المحادثات النووية الأوروبية-الإيرانية.. «آلية الزناد» وتداعياتها الإقليمية

https://rasanah-iiis.org/?p=37929

بواسطةكلمون تيرم

عقدت إيران والدول الأوروبية الثلاث (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) في 25 يوليو 2025م محادثاتٍ نوويةٍ على مستوى نواب وزراء الخارجية في إسطنبول، وهو الاجتماع المباشر الأول منذ اندلاع الصراع في يونيو بين إسرائيل وإيران. أدى الصراع الذي شمل ضرباتٍ أمريكيةٍ على مواقع نووية إيرانية، ورد طهران بطرد مُفتشي «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، إلى تصعيدٍ حادٍ للتوترات في المنطقة، وإلى إعادة الملف النووي إلى واجهة الدبلوماسية الدولية من جديد. 

 وصف نائب وزير الخارجية الإيراني كاظم غريب أبادي، اجتماع إسطنبول بأنَّه «جادٌّ وصريحٌ ومُفصَّل». وقال: إنَّه «انتهى باتفاقٍ على استئناف المفاوضات النووية خلال الأسابيع المقبلة». فيما، أبدى الطرفان الأمريكي والإيراني استعدادهما لإبقاء قنوات التواصل الدبلوماسي مفتوحًة، رغم الخلافات العميقة. فطهران لا تزال تُطالب بحقها في تخصيب اليورانيوم، وتدعو إلى اتخاذ خطواتٍ لبناء الثقة، لا سيما من واشنطن، تشمل رفع العقوبات وتغيير تموضعها العسكري. بينما، تُصرُّ الدول الأوروبية الثلاث على ضرورة استئناف الرقابة النووية لـ «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» بشكلٍ عاجل، وتجميد التخصيب بمستوياتٍ تتجاوز المسموح بها بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة» (JCPOA )، كشرطٍ أساسيٍّ لتجنب إعادة فرض العقوبات على إيران. ويؤثِّر عامل الوقت بشكلٍ كبيرٍ على مسار التفاوض، إذ حذَّرت الدول الأوروبية من أنَّه ما لم يتحقق تقدمٌ ملموسٌ بحلول مطلع سبتمبر، فإنَّها مستعدة لتفعيل (آلية الزناد) «السناب باك» بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2231، مما سيؤدي إلى إعادة فرض العقوبات الدولية التي سبقت توقيع خطة « JCPOA» بحلول أكتوبر 2025م. 

ويتوافق هذا الموعد النهائي مع اقتراب انتهاء الصلاحية القانونية لإعادة فرض العقوبات على إيران في 18 أكتوبر 2025م، بموجب بنود الغرب المنصوص عليها في «خطة العمل» والممتدة لفترة 10 سنوات. ورغم أن الولايات المتحدة لا تستطيع تفعيل آلية «السناب باك» بعد انسحابها من الاتفاق النووي مع إيران في عام 2018م، إلا أنَّها أعربت عن تأييدها للموقف الأوروبي وكثَّفت ضغوطها الدبلوماسية والعسكرية على طهران. 

التداعيات المحتملة جسيمة، فالفشل في التوصل إلى تفاهمٍ قد يؤدي إلى تسارُع زعزعة الاستقرار الإقليمي بعد المواجهة بين إسرائيل وإيران، مما يُغذي الصراعات بالوكالة في لبنان واليمن وسوريا والعراق. ومن الناحية الاستراتيجية، فإنَّ انهيار الرقابة النووية السابقة المحدودة بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة» سيزيد من غموض أنشطة إيران النووية، وُيثير مخاوف عالمية من انتشار الأسلحة النووية. 

ومن الناحية الاقتصادية، فإنَّ إعادة فرض العقوبات على إيران سيُقيِّد صادراتها النفطية بشكلٍ كبيرٍ، في وقتٍ تشهد فيه أسواق الطاقة العالمية تقلباتٍ شديدةٍ، وقد يؤدي ذلك إلى مزيدٍ من عدم الاستقرار في الأسعار. وفي نهاية المطاف، فإنَّ تأثير آلية «السناب باك» الحقيقي سيعتمد كثيرًا على مواقف الصين وروسيا، فرغم أنَّ بكين وموسكو لا تستطيعان إيقاف تفعيل الآلية رسميًا، إلَّا أنَّهما قادرتان على تجاهُل العقوبات في علاقاتهما الثنائية مع إيران في مجالي التجارة والطاقة. وبالتالي فإنَّ مدى التزامهما بالعقوبات سيكون عنصرًا حاسمًا في عزل إيران أو جعل تأثير العقوبات يقتصر على توجيه صادراتها إلى الأسواق غير الغربية، ويقلِّص من الضرر الاقتصادي المنشود. 

 ويشكِّل الاتفاق على عقد جولةِ مفاوضاتٍ جديدةٍ نافذًة ضيقًة للدبلوماسية، لكنها قد تنغلق بسرعة، فالتحدي بالنسبة للدول الأوروبية الثلاث يكمن في استخدام التهديد الجاد بإعادة فرض العقوبات لدفع إيران إلى تقديم التنازلات دون أن يتسبب ذلك في وقف المحادثات معها. أما إيران، فالتحدي من زاويتها يكمُن في الاختيار بين الاستمرار في التصعيد النووي وما ينطوي عليه من عزلةٍ اقتصاديةٍ، وبين الدخول في مسارٍ تفاوضيٍّ قد يؤدي إلى خفض التصعيد وتخفيفٍ جزئيٍّ للعقوبات. وأمام المسار الدبلوماسي الحالي، يظهر سيناريوهان رئيسان. الأول: تسوية تفاوضية توافق فيها إيران على عودة مفتشي «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، بما يسمح بالتحقق من أنشطتها النووية، مقابل تأجيل أو تعليق تفعيل آلية «سناب باك». والثاني: هو تفعيل الدول الأوروبية لآلية «سناب باك»، بما ينطوي عليه هذا القرار من تداعياتٍ جيوسياسيةٍ جسيمة. فهذا المسار لن يؤدي إلى تعميق عُزلة إيران الاقتصادية فحسب، بل إلى استثارة ردود فعلٍ من أطراف خارجية مثل روسيا والصين اللتين لا يزال مستوى التزامهما بالعقوبات على إيران غير واضح، وكذلك رد فعلٍ من إسرائيل التي قد تُصعِّد إجراءاتها الأمنية ردًا على مسار إيران النووي.    

وقد أعربت إيران -رغم رفضها قانونيَّة آلية «السناب باك»- عن استعدادها للبحث عن «حلولٍ مُشتركة» وللتعاون التقني مع «الوكالة الدولية للطاقة الذرية». وقد يُنظر إلى السماح بعودة مفتشي الوكالة إلى المواقع النووية في «أصفهان وفوردو ونطنز» كامتثالٍ جُزئي من جانب إيران، وقد يُقنع الدول الأوروبية الثلاث بتأجيل العقوبات. ومن شأن ذلك أن يحول دون الانهيار الكامل لنظام الرقابة، وأن يفتح بابًا أوسع للمحادثات بين الولايات المتحدة وإيران حول بعض القضايا، مثل برنامج إيران للصواريخ الباليستية والتوترات الإقليمية، ويُقلل احتمال حدوث مزيدٍ من التصعيد بعد حرب الأيام الـ 12 الأخيرة بين إسرائيل وإيران. 

لكن أي تسويةٍ تحمل معها بعض المخاطر، إذ قد يكون التعاون النووي الإيراني محدودًا أو مؤقتًا، في حال استخدمت إدخال المفتشين كورقةِ مساومةٍ لا كدليلٍ على التزامٍ بالشفافية. وقد تُوجَّه اتهاماتٌ داخليةٌ للحكومات الأوروبية في هذا السياق بمهادنة إيران، فيما قد تُفسِّر إسرائيل والولايات المتحدة أي تأجيلٍ من جانب أوروبا في فرض العقوبات على أنَّه ضعف، مما قد يدفعهما إلى اتخاذ خطواتٍ أحادية. 

وفي حال فشلت المفاوضات النووية، فمن المتوقع أن تمضي الدول الأوروبية قُدمًا وتفعل «السناب باك» بحلول أكتوبر، بما يُعيد فرض كافة العقوبات على إيران، بما فيها حظر الأسلحة والقيود على التقنية الصاروخية. وحينها سيواجه الاقتصاد الإيراني الهشَّ، الذي لا يزال تحت وطأة العقوبات الأمريكية، والتكاليف الباهظة التي فرضتها حرب الأيام الـ 12، مزيدًا من العُزلة. كما ستتعرض صادرات إيران النفطية، التي تعافت جُزئيًا بفضل السوق الرمادية عبر الصين، لضغوطٍ جديدة. وفي الداخل الإيراني، قد يستغل التيار «المتشدد» عودة العقوبات في توطيد سلطته، وتصوير أوروبا على أنَّها مؤيدة للعداء الأمريكي والإسرائيلي، مما يزيد من احتمالات التصعيد النووي. 

 ويعترض تطبيق «السناب باك» بعض العقبات، مثل الموقف الروسي والصيني منها، لا سيما أنَّ الدولتين لطالما انتقدتا العقوبات الغربية ووصفتاها بـ «السياسية وغير القانونية». ومن غير المُرجح أن تلتزم موسكو وبكين بالعقوبات التزامًا كاملًا، بالرغم من أنَّ الآلية ستُعيد كل العقوبات الأممية رسميًا. بل قد تؤدي الآلية إلى توثيق التعاون الاقتصادي والتقني بين طهران وموسكو وبكين، بعد أن تنظر الأخيرتان إلى طهران على أنَّها شريكٌ تكتيكيٌّ في مواجهة النفوذ الغربي. ويجدر بالذكر هنا، أنَّ إيران طَوَّرت وسائل للتكيف مع العقوبات، مثل الأنظمة المالية البديلة والتجارة بالمقايضة والعملات الرقمية. 

وقد تؤثِّر مسألة إعادة فرض العقوبات على إيران على وجهة النظر الإستراتيجية الإسرائيلية. فتاريخيًا، لطالما استغلت إسرائيل التحولات الدبلوماسية كذريعةٍ لعمليات عسكرية، بحجة أنَّ العقوبات والدبلوماسية لا تكفي وحدها لمنع إيران من امتلاك سلاحٍ نووي. ونظرًا لاحتمال أن تُسرِّع إيران وتيرة برنامجها النووي ردًا على العقوبات، فقد تنظر تل أبيب في خياراتٍ عسكريةٍ تتراوح بين ضرباتٍ استباقيةٍ تستهدف المواقع النووية الإيرانية، وبين عملياتٍ سريةٍ تشمل الهجمات السيبرانية والتخريب والاغتيالات بهدف إبطاء خطوات إيران النووية. وقد يُشجع هذا المسار ما حققته إسرائيل من نجاحاتٍ خلال الحرب الأخيرة مع إيران، وبالتالي يُقدِم صناع القرار «المتشددين» في تل أبيب على اتخاذ قراراتٍ عسكريةٍ، باعتبارها مكملًا ضروريًا للجهود الدبلوماسية الغربية. لكن هذه الخطوات سيكون ثمنها تصعيدًا خطيرًا، فقد يؤدي هجوم إسرائيل على إيران إلى ردٍّ إيراني عبر وكلائها في المنطقة، مما يُشعل حربًا واسعة. كما أنَّه في حال نظرت إيران إلى تفعيل العقوبات على أنَّه مصحوبٌ بتهديداتٍ عسكرية، فقد تتخلى عن كافة التزاماتها المتعلقة بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» بما فيها رقابة «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، بما قد يصعِّد التوترات النووية.   ولمعالجة هذه التحديات، على الدول الأوروبية الثلاث إعطاء الأولوية لاستعادة رقابة «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» كخطوةٍ باتجاه بناء الثقة، بما يُسهم في تفادي تفعيل آلية العقوبات ما لم ترفض إيران الرقابة تمامًا على منشآتها. كما أنَّ التواصل الاستباقي مع روسيا والصين ضروريٌّ لتفادي تفكك آلية العقوبات بالكامل، إذ يجب أن تسعى الدبلوماسية الغربية إلى اتفاقاتٍ محدودةٍ مع موسكو وبكين، لا سيما فيما يتعلَّق بالانتشار الصاروخي، والتأكيد على أنَّ العقوبات وسيلًة دبلوماسيًة وليست مقدمة للحرب. وتشكِّل محادثات 25 يوليو نقطًة حاسمًة في مسار العلاقات بين إيران والدول الأوروبية الثلاث، إذ إنَّ النافذة ضيقة أمام تفادي تفعيل «آلية الزناد» مقابل تقديم إيران تنازلاتٍ محدودةٍ وإعادتها رقابة «الوكالة الدولية للطاقة الذرية». وإذا ما أُغلقت تلك النافذة، ستُفرض العقوبات من جديد في أكتوبر، بالرغم من عدم وضوح مدى الالتزام بها، ووجود مخاطر متزايدة للتصعيد العسكري.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

كلمون تيرم
كلمون تيرم
زميل غير مقيم في «رصانة» وباحثٌ مشارك في كلية الدراسات المتقدّمة في العلوم الاجتماعية في باريس