعلان الرئيس برهم صالح يوم 31 أكتوبر 2019 موافقة رئيس الحكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة من منصبه، فالدولتان العربيتان تشهدان التحديات ذاتها، المتعلقة بمشروع إيران الرامي إلى ضرب مفهوم الدولة الوطنية بغية خلق دول رديفة تعمل لصالح طهران، وهو ما يكشف جملة من التساؤلات: ما مظاهر تنامي الاحتقان العربي ضد المشروع الإيران؟ وما انعكاسات ذلك على مستقبل المشروع ذاته؟ وكيف يمكن استثماره في تحجيم نفوذ إيران في الإقليم؟

أولًا: مظاهر تنامي السخط الشعبي العربي ضد النفوذ الإيراني
أهمّ دولتين عربيتين في ما يسمّى بالهلال الشيعي -لبنان والعراق- تشهدان تناميًا لحالات السخط الشعبي العارم، ليس فقط من سياسات الحكومتين اللبنانية والعراقية في معالجة الأزمات الاقتصادية، وإنما مما ووصفه المحتجّون بالهيمنة الإيرانية، ممثلة بحزب الله في لبنان وميليشيات الحشد الشعبي المسلحة في العراق، على الساحتين اللبنانية والعراقية، واكتراث النخبة الحاكمة في الدولتين لمصالحها ومصالح الدولة الداعمة (أي إيران) على حساب المستوى المعيشي للمواطنين في لبنان والعراق.
ويتضح الاحتقان الشعبي في الدولتين من المشروع الإيراني في هتافات وشعارات ومطالب المحتجّين، وخريطة توزيع الاحتجاجات في لبنان والعراق كالتالي:
1- مطالب المحتجّين اللبنانيين والعراقيين:
تخطَّت مطالب المحتجّين في الحالتين مجرَّد المطالب الإصلاحية المعتادة خلال فترات ماضية، وذلك بتركيزهم على مطلب إسقاط النظام الحاكم في لبنان (سيطرة حزب الله وحلفائه من 8 آذار المدعومين من إيران على الحكم) وفي العراق (سيطرة المكوِّن الشيعي الموالي لإيران على مقاليد الحكم) ورحيل الطبقة السياسية في لبنان (ميشال عون، نبيه بري، حسن نصر الله، سعد الحريري، وليد جنبلاط، سمير جعجع، وبقية أفراد الطبقة)، ومطلب إخراج إيران وميليشياتها المسلحة من لبنان والعراق، وإن كان بشكل أكبر في العراق، وهو ما كشفت عنه صراحة هتافات وشعارات المحتجّين في الدولتين، وتفعيل المحتجّين في لبنان والعراق وسوم مناهضة للوجود الإيراني على مواقع التواصل الاجتماعي مثل «طرد إيران مطلب عراقي».
هذا فضلًا عن مطلب إصلاح النظام الحاكم من جديد وفق أطر دستورية جديدة بما يضمن محاربة الفساد، ومكافحة الفقر، ومعالجة البطالة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والخدمات مثل المياه والكهرباء، وحرمان الساسة الطائفيين من استغلال توزيع موارد الدولة لصالحهم، وبناء دولة وطنية تقف على مسافة واحدة من جميع الأطياف والتيارات السياسية، ومحاربة الطائفية بما يضمن إبعاد إيران وميليشياتها من المعادلتين اللبنانية والعراقية.
2- هتافات وشعارات المحتجّين اللبنانيين والعراقيين:
رفع المحتجّون اللبنانيون والعراقيون -من كل فئات وأطياف وانتماءات ومناطق لبنان- شعارات معادية لإيران ووكلائها في لبنان والعراق، ففي لبنان التي تشهد احتجاجات -لم تُستثنَ منها أي منطقة أو طائفة ولم يسلم منها أي رمز سياسيّ بغضّ النظر عن انتماءاته العرقية أو الدينية- منذ السابع عشر من أكتوبر 2019، ردّد المحتجّون هتافات عابرة للطائفية بعيدًا عن التحيزات الضيقة للمذهب أو الطبقة، رافضين خطاب التهديد والوعيد للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في 19 أكتوبر 2019، الذي يحظى حزبه وحلفاؤه بالأغلبية البرلمانية والوزارية، والذي رفض خلاله مطلب استقالة الحكومة مهدِّدًا بالنزول إلى الشارع ضد المحتجّين.
وكذلك رفضوا القرارات الإصلاحية الـ24 لرئيس الحكومة -غالبية وزرائها محسوبون على حزب الله- سعد الحريري التي أعلنها في 20 أكتوبر 2019، وتشمل تخفيض رواتب الوزراء والمسؤولين إلى النصف، قبل تقديمه الاستقالة في 29 أكتوبر 2019، وذلك بهتافهم «كلن يعني كلن.. نصر الله واحد منن (منهم)»، في إشارة إلى ضرورة رحيل الطبقة السياسية الحاكمة بشكل كامل وفي القلب منها وزراء ونوّاب حزب الله. وقبل أسبوعين من احتجاجات لبنان، ردّد المحتجّون العراقيون على مختلف ألوانهم وأطيافهم السياسية والدينية والعرقية هتافات معادية لإيران، مثل «إيران برة برة.. والبصرة حرة حرة»، و«إيران برة برة.. عراق تبقى حرة».
3- خريطة توزيع الاحتجاجات في الدولتين العربيتين:
تكشف خريطة توزيع الاحتجاجات عن امتدادها لتطال ربوع لبنان (صيدا، طرابلس، جبيل، بعلبك، النبطية، شتورة)، وفي القلب منها الضاحية الجنوبية معقل حزب الله، ثم معقل حركة أمل، واتساع نطاقها في العراق لتمتد من العاصمة بغداد لتطال معظم المحافظات والمدن الجنوبية ذات الكثافة الشيعية العالية (الحواضن الشيعية للمشروع الإيراني)، ليصل عدد المحافظات العراقية التي شهدت احتجاجات إلى نحو 9 محافظات (البصرة، ميسان، ذي قار، الناصرية، النجف، السماوة، ديالى، واسط، الحلة). هذا، وتشير خريطة انتشار الاحتجاجات وهتافات محتجّيها إلى تخطِّيهم -ولو مؤقتًا- الكثير من الانقسامات الطائفية والسياسية التي اتسمت بها الحياة السياسية العراقية واللبنانية منذ مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة.
4- الجماعات المستهدَفة من المحتجّين اللبنانيين والعراقيين:
بشكل يكاد يكون متطابقًا في الحالتين اللبنانية والعراقية، تتنامى مشاعر السخط الشعبي والغضب ضد الميليشيات الموالية لإيران، إذ ركّز المحتجّون اللبنانيون والعراقيون على السواء على مطلب إخراج إيران وأتباعها بشكل مباشر من لبنان والعراق، خصوصًا بعد تهديدات نصرالله، التي زادت الاحتجاجات حدّة وشدّة، والتي لوّح خلالها بإنزال مناصريه، الذين يقدّر عددهم بالآلاف، إلى الشوارع لدعم بقاء الحكومة، التي يُعَدّ حزبه وأنصاره الجزء الأكبر منها، بقوله إنّ «وقت تظاهر أنصار الحزب ونزولهم إلى الشارع لم يأتِ بعد»، وهو ما يضع إمكانية مواجهة محتملة لآلاف المحتجّين بعضهم مع بعض في الشوارع، وقد انعكست مشاعر الاحتقان والغضب من أذرع إيران، كالتالي:
أ‌- في لبنان: أحرق المحتجّون صورًا لقادة إيران ورموزها الدينية والسياسية ولقادة حزب الله، وحمَّل رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة حزب الله والرئيس ميشال عون، التابع لتحالف 8 آذار الذي ينتمي إليه حزب الله، وإيران مسؤولية تفاقم الأزمات في البلاد، موضحًا أن من أبرز أسباب الاحتجاجات «سيطرة حزب الله الكاملة على مقاليد الأمور».
ب‌- في العراق: كانت مقارّ الميليشيات الموالية لإيران هدفًا منشودًا للمحتجّين، فأضرموا النيران في مقرّ حزب الدعوة -بمدينة الناصرية وذي قار- التابع لنور المالكي المعروف بولائه لإيران، وأقدموا كذلك على تحطيم آليات يقول المتظاهرون إنها تعود إلى ميليشيات الحشد الشعبي، ولم يستثنِ المتظاهرون أيَّ معلم تابع لإيران في المدينة، فأحرقوا مكتبَي سرايا الخراساني ومنظمة بدر القريبين من إيران، وفي البصرة أضرم المحتجّون النيران في صور المرشد الإيراني المنتشرة على الأعمدة والجدران في المدينة، وأحرقوا العَلَم الإيراني في العديد من المحافظات، كما اتهم المتظاهرون إيران وميليشياتها المسلحة بالوقوف وراء استعمال القوة المفرطة من قتل وقنص ضد المحتجّين، وهو ما يتماشى مع اتهام من وصفتهم السلطات العراقية بالمخربين وبـ«قناصة مجهولي الهوية» باستهداف المحتجّين والشرطة، يشتبه بارتباطهم بفصائل شيعية مدعومة من إيران، أدت إلى مقتل 260 محتجًّا وإصابة أكثر من 12 آلافًا آخرين، حسب مفوضية حقوق الإنسان العراقية.
وحفاظًا على مكتسباتها التي حققتها في لبنان والعراق بمجيء 2018، بانتصار الثنائي الشيعي (حزب الله/حركة أمل) التابعين لتحالف 8 آذار في الانتخابات البرلمانية 2018 بحصوله وحلفائه على أكثر من نصف إجماليّ مقاعد البرلمان البالغة 128، ونفوذ حزب الله الواسع في ربوع لبنان وسيطرته على المعادلة اللبنانية، بسيطرته على أغلبية وزراء حكومة الحريري، وبحصول المكوِّن الشيعي على أكثر من نصف مقاعد البرلمان بكثير، واستحواذه على أكثر من نصف عدد أعضاء حكومة عبد المهدي تقريبًا، مع الانتشار الميليشياوي العسكري واسع النطاق في العراق عامّة، والمحافظات الغنية بالنفط خاصّة.. بُغيةَ الحفاظ على هذه المكتسبات، وخشيةً من انكشاف أذرعها سياسيًّا، يبدو أن إيران حركت أتباعها بالسلاح لترويع المتظاهرين وإجهاض المظاهرات في مراحل مبكرة. ففي لبنان مثلًا، كشفت وسائل الإعلام عن إرهاب مناصري حركة أمل للمتظاهرين بإطلاق النيران عليهم، وقطع الطرق الرئيسية. وتكرر المشهد في العديد من المدن الجنوبية، كما تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر عناصر من «أمل» يحملون السلاح ويجوبون الشوارع، وعناصر أخرى تتوعد المحتجّين بالقتل، ونشر حزب الله في مداخل بيروت -وَفْق شهادات لإعلاميين لبنانيين- عناصر محسوبة عليه، موزعًا عليهم إطارات لحرقها وقطع الطرق على المتظاهرين.
وليس أدل على ذلك من وصف المرشد الإيراني علي خامنئي يوم 30 أكتوبر 2019 للاحتجاجات في العراق ولبنان بأنها «أعمال شغب تديرها أمريكا وإسرائيل وبعض دول المنطقة»، مضيفًا: «الحريصون في لبنان والعراق يجب أن يعالجوا أعمال الشغب التي تدار من قِبل أمريكا وإسرائيل وبعض الدول الرجعية»، وهذا وصف إيرانيّ للمحتجّين بمثيري الشغب، لتحقيق عدة أهداف، منها سحب الشرعية من مطالب المحتجّين، خصوصًا مطلب إسقاط الحكومة، واستمرارية الحكومة ذات الأغلبية الشيعية الموالية والمدعومة من إيران، وإعطاء الضوء الأخضر للحكومة العراقية بتقديم الدعم والمساندة حال الحسم الأمني لمن وصفهم بمثيري الشغب، وأخيرًا تحفيز الميليشيات للتدخل لحماية المكتسبات الإيرانية السياسية والتجارية والثقافية والعسكرية.

ثانيًا: دوافع تنامي الحراك الاحتجاجي العربي ضد النفوذ الإيراني
شكَّل إقرارُ الحكومة اللبنانية يوم 16 أكتوبر 2019 ضريبة ضمن سلسلة ضرائب على إجراء اتصالات عبر تطبيق الواتساب، سحبتها لاحقًا، الشرارةَ في انطلاق الاحتجاجات التي تحوَّلت بعد خطاب نصر الله، من مطالب لتحسين الأحوال المعيشية إلى مطالب سياسية، مطالبين بإسقاط النظام وإخراج أتباع إيران، بينما شكَّل قرارُ عبد المهدي يوم 1 أكتوبر 2019 باستبعاد قائد قوّات مكافحة الإرهاب الفريق عبد الوهاب الساعدي، الذي اضطلع بدور كبير في المعارك ضد التنظيمات الإرهابية، الشرارةَ في اندلاع الاحتجاجات العراقية، معتبرين ذلك خدمة لإيران ومشروعها بتعيينه قائدًا محسوبًا على الحشد الشعبي الموالي لإيران، فضلًا عن عجز الحكومة خلال عام من عمرها عن الوفاء بالتزاماتها المتمثلة في: مكافحة الفساد والفقر، وتوفير الخدمات كمياه الشرب والكهرباء، وتوفير فرص العمل، وهي الأزمات ذاتها التي تسببت في فشل حيدر العبادي في الحصول على ولاية حكم ثانية.
ولكن بشكلٍ عامّ، لم تندلع الاحتجاجات في أي وحدة دولية من فراغ، وإنما حتمًا تكون وليدة تراكمات لظواهر سلبية في الاقتصاد والسياسة تسببت فيها حكومات متعاقبة تسهر على حماية مصالحها وديمومتها في الحكم على حساب مصالح المواطنين، وذلك مقابل إدارة ظهرها لمعالجة الأزمات في بواكيرها، وتركها لمرحلة متأخرة تتحوَّل فيها إلى قنابل موقوتة نتيجة وصول المجتمع إلى حالة غليان. لبنان والعراق لم يقفا بعيدًا عن ذلك، فكما سبق القول يسيطر حزب الله المدعوم من إيران بشكل جزئيّ على نظام الحكم في لبنان خلال الفترة من 2006-2018، وبشكل شبه كامل منذ فوزه في الانتخابات البرلمانية مايو 2018، ويسيطر على العراق منذ عام 2003 المكوِّن الشيعي، والنظامان في لبنان والعراق حليفان استراتيجيان لإيران، ولذلك يدوران في الفلك الإيراني منذ سيطرة الشيعة على الحكم في الدولتين.
وارتباطًا بما سبق، يُعَدّ التدخّل الإيراني في لبنان والعراق سببًا مركزيًّا في استشراء الفساد في مفاصلهما ومؤسساتهما الحكومية، فلِكَي تضمن إيران مدّ نفوذها في الداخل اللبناني والعراقي وتنفيذ مآربها، اعتمدت على استبعاد الشخصيات اللبنانية والعراقية الوطنية من مراكز صُنع القرار في بيروت وبغداد لصالح بيادق موالية لها وتأتمر بأمرها، رغم إدراكها سرقة هؤلاء لأموال الشعب ونهب خيرات ومقدَّرات البلاد، وذلك ضمانًا لتنفيذ الأجندة الإيرانية بحذافيرها لاستكمال المخطط الإيراني بربط طهران بالعراق بدمشق ببيروت بالمتوسط، ومِن ثَمّ صارت كلٌّ مِن لبنان والعراق نتيجة الحكم الشيعي الموالي لإيران دولة ممزقة مهترئة ضعيفة تعاني أزمات على النحو التالي:
أ- استشراء الفساد: في مقابل تمرير الأجندة الإيرانية من خلال حزب الله في لبنان تمهيدًا لسيطرة كاملة للحزب على حكم لبنان، إذ يحتلّ لبنان المرتبة 136 من إجماليّ 180 دولة في تقرير منظمة الشفافية الدولية 2018، بينما احتلّ العراق المرتبة 12 ضمن قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم (المرتبة 168 في تقرير الشفافية الدولية 2018)، كما بلغت قيمة الأموال المهدرة من الأموال العامة في مرحلة ما بعد صدام حسين نحو 450 مليار دولار، ما يعادل تقريبًا نحو أربعة أضعاف ميزانية الدولة، وتعد فترة نوري المالكي الأكثر فسادًا في تاريخ العراق الحديث، إذ شهدت فترته تكوين الميليشيات الموالية لإيران على حساب المواطنين بذريعة محاربة الإرهاب.
بيد أنّ محاربة الفساد بكل أنواعه في لبنان والعراق وغيرهما من الدول التي أصابها الأذى الإيراني تبدأ من محاربة الفساد السياسي بالعراق الذي يترتب عليه فساد ماليّ وإداريّ، ومحاربة الفساد السياسي تبدأ من تحجيم نفوذ الميليشيات المسلحة الموالية لإيران في العراق، وتحجيم نفوذ حزب الله في لبنان من خلال وقف نشاطاته الخارجية في سوريا وغيرها، ووضع حدّ للسلاح بأيادي مقاتليه.
ب- انكماش اقتصاديّ: بعد ما يقرب من عقد ونصف العقد من الزمان على مشاركة حزب الله في الحكم اللبناني، ترسم الأرقام واقعًا اقتصاديًّا لبنانيًّا مأساويًّا يدفع بالبلاد نحو الانهيار الكامل، فقد أفضت تراكمات الممارسات الاقتصادية التي عجزت عن خلق اقتصاد منتِج مقابل الاعتماد على اقتصاد يقوم على الاقتراض من الخارج (لبنان ثالث أكثر الدول مديونية في العالم، إذ يبلغ إجماليّ الديون المستحقة عليه خلال عام 2018 نحو 86 مليار دولار، وفق إحصاءات جمعية المصارف اللبنانية) إلى تدني الإيرادات وتباطؤ النمو (0.2% خلال عام 2018 حسب صندوق النقد الدولي).
كما ارتفعت معدلات الفقر في البلد العربي الذي أنهكته الحروب ليعيش قرابة 28% من اللبنانيين تحت خط الفقر، ونسبة بطالة 36%، ويستضيف لبنان نحو 1.5 مليون لاجئ سوريّ، مما يثقل كاهله ويحمّله أعباء إضافية، كما يعاني من تراجع كبير في الاحتياطي النقدي القابل للاستخدام خلال عامَي 2018 و2019، إذ بلغ نحو 19 مليار دولار في عام 2019، مقابل نحو 25.5 مليار دولار في عام 2018. وبات نحو 22.6% بين الشباب العراقي في عِدَاد البطالة، وأكثر من ربع سكان العراق يعيشون فقرًا مدقعًا، رغم امتلاك العراق رابع أكبر احتياطيّ نفطيّ في العالم.
ج- غياب الخدمات: يعاني لبنان من أزمة كهرباء دفعت المواطنين للاعتماد على المولدات غالية الثمن، ففي العاصمة يبلغ معدل انقطاع الكهرباء في اليوم ثلاث ساعات يوميًّا، بينما يصل إلى ما يقارب 20 ساعة يوميًّا في مناطق أخرى، وأيضًا يعاني العراق انقطاعا مزمنًا للتيار الكهربائي ومياه الشرب منذ سنوات تسببت في اندلاع الاحتجاجات مرتين في المحافظات الجنوبية (يوليو/سبتمبر 2018)، إضافة إلى وجود نحو 1.8 مليون نازح عراقيّ بلا مأوى ومشردين، بينما يحتاج نحو 6.7 مليون عراقيّ إلى أحد أشكال المعونة الإنسانية حسب الأرقام الأممية، وتقدَّر تكلفة إعادة إعمار العراق، بما فيه المدن المحررة من داعش، بقرابة 88.2 مليار دولار.
د- إدراك شعبيّ بخطورة الهيمنة الإيرانية: تسببت سيطرة الفصائل الشيعية المسلَّحة المقرَّبة من إيران (تحالف الفتح ودولة القانون مع العديد من ميليشيات الحشد الشعبي مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق وحركة النجباء وكتائب حزب الله) على المشهد السياسي العراقي بشكل مباشر، عقب الانتهاء من محاربة تنظيم داعش، في خلق حالة احتقان في الأوساط الشعبية العراقية، وليس هذا فقط، بل في امتعاض العديد من الشيعة داخل المكوِّن الشيعي ذاته الذين شعروا بفقدان مكانتهم في المعادلة العراقية.
كما تسببت هيمنة حزب الله وحلفائه 8 آذار على الحكومة من خلال عدد كبير من الوزراء الموالين لإيران، وفي مقدمتهم وزير الخارجية جبران باسيل، ومساعيه لإلحاق لبنان بالكامل بالمشروع الإيراني، وأنشطته الخارجية على حساب الدولة اللبنانية، وسيطرته على قطاعات حيوية لبنانية مثل قطاع المواني وجزء من الاتصالات لخلق اقتصاد رديف، في دفع المواطنين اللبنانيين الفاتورة، إذ رفضت بعض الدول والمؤسسات العربية تقديم المساعدات (منح، قروض) لحكومة يهيمن عليها حزب يصنف في العديد من الدول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والأرجنتين والبارغواي جماعة إرهابية، كما هرب السياح والمستثمرون خوفًا من سياسات حزب الله، كل ذلك خلق وضعًا اقتصاديًّا ومعيشيًّا مأساويًّا، وشكَّل وقودًا للحراك الاحتجاجيّ في لبنان والعراق.

ثالثًا: سمات وانعكاسات الحراك الاحتجاجي في لبنان والعراق على النفوذ الإيراني
1- وعي المواطنين اللبنانيين والعراقيين بخطورة الأدلجة: يبدو أنّ هناك إدراكًا شعبيًّا لبنانيًّا عراقيًّا متناميًا لخطورة ما تقوم به الميليشيات الشيعية المسلحة لصالح إيران من «الطأفنة» على أوضاعهم المعيشية والاقتصادية، ولما تقوم به هذه الميليشيات من استنزاف مقدَّرات دولهم الاقتصادية والزجّ بأبنائهم في صراعات مذهبية لخدمة الأجندة الإيرانية، ويعكس ذلك مؤشرين، الأول: مشاركة المواطنين اللبنانيين والعراقيين من كل الأطياف والأعراق والمذاهب اللبنانية والعراقية. الثاني: اندلاع المظاهرات في كل المدن والمحافظات، خصوصًا المحافظات ذات الكثافة الشيعية في الجنوب العراقي واللبناني (لا مركزية الحراك، خصوصًا في لبنان)، ومِن ثَمّ هذا الوعي الشعبي يُفقِد إيران حالة الشقاق المذهبي الذي ميَّز الحراك الاحتجاجي في لبنان والعراق خلال العقود الماضية، والذي شكَّل وقودًا لإيران للتمدّد والتوسّع، وهو ما هدّد إيران وميليشياتها المسلحة التي سعت لإلصاق طابع العنف على الحراك الاحتجاجي في الحالتين تمهيدًا لقمعها، خصوصًا أنّ المحتجّين في لبنان والعراق رفعوا شعارات مناهضة لإيران ونفوذها وميليشياته المسلحة وأضرموا النيران في مقراتها والعلم الإيراني.
2- خلوّ الاحتجاجات من القيادات الحزبية التي يمكن شراؤها من إيران: تتَّسم الاحتجاجات الشعبية في لبنان والعراق بأنها «غير حزبية» لا يمكن استقطابها، وحتى الحزبيون المنخرطون فيها يتخلَّون عن هتافاتهم وشعاراتهم الحزبية قبل الوصول إلى ساحات الاحتجاج، فهي احتجاجات مجهولة القيادة الحزبية أو الدينية، أي من خارج الوسط السياسي والمذهبي المتنفذ في لبنان والعراق منذ سنوات من الذين يمكن شراء زممهم (نقطة قوة للاحتجاجات)، وهو ما يصعّب على إيران وأذرعها إمكانية كبحها بما يخدم الأجندة الإيرانية وبما لا يكشف عن إخفاقات حكم المكون الشيعي في لبنان والعراق.
3- الاحتجاجات من الأجيال الشبابية المعادية للمشاريع المذهبية: الطبقة الأكثر انخراطًا في الاحتجاجات اللبنانية والعراقية هي طبقة شبابية أقل من 20 عامًا، تنتمي إلى جيل ما بعد 2003 في العراق، وجيل ما بعد 8 و14 آذار في لبنان. هذا الجيل الحداثي من الشباب يقضون معظم أوقاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي، يقفون على مسافات بعيدة من عمليات التسييس والطأفنة والمذهبية، ويرفضون الزعامات والعمائم والقيادات الدينية بحكم اطلاعه على تجارب العالم وقيمه الحداثية والمعاصرة، ويركز أكثر على الأوضاع المعيشية اليومية والعدالة الاجتماعية والحريات العامة والخاصة، ومواجهة الفساد، وطي صفحة وجوه أفراد وعائلات سياسية وُلد ونشأ وترعرع في ظلّ وجودها رغم إخفاقها وانعدام كفاءتها وتعاظم فضائحها، من شؤون الصراعات السياسية والمذهبية، وهذا عنصر غاية في الأهمية ينبغي استثماره ضد المخططات الإيرانية في المنطقة العربية، فهذه الأجيال الجديدة ليست في صالح المشروع الإيراني.
4- خسارة إيران تأييد الطبقات الفقيرة العريضة المحتجة: طغت الطبقة الفقيرة -التي تشهد اتساعا- والمتوسطة الدخل على الحراك الاحتجاجي في العراق ولبنان، التي ترى أن النظام السياسي الذي تقاسم حصصًا طائفية ومذهبية بات يعمل لصالح كل طائفة ومذهب على حساب محدودي الدخل، وذلك بسعي المسؤولين المنتمين إلى طبقات ثرية جمعت أو ورثت ثرواتها عبر الفساد المالي أو الريع السياسي إلى فرض ضرائب جديدة، كما حدث في لبنان، تزيد الفقراء فقرًا لصالح طبقات سياسية حاكمة، هذه الطبقة ضاقت ذرعًا بسياسات الأنظمة الطائفية، وفي الحالتين لا يعود على الطبقات الفقيرة أي مردود اقتصاديّ ينعش أوضاعها الاقتصادية، بل يذهب لصالح أجندات مذهبية لخدمة مشاريع خارجية، ما يفقد إيران تأييد الطبقات العريضة المهمشة في لبنان والعراق.
5- الحلول الحكومية المؤقتة دافعًا لتجدد الاحتجاجات: يتسم التعاطي الحكومي في الحالتين اللبنانية والعراقية بإعلان قرارات إصلاحية بـ«المؤقت» لتقليص زخم الاحتجاجات التي باتت مهدِّدة لأركان النظامين، وهو تعاطٍ لا يختلف كثيرًا عن تعاطي الأنظمة العربية التي سقطت في بعض الدول العربية. الجديد في الحالتين اللبنانية والعراقية أن هذه القرارات الإصلاحية لم تعُد تنطلي على المحتجّين، لإدراكهم بأن هذه الأنظمة لا يشغلها سوى داعميها من الأطراف الخارجية وخدمة مشاريعهم لديمومتهم في الحكم على حساب المواطنين، ولذلك فإنّ ارتفاع وتيرة القمع ضد الحراك الاحتجاجي في العراق ولبنان وارد جدًّا للحفاظ على أركان النظامين، خصوصًا أن ثقافة القمع قائمة في عقليات رموز أركان الحكم في لبنان والعراق وداعميهم في إيران.
6- فقدان شرعية المشروع الإيراني العابر للطائفية: وهذا يرتبط بالعناصر السابقة، إذ إنّ خروج الطبقات الشبابية من الأجيال الجديدة والشرائح الفقيرة العريضة كشف عن غالبية وطنية عابرة للطائفية ضد النفوذ الإيراني المستشري في مفاصل الدولتين، أفقدت المشروع الإيراني شرعيته في الخارج في خلق دولة نموذج يمكن تعميمه على بقية الدول المستهدفة بالمشروع الإيراني، وعملت على انكشافه وتعريته أمام الداخل والخارج، وترفع من تكلفة معالجته، وإذا ما نظرنا إلى توالي الاحتجاجات الفئوية والشعبية في إيران -باستثناء الأشهر القليلة الماضية- ضد سياسات النظام الداخلية والخارجية التي تقف وراء تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في إيران، سنكون بذلك أمام فشل إيرانيّ ذريع في الداخل، ومِن ثَمّ فشل إيران في خلق الدولة «الأسوة» حسب الدستور الإيراني، بما يجعل من مساعي إيران لتحقيق المشروع الإيراني العابر للحدود وتدشين جمهورية إيران العالمية مجرَّد أوهام إيرانية غير قابلة للتنفيذ على أكثر من صعيد، لا سيّما ظهور أجيال جديدة لا تفهم ولا ترى ولا تسمع عن المشاريع المذهبية، فهذه إيران التي ملأت العالم ضجيجًا بنصرة المستضعفين زادت المستضعفين ضعفًا، مدركين ذلك بقيامهم ضدها.

رابعًا: مستقبل الاحتجاجات اللبنانية والعراقية ونفوذ إيران الإقليمي
خروج الاحتجاجات بشكل متكرر في العراق وبشكل أقلّ في لبنان مؤشر على رفض الشعبين اللبناني والعراقي للتخندق المذهبي والطائفي، وهو ما يُعَدّ تحديًا جديدًا أمام مشروع إيران الإقليمي، يأتي من داخل الدول المستهدفة بالمشروع الإيراني ذاتها وليس بصنع الدول المنافسة، ما يزيد من التكلفة الإيرانية إذا ما أرادت إيران المضيّ قُدمًا في مشروعها الإقليمي.
الاحتجاجات في العراق أفرزت إعلان الرئيس العراقي برهم صالح قبول رئيس الحكومة الاستقالة من منصبه يوم 31 أكتوبر 2019. وبعيدًا عما ستؤول إليه المعادلة العراقية في ظل عدم إعلان عبد المهدي استقالته رسميًّا من منصبه، وعدم حلّ البرلمان بأغلبيته الشيعية الموالية لإيران، ومدى تشكيل حكومة جديدة أشبه بحكومة عبد المهدي أو استمراريتها بتعديلات للاتفاق على الاحتجاجات، فإنّ المسكنات باتت لا تجدي نفعًا مع الشعب العراقي، وتنذر بتجدّد الاحتجاجات بشكل متكرر لعدم معالجة الأزمة من جذورها، ومِن ثَمّ تجدُّد الاحتجاجات أمر وارد تكراره في الحالة العراقية، سواء رحلت الحكومة أو لم ترحل، في ظل حسابات معقدة، بما أن إيران ما زالت تسعى لتمرير بقية المخططات لربط طهران بالبحر المتوسط.
أما في الحالة اللبنانية، فالمسألة قد اختلفت بعد استقالة الحريري من رئاسة الحكومة، إذ يبدو أن الحريري قد نجح في إقناع حزب الله وحلفائه من 8 آذار بالتعاون لإجراء إصلاحات لامتصاص غضب الشارع، بتنازل حزب الله عن رفضه استقالة الحكومة، وبخاصة مع استحالة تشكيل حكومة جديدة لا تشبه الحالية بالنظر إلى طبيعة التوازنات الحزبية وقواعد الحياة السياسية الحالية في لبنان، وصعوبة تمريرها ومباشرة مهامّها من دون موافقة وهيمنة لحزب الله، إذ إنّ تشكيل حكومة تكنوقراط أمر يصعب تحقيقه في الحالة اللبنانية، غير أن هذا السيناريو قد ينقل لبنان إلى واقع سياسيّ مغاير مفتوح على كل الاحتمالات.
يبقى أن المسألة الأبرز والأهمّ في الحالتين اللبنانية والعراقية هي أنّ الشعوب العربية ذاتها قد ضاقت ذرعًا بالحكم المذهبي المؤدلج الذي يعمل لصالح إيران وأتباعها، وعقدت النية على فضح التيارات والأحزاب والميليشيات المذهبية واحدة تلو الأخرى، فبالأمس فضح الشعب العراقي الأحزاب الطائفية الموالية لإيران في العراق، والمشهد يتكرر في لبنان بفضح الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) ودوره في تردّي الأوضاع الاقتصادية والانقسامات السياسية، وهذه المسألة تُعَدّ فرصة تاريخية مواتية وورقة حقيقية رابحة جدًّا ينبغي استثمارها ضد المشروع الإيراني في الدول العربية، من ناحيتين:
الأولى: استثمارها عربيًّا، في الترويج لمخاطر الأذى الإيراني على الأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية في الدول العربية وعلى مستقبل أمن واستقرار هذه الدول، لنجاح معركة استعادة العراق ولبنان وغيرهما من الدول العربية لمحيطها العربي، وما يمكن أن تؤول إليه مصائر الدول والشعوب التي تصاب بالأذى الإيراني، أو التي تقبل بنشر تشيع أو تسييسه أو تسليحه في أي وحدة دولية، حتمًا ستتحول من دول مستقرة سياسًًّا قوية اقتصاديا إلى دول مهترئة مقسمة طائفيًّا، فالعراق الذي يمتلك رابع احتياطيّ نفطيّ في العالم بات يعاني بعد عقد ونصف العقد من الحكم الشيعي الموالي لإيران أزمات اقتصادية بفعل التدخّل الإيراني.
الثانية: استثمارها أمريكيًّا، بأن تعيد الإدارة الأمريكية النظر في استراتيجية الضغوط القصوى لتعديل سلوك النظام الإيراني وفق المستجدّات والتطوّرات الجديدة التي تشهدها الدول العربية ذات التوغل الإيراني الكثيف إذا ما أرادت تحجيمًا فعليًا للنفوذ الإيراني الإقليمي، عبر استغلال حالات الغليان والسخط الشعبي العربي من المشروع الإيراني المذهبي، واستخدامها كأوراق ضغط قوية ضد النظام الإيراني، بما يجبره على تغيير أدواته وتعديل استراتيجياته على نحو يحجِّم من نفوذ إيران الإقليمي.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير