يشهد الوضع الأمني الداخلي في سوريا تحديًا في الأسابيع الأخيرة، مع ورود تقارير عن هجمات طائفية في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، ذات الأغلبية العلوية. وتُشير التقارير إلى اندلاع أعمال عُنف بعد استهداف فلول مُسلحة من نظام «الأسد» لمعاقل حكومية، مما دفع قوات الدولة والميليشيات المُتحالفة معها، إلى شن عملية عسكرية لقمع «الانتفاضة». غير أن هذه العملية أسفرت عن تصاعُد العنف الطائفي وسقوط مئات القتلى والجرحى من المدنيين. وأعلنت الحكومة المؤقتة بقيادة أحمد الشرع، أن بعض الجماعات المسلحة قد تدخلت دون إذن من وزارة الدفاع. وردًا على ذلك، شُكِلَّت لجنة لتقصي الحقائق لاعتقال المسؤولين عن عمليات القتل ومحاكمتهم، والتقى «الشرع» بهذه اللجنة لمناقشة الأحداث الأخيرة على الساحل السوري. وتُشير التقارير إلى اعتقال بعض الأشخاص بالفعل.
ويُسلّط العنف المستمر الضوء على الوضع الأمني الداخلي المتقلب، وعلى المصالح الراسخة للأطراف الخارجية، مما يضع الحكومة المؤقتة في موقف صعب وهي تسعى لتوفيق علاقاتها الإقليمية ومخاوفها الأمنية وجهودها لتهدئة التوترات.
وقد أعلنت الحكومة المؤقتة عن منح عفو عام عن جنود نظام «الأسد» السابقين، مما سمح لهم بالعودة إلى صفوف الجيش الرسمي ما لم يكونوا متورطين في جرائم، إلا أن كبار شخصيات «نظام الأسد» شكلَّت -خوفًا من الملاحقة القضائية-جماعات مُتمردة مرتبطة بإيران و«حزب الله». ووفقًا للتقارير، شنَّت هذه الفصائل، بما فيها المقاومة الشعبية السورية، هجمات مُنسقة ضد قوات الأمن السورية، مما أدى إلى تصاعُد العنف في البلاد، وعملت حملات التضليل على تغذية العنف في البلاد، مما عَقّد الوضع الأمني، وقد شَنَّت الحكومة حملة قمع على هذه الفصائل على مدى الأسابيع القليلة الماضية، وبلغت ذروتها بالأزمة الأخيرة.
يأتي تصاعد العنف في ظل الاتفاق التاريخي بين «قوات سوريا الديمقراطية» بقيادة الأكراد والحكومة المؤقتة في سوريا، وكانت «قوات سوريا الديمقراطية» قد وقّعت اتفاقًا يَقضي بدمج مؤسساتها العسكرية والمدنية في الدولة السورية، الأمر الذي يُمثل خطوًة هامًة نحو الوحدة الوطنية، ويشمل الاتفاق تسليم المراكز الحدودية وحقول النفط مع الاعتراف بالحقوق الكردية. ومن المتوقع أن يُخفّف الاتفاق من حِدَّة التوترات مع تركيا والفصائل المدعومة منها. وقد دعا عبد الله أوجلان، زعيم «حزب العمال الكردستاني» المسجون، إلى نزع السلاح الشهر الماضي، مما دفع الحزب لإعلان وقف «إطلاق النار». ومع ذلك، استمرت العمليات العسكرية التركية ضد عناصر الحزب، بل وازداد الضغط على الأكراد في سوريا منذ عودة ترامب إلى منصبه، الذي لطالما شدد على ضرورة سحب القوات الأمريكية من المنطقة، الأمر الذي من شأنه أن يُضعف بشكل كبير الدعم الأمني لـ «قوات سوريا الديمقراطية». إضافًة إلى ذلك، يُرجَّح أن يكون للتفاؤل الإقليمي المتنامِ والدعم الدولي للحكومة المؤقتة دور في قرار «قوات سوريا الديمقراطية» للدخول في اتفاق مع دمشق، وبينما قد تُعيد هذه التطورات تشكيل ميزان القوى الإقليمي وتُعزز نفوذ تركيا، إلا أن التداعيات الأوسع ما زالت غير مؤكدة، لطالما استغلت إيران الجماعات الكردية لتحقيق أهدافها في استراتيجيتها الإقليمية.
تجدر الإشارة هنا؛ أن كل من إيران وتركيا قد استدعتا مؤخرًا مبعوثي كل منهما بعد أن انتقد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، تدخل إيران في سوريا باستخدام الميليشيات المسلحة، وقال فيدان، في إشارة إلى اعتماد إيران على الميليشيات بالوكالة: «إذا كنت تسعى إلى إثارة بلد ما من خلال دعم مجموعة معينة هناك، فقد تواجه موقفًا حيث يمكن للبلد المذكور أن يُزعجك من خلال دعم مجموعة أخرى في بلدك». وكانت المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية فاطمة مهاجراني قد أقرت بالخلافات بين تركيا وإيران، ووصفت تصريحات فيدان بأنها «غير بناءة». ومازال تُشكل سوريا عنصرًا حيويًا بالنسبة لإيران في دعم وكلائها الإقليميين وللحفاظ على موطئ قدم لها في لبنان. وتُشير ردود طهران إلى جُهد متضافر للعودة إلى الواجهة وسط تفاقم التوترات واستغلال حالة عدم الاستقرار الحالية، وتهدف إيران من خلال تأجيج الاضطرابات تحدي شرعية الحكومة المؤقتة وضمان نفوذها في سوريا. كما أنها تقف في موقف دفاعي بسبب انتكاسات وكلائها الإقليميين. ومن شأن خسارتها لسوريا أن يُضعف موقعها الاستراتيجي أكثر. وتأتي هذه التطورات في وقت تواجه فيه طهران ضغوطًا أمريكية وتحالفات إقليمية متغيرة. كما تواجه إيران تراجُعًا في نفوذها وعُزلة أكبر إذا لم تُغير نهجها الإقليمي.
وفي غضون ذلك، تستغل إسرائيل عدم استقرار سوريا لتعزيز مصالحها الأمنية، بتوسيع المنطقة العازلة وترسيخ سيطرتها على مناطق استراتيجية. ومن جانبه صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس، بأن «جيش الدفاع الإسرائيلي سيبقى في سوريا لأجل غير مسمى للحفاظ على منطقة عازلة منزوعة السلاح وحماية الحدود الإسرائيلية»، وأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على ضرورة «نزع السلاح الكامل من جنوب سوريا»، وتدَّعي إسرائيل أنها تدافع عن الأقلية الدرزية، لكنها تستخدم ذلك كذريعة لأجندتها الإقليمية بهدف الحِفاظ على التفوق العسكري واحتلال مناطق استراتيجية، مثل مُرتفعات الجولان، مما يُعقد جهود توحيد سوريا واستقرارها.
وتعهد «الشرع» بتشكيل حكومة وحدة وطنية في ظل تصاعد العنف، مُعتمدًا على التوافق والتعاون الإقليمي. وأعربت دول المنطقة والعديد من الدول الأوروبية عن دعمها له، وحثَّت الحكومة المؤقتة على التحقيق في أعمال العنف. ويسعى «الشرع» جاهدًا للحصول على اعتراف دولي، مما يفسر حواره مع دول الخليج والاتحاد الأوروبي. وتعكس جهوده اتِجاهًا عمليًا لتعزيز السلطة وموازنة المصالح الإقليمية، وتمهيد الطريق لإعادة اندماج سوريا مرًة أُخرى في النظام السياسي والاقتصادي الإقليمي والعالمي.