منذ العام 1999م، تشهد إيران موجات احتجاجية متتالية، وصولًا إلى الحراك الاحتجاجي الراهن، الذي اندلع في أعقاب مقتل الشابة الكردية مهسا أميني التي تحوَّلت إلى أيقونة ثورية مُلهِمة لقطاعات وفئات مختلفة من الإيرانيين، على أيدي شرطة الأخلاق بالعاصمة طهران في 16 سبتمبر الماضي.
وفي ظل تضارُب الأنباء الواردة من إيران حول مدى تزايد حجم الاحتجاجات أو تراجعها، فإنه يصعب التكهن بمسارات الحركة الاحتجاجية، نظرًا إلى التعتيم الإعلامي الذي تمارسه السلطات الإيرانية. لكن كل ذلك لا يمكنه تغطية عمق الأزمة، وحالة الانسداد التي يواجهها النظام الإيراني، وصعوبة إيجاد حلول جذرية لها، في ظل محدودية الموارد المالية من جهة، ومن جهة ثانية لجوء القيادة الإيرانية إلى الحلول الأمنية التي ألِفها النظام الثوري منذ سنين في تعامله مع مطالب الشعب.
الحراك الاحتجاجي الحالي كان صنيعة تشدُّد النظام الإيراني تجاه مسألة الحجاب، التي أحاطتها حكومة إبراهيم رئيسي بمؤسساتها الأمنية، خصوصًا شرطة الأخلاق ودوريات الإرشاد؛ فأفرزت عددا من احتجاجات «الحجاب والمرأة»، كما وُصِفَت في وسائل الإعلام. الحراك الاحتجاجي الحالي الذي يُعَد امتدادًا للاحتجاجات الفئوية «النسوية» تلك، لا يختلف عن الاحتجاجات السابقة من حيث أسبابها غير المباشرة، التي تتمثَّل في الإخفاقات السياسية والاقتصادية للنظام السياسي، إضافة إلى ممارساته القمعية، كما تشترك معها في اتّساعها الجغرافي، وتجاوزها الهويات (المذهبية والعرقية)، وأيضًا في اتجاهها التصاعدي، وغياب القيادة.
وجاء الحراك الاحتجاجي الراهن متجدِّدًا بسِمات مختلفة عن الاحتجاجات السابقة، رغم الالتقاء في عدد من الجوانب أيضًا. ومثلما تلتقي سِمات الحراك الحالي مع سابقاتها في دوافع مواجهة النظام، والطابع الوطني العابر للاختلافات، والطابع التصاعدي وغياب عنصر القيادة، وأولوية المعالجة الأمنية وعدم وجود معالجات لجوهر الأزمات، والتوقيت الحرِج، وحدوثه في ظل هيمنة «المتشدِّدين»، إلى جانب المشاركة النسائية الواسعة والتدخلات الخارجية المؤثرة، إلا أن هناك نقاط اختلاف ظهرت من خلال تداعيات الحراك الحالي، كان أبرزها: تغذية الخيارات المتطرفة للسلطة، وتزايد النزعة الاحتجاجية وكسر حاجز الخوف، وتصدُّع المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتعزيز الوحدة بين المعارضين للنظام في المجتمع بمختلف هوياتهم العرقية، وتعزيز مكانة «الإصلاحيين» بعد سياسة الإقصاء التي مورست بحقهم.
وهناك مجموعة أخرى من الفروقات بين أبرز ملامح الاحتجاجات السابقة، وملمح الحراك الاحتجاجي الحالي. فمثلًا، استمرت احتجاجات عام 1999م لمدة 7 أيام، واحتجاجات 2009م دامت 3 أيام فقط، واحتجاجات 2017م 11 يومًا، واحتجاجات 2019م 6 أيام، واحتجاجات 2021م 11 يومًا، أما الاحتجاجات الراهنة تكاد تكمل شهرًا (26 يومًا، حتى مساء الثلاثاء 11 أكتوبر 2022م). وطالت احتجاجات 1999م نحو 5 مدن إيرانية، وفي 2009م 4 مدن، وفي 2017م زادت الرقعة لـ 64 مدينة، وتراجعت إلى 31 مدينة في 2019م، ثم نمت قليلًا إلى 36 مدينة في 2021م، قبل أن تتجاوز 83 مدينة في 2022م، بحسب المصادر الإيرانية.
وكانت الطبقات المشاركة في احتجاجات 1999م، هي الفئة الطلابية، وانضمت إليها طبقات أخرى. وفي 2009م، كان الطبقات نخبوية، شاركت فيها الطبقة المتوسطة والرموز والنُّخبة السياسية والمثقفون والنُشطاء. وفي 2017م، كانت الطبقات شعبية؛ لم تتدخل النُّخب، بل شاركت فيها الطبقة الفقيرة الأكثر احتياجًا، ثم انضمت إليها طبقات أخرى بشكل محدود. وفي 2019م، كانت الطبقات شعبية؛ لم تتدخل النُّخب، بل شاركت فيها الطبقات الفقيرة والشباب والطلبة والمرأة، وانضم إليها شرائح من الطبقة الوسطى والدنيا. وفي 2021م، تعدَّدت الفئات المشاركة، ما بين المواطنين الساخطين من سياسات النظام بشكل خاص في الأحواز، وبشكل عام في عموم المحافظات، مع مشاركة النشطاء السياسيين. أما في الاحتجاجات الراهنة (2022م)، هناك تناغم بين الشارع والنخب، إذ تعدّدت الفئات المشاركة ما بين شعبية من طلاب الجامعات والشاب والفنانين والرياضيين والمثقفين الساخطين على سياسات النظام، وفئات سياسية من النشطاء والنُّخبة السياسية.
وجاءت دوافع احتجاجات 1999م، بسبب صدور قانون الصحافة الذي يحِدّ من حرية الصحافة، إلى جانب إغلاق صحيفة «سلام». وفي 2009م، كانت الدوافع تزوير الانتخابات الرئاسية، وتبنِّي سياسة الإقصاء والتهميش، واعتقال وتعذيب المعارضين. وفي 2017م، جاءت الدوافع لأسباب اقتصادية ومعيشية؛ نتيجة الغلاء وارتفاع الأسعار، وتدنِّي مستوى معيشة الطبقة الفقيرة الأكثر احتياجًا. وفي 2019م، تسبَّب رفع أسعار الوقود في دولة يُفترَض أنها تمتلك رابع أكبر احتياطي نفطي في العالم، في احتجاجات عارمة أدخل النظام في مأزقٍ كبير. وفي 2021م، كانت الدوافع بسبب شح المياه ومشاريع نقل مياه نهر كارون وفي إقليم خوزستان، وسرعان ما انضم إليها عديد من المحتجين بمناطق أخرى؛ احتجاجًا على الأوضاع المعيشية وسياسة القمع. وفي الحراك الراهن (2022م)، كانت جذوة الاشتعال هي مقتل مهسا أميني على أيدي شرطة الأخلاق، فضلًا عن قمع المحتجين البلوش بصورة وحشية تحت ذرائع واهية، مع وجود بيئة مهيئة لاندلاع الاحتجاجات جرّاء حالات الاحتقان والسخط الشعبي الواسع من النظام وسياساته.