المشهد العراقي بعد الانتخابات: مسار ثالث بين ضغوط واشنطن وظلال النفوذ الإيراني

https://rasanah-iiis.org/?p=38380

جرت الانتخابات البرلمانية العراقية لعام 2025م في أجواءٍ إقليمية وداخلية شديدة الاضطراب، لكنها فتحت في الوقت ذاته احتمالًا غير متوقع لبلورة مسار ثالث يتأرجح بين الجذب الأمريكي والهيمنة الإيرانية. تُشير النتائج الأولية إلى أن ائتلاف محمد شياع السوداني حصد ما يصل إلى 46 مقعدًا، محتلاً المركز الأول في بغداد وعدد من المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، بالإضافة إلى تحقيقه نتائج قوية في المناطق السنيّة. يمثّل هذا الأداء مستوى غير مسبوق من توحيد الدعم عبر الطوائف. ومع ذلك، تبقى استدامة هذا المسار تبقى رهينة ولاء المرشحين المدرجين على قائمته، فكثير منهم عرضة للاستقطاب من كتل منافسة في مناخٍ سياسي شديد التقلب.

جاءت الانتخابات على وقع تحوّلات إقليمية كبرى؛ فقد أدّت تداعيات هجوم «حماس» في الــــ 07 أكتوبر 2023م والحرب الذي تلته على قطاع غزة، إلى جانب تراجع نفوذ «محور المقاومة» الإيراني وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا عام 2024م، إلى إعادة رسم المشهد الاستراتيجي المحيط بالعراق. هذا المشهد المتغيّر عزّز من أهمية قدرة بغداد على تحقيق توازن دقيق بين واشنطن وطهران، مما جعل انتخابات نوفمبر 2025م اختبارًا ليس فقط للحكم المحلي، بل لاتجاه العراق الجيوسياسي برمّته.

منذ تولّيه رئاسة الحكومة عام 2022م، اتبع السوداني استراتيجية حذرة وذكية، تمثلت في الحفاظ على إجماع قوى «الإطار التنسيقي» المقرّبة من إيران التي جاءت به إلى السلطة، مع العمل تدريجيًا على توسيع هامش استقلاله عن طهران وإظهار نفسه بصفته رجل دولة وطنيًا. يتّضح هذا النهج من إصراره على إبقاء العراق خارج دائرة تدويل الصراع في غزة؛ فعندما فكرت الميليشيات الموالية لإيران في اتخاذ خطوات تصعيدية تضامنًا مع «حماس»، دعا السوداني إلى ضبط النفس. وقد أدركت تلك الفصائل، خاصة بعد اغتيال زعيم «حزب الله» عام 2024م، أن أي استفزاز قد يستجر ردًا إسرائيليًا ساحقًا يهدد وجودها. وقد أسهمت قدرة السوداني على منع انزلاق العراق نحو حرب بالوكالة في تعزيز رصيده لدى ناخبين أنهكهم عدم الاستقرار.

شهدت نسبة المشاركة ارتفاعًا لافتًا مقارنةً بالتدني الكبير في انتخابات 2021م، حيث بلغت نسبة المشاركة لهذا العام 56%. هذا الارتفاع يعكس عودة اهتمام الشارع العراقي بالسياسة، خصوصًا لدى الشباب العراقيين الذين ما زالوا محبطين من نظام ما بعد 2003م، لكنهم أدركوا أن مقاطعتهم الانتخابات لم تحقق مكاسب تُذكر. وتزداد أهمية هذه النسبة بالنظر إلى المخاوف التي عبّر عنها سياسيون عراقيون قبل الاقتراع بشأن احتمالات تكرار ضعف الإقبال، إذ بلغت نسبة المشاركة في انتخابات 2021م نحو 43%.

تاريخيًا، تميل نسب المشاركة المرتفعة إلى تعزيز موقع الكتل الكبرى (مثل ائتلاف السوداني للإعمار والتنمية) في حين تستفيد الأحزاب الصغيرة من انخفاض الإقبال. ويشير فوز ائتلاف السوداني بأعلى الأصوات في ثماني محافظات، بينها بغداد، إلى مستوى كبير من التأييد الشعبي. لكن يجب التنويه بأن الفوز بالأغلبية النسبية لا يعني بالضرورة السيطرة البرلمانية، نظرًا لطبيعة النظام النسبي القائم على توزيع المقاعد وفقًا لحصص الأصوات لا وفق قاعدة الأغلبية.

على مدى العملية الانتخابية، مارست الولايات المتحدة ضغوطًا دبلوماسية واقتصادية ملحوظة لتوجيه مسار الانتخابات وما بعدها. فمنذ تخفيض وجودها العسكري بعد 2020م، اعتمدت واشنطن بشكل متزايد على النفوذ السياسي والدعم المالي المشروط للتأثير في توجهات بغداد. ومنذ 2023م، ربطت واشنطن جزءًا كبيرًا من مساعداتها الاقتصادية والأمنية للعراق بمعايير تتعلق بالشفافية المالية، ومكافحة الفساد، وإصلاح قطاع الأمن، بما يشمل دور قوات الحشد الشعبي الموالية لإيران. كما تضمنت التشريعات الأمريكية الجديدة، وبينها مشروع قانون «تحرير العراق من النفوذ الإيراني» اشتراطات تجعل استمرار المساعدات العسكرية مرتبطًا بخطوات عراقية واضحة للحد من نفوذ الميليشيات وتعزيز السيطرة المدنية على المؤسسات الأمنية. ودفع المسؤولون الأمريكيون باتجاه إشراك أكبر للقوى السنيّة والكردية، انطلاقًا من القلق بشأن احتمالات عودة داعش، وتوغّل تركيا شمالًا، وتجدد التوترات العربية–الكردية.

يسعى فريق ترامب ترسيخ الهيمنة الأمريكية في المشهد العراقي، عبر تضييق الخناق على النفوذ الإيراني. وقد أعلن ترامب صراحة دعمه لولاية ثانية للسوداني، لكن هذا الدعم مشروط بـ «خطوط حمراء» صارمة، أبرزها الاستبعاد الجذري للسياسيين المرتبطين بكتائب «حزب الله» (أحد أقوى فصائل الحشد وأكثرها تشددًا) من التشكيلة الحكومية المقبلة. ويعكس تعيين ترامب لمارك سافايا مبعوثًا خاصًا، لأول مرة منذ عقدين، إصرارًا أمريكًا على التأثير والتوجيه في عملية تشكيل الحكومة، والضغط على بغداد لكبح أو تفكيك كتائب «حزب الله» والفصائل المشابهة التي تتحدّى سلطة الدولة، مما يجعل مرحلة تشكيل الحكومة المقبلة مسرحًا لصراع الإرادات بين واشنطن وطهران.

وقد أثارت هذه السياسات، رغم تقاطعها مع تطلعات شرائح من العراقيين، استياء داخل مكونات الإطار التنسيقي. فقد اتهمت الفصائل الموالية لإيران واشنطن بالتدخل لإضعاف «المقاومة»، ووصفت الضغط الأمريكي بأنه «استعمار جديد». وقد حاول السوداني التعامل مع هذه الضغوط بسياسة مزدوجة: التأكيد علنًا على سيادة العراق ورفض التدخل الخارجي، مع طمأنة المسؤولين الأمريكيين سرًا باستعدادهِ للحفاظ على علاقة متوازنة. أما إيران، فما تزال راسخة في البنية السياسية العراقية؛ فمنذ عام 2003م بنت طهران شبكة مُتشعبة من العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وتؤكد زيارات كبار مسؤولي الحرس الثوري، مثل زيارة قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى بغداد في 21 أكتوبر 2025م، مدى تصميم إيران على حماية عمقها الاستراتيجي داخل العراق.

اقتصاديًا، تستفيد إيران من اعتماد العراق على واردات الكهرباء والغاز، إضافة إلى قدرة بغداد على توفير العملة الصعبة (بالنسبة لطهران) للتحايل على العقوبات. أما سياسيًا، تستخدم طهران أدوات عديدة تشمل الإعلام الموالي، وتمويل الحملات الانتخابية، وحشد القواعد الشعبية الشيعية جنوب البلاد. وبالنسبة لإيران، يمثّل العراق ليس فقط حاجزًا أمام الولايات المتحدة، بل قناة حيوية للالتفاف على العقوبات وتعزيز مكانتها داخل شبكات نفوذها الإقليمي.

وعمومًا، لا تمنح «الروابط العميقة» التي تتحدث عنها طهران، ولا «الشراكة المشروطة» التي تعتمد عليها واشنطن، أي ضمانة للعراق بالاستقرار طويل الأمد. إلا أن ما يمكن لبغداد أن تسعى إليه واقعيًا هو نوع من «التوازن المدروس» الذي يحوّل نقاط ضعفها البنيوية إلى مصدر نفوذ إستراتيجي. فالعراق، الواقع بين ضغطين كبيرين، قد يجد أفضل وسائل الدفاع في عدم اختيار طرف على حساب الآخر، بل عبر ترتيب التزاماته بدقة تسمح له بإبقاء الطرفين منخرطين، وكبح ضغوطهما المتزايدة، وتحويل النقاش من معادلة «البقاء السياسي» إلى مسار «الحكم الفعّال».

ويبدو أن مشروع السوداني السياسي، يهدف إلى إعادة التوازن بين النفوذين الخارجيين من خلال تعزيز مؤسسات الدولة، وتحسين الخدمات، وخفض الاعتماد على الفصائل المسلحة. وتُشير نتائجه الانتخابية إلى أنَّ شريحةً واسعةً من العراقيين تؤيد هذا النهج، وإن كان تطبيقه محفوفًا بالعقبات. ومع ذلك، تُشكل انتخابات 2025م نقطة تحول حاسمة، فإذا تمكن السوداني من تحويل زخمه الانتخابي إلى برنامج حكومي متماسك ومستقل عن التأثيرات الخارجية، قد يخطو العراق خطوة مهمة نحو السيادة الحقيقية. وتُظهر نتائج الانتخابات أن جزءًا من العراقيين يطمح إلى الاستقرار الاقتصادي والابتعاد عن الأجندة الأيديولوجية والأمنية التي تفرضها طهران. ويبقى السؤال ما إذا كان بالإمكان ترجمة هذا الطموح إلى واقع سياسي دائم، وهو ما ستكشفه مفاوضات تشكيل الحكومة المقبلة. ما هو مؤكدٌ أنَّ العراق لا يزال عند مفترق طرق، وأن نجاحه في صياغة مسار ثالث-إذا استمر-يمكن أن يُعيد رسم مستقبله ويعيد توازن القوى في الشرق الأوسط.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير